نهضت باكرًا واتجهت صوب ابنتها الكبرى بانفعال تسألها عن الوصفة التي أحضرتها منذ أسبوع، فأشارت إلى درج الخزانة العتيقة التي في غرفتها، فردَّت عليها بعصبية: ليست هناك فقد بحثت عنها وإلا كيف أسألك؟ انهضي فورًا وابحثي عنها سأحملها معي اليوم، أما أخوك فحضري له أي شيء على الغداء؛ لأن عودتي للمنزل ستكون متأخرة.
نهضت البنت واتجهت مباشرة إلى أخيها تسأله عن الوصفة وهو شبه نائم، عين مغلقة والأخرى تكاد تكون مفتوحة، فأيقضته وهي ترجه وتسأله: أين هي وصفة أمي؟ فردَّ عليها بغباء أي وصفة لم أرها؟!
فقالت: الوصفة التي أحضرتها أمي منذ أسبوع !
فقال: آهٍ أعتقد أنني مزقتها عن طريق الخطأ !
انتاب البنت دواراً كاد أن يسقطها أرضًا، فمدَّت يدها لفمه وأغلقته وأشارت له بأنه اليوم سوف يكون عبرة في البيت، وفجأة أشفقت عليه وأوصته أنه لو سألته فيقول لها أنه لم يرها وفقط.
وما هي إلا لحظات وتدخل الأم وتسأل مجددًا عن الوصفة فيردان في الوقت نفسه: لم نرها يا أمي! حينها هدأت وأيقنت أنها لن تراها مرة أخرى وأن أحدهما أضاعها، ولكن ولأنها لا تملك دليلاً على ردهما فقد آثرت الصمت.
بعدها اتجهت إلى المطبخ وشربت قهوتها بسرعة وغادرت دون أن تنطق ببِنْتُ شَفَةٍ، وهي عند سلم العمارة أخرجت ما في حقيبتها وتفحصته، وأخرجت وصفة قديمة وهي تحدث نفسها سأحمل هذه معي اليوم مع أنني استعملتها منذ شهرين، فلا بد أن أتجه إلى الناحية الأخرى للمدينة فلم أزرها منذ مدة.
ركبت صديقتنا الحافلة وما هي إلا ربع ساعة ونزلت عند المحطة، التفتت يمينًا وشمالاً وأحكمت قبضتها على حقيبتها، فهي أثمن شيء لديها حتى أكثر من ولديها!
لكن دعونا نعود للوراء قليلاً لنتعرَّف عليها، فهي أرملة منذ مدة ليست بالبعيدة، وبالرغم من أنها تتقاضى منحة الأرامل إلا أنها بوفاة زوجها اكتسبت عادة سيئة سنتعرف عليها في سردنا للأحداث.
عرجت صديقتنا على مغازة كبيرة واتجهت صوب المحاسب وأرته الوصفة، لكن دعونا نتوقف هنا لبرهة فصديقتنا قد غيرت هندامها عند إحدى صديقاتها أو بالأحرى صديقة المهنة، وارتدت ملابس رثة لتكمل مهمتها على أكمل وجه.
ناولت صاحب المغازة الوصفة وهي تردد عبارات التوسل من أجل أن يمنحها نقودًا. أعتقد أن الصورة بدأت تتضح أو أنها اتضحت فعلاً، فصديقتنا تتاجر بالوصفات الطبية بمعية طبيب تاجر يمتهن تجارة تحرير الوصفات الطبية لزبائن من صنف آخر، يتجهون بها لجمع الأموال وإيهام الناس أنهم بصدد إجراء عملية جراحية أو شراء دواء غالي الثمن.
صديقتنا بحوزتها العديد من الوصفات، وهي بمثابة منجم من الذهب فكلما كانت تحمل وصفات أكثر ازدادت انتعاشًا، كمنجم الذهب كلما تعمق المُنَقِبُ في الحفر داخله فإن فرصة الحصول على المزيد، وكل وصفة تستهلك أسبوعًا كاملاً من الوقت تجول بها عديد الأماكن، بعدها تأتي بأخرى وهكذا.. كل واحدة وقيمتها النقدية وكل منها تحمل علَّة ما عافانا اللَّه يا رب.
في الواقع إن الموضوع الذي تعمدت طرحه اليوم ليس بالجديد عن مجتمعنا، فهو ضارب أَطْنَابَهُ في العمق، ومع ذلك فهو من الطابوهات والمسكوت عنه، ربما للصورة النمطية التي تسكن مخيلتنا عن الطبيب، أو للصفة الملائكية التي يحملها أو هذا ما نعتقده عبر العديد من الأزمنة، وهو الذي لا يمت للرحمة والرأفة بصلة، طبعًا نحن لا نُعمم الظاهرة لكن مع ذلك فقد تَغَوَّلَتْ وأصبحت تخيف كثيرًا.
ولا شك في أن من يقوم بهذه الأعمال لا يملك سوى تلك الشهادة والتي لا نعلم كيف حصل عليها، لكن أكيد أن اليوم الذي كان يقوم فيه بقراءة القسم المهني كان خاطره يجول بعيدًا عن ما سيضيفه للمهنة.
إن قصة الأرملة التي استهلت بها قصتي لم تكن هي غايتي، لكن ولأني أدرك جيدًا أنها هي من ستقودني لذلك السمسار وهو ما حدث فعلاً، إنها ومن على شاكلتها لو لم يجدن من يجاريهن في فعلتهن لما ازدهرت هذه التجارة العفنة تجارة طالت رائحتها المجتمع كله، أين أصبح الطبيب يحرر الوصفات ليقتات منها..
في الواقع هذا الطبيب لم يأتِ من كوكب آخر، فهو ابن المجتمع الذي تربى داخله، وتعلم في مدارسه، وتخرج من جامعاته ومعاهده، وعليه فإن المجتمع يتحمل برأي الوزر الكبير؛ لأنه لم يحسن صناعة إنسان مستقيم.
إن هذا الطبيب بفعلته هذه يكون قد أحيا العديد من الآفات الاجتماعية بدءًا من استغلال الوظيفة، التسول والاتكالية، الكذب والنصب والاحتيال، والأهم من ذلك تلك المروءة التي غابت عن الساحة.
ومع كل هذا فإن الطبيب الأمين، الذي يعشق مهنته ويسعى لممارستها على أكمل وجه وبما يرضي المولى عز وجل لا يزال موجوداً، ويسعى لأن يُعطي صورة مضيئة حول مهنته النبيلة، فنراه يولي أهمية بالغة للمريض أكثر من ثمن الوصفة التي يحررها، فهذا الطبيب نحييه ونرفع له القبعة، فنرى أن اللَّه تعالى يُنير بصيرته ويزيده من فضله، فكم من مرة كان فيها الطبيب العام هو من يُحسن التشخيص للمريض أكثر من ذلك الذي يملك ترسانة من أجهزة وعتاد يملأ به عيادته، وفي النهاية يمتصه كما تمتص النحلة رحيق الزهر على الأقل هذا المخلوق الرائع والعجيب يعطينا ما هو شفاء للناس، يقول المولى عز وجل في كتابه الحكيم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" الأنفال: 27
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.