قصة "الهزيمة".. قصص قصيرة

كان أبو ناصر رجلاً شديد البأس، فارع القامة، عريض المنكبين، مفتول العضلات، وكان في بداية العقد الرابع من العمر، أسمر الوجه، كث الشوارب، حليق الذقن، لم يره أحدٌ إلاَّ هابه، فيكفي أن تنظر إليه النظرة الأولى لكي تعلم بأنك تقف أمام رجل لا يستهان به، بل أمام رجلٍ رهيب.

ولعلَّ مهابته قد يسَّرت له حياته إلى حدٍّ بعيد، فمن ذا الذي يجرؤ أن يدخل معه في خصام، ومن ذا الذي يستطيع أن يثبّت عينيه في عيني أبي ناصر ويتحدَّاه!؟

كان من الواضح تمامًا بأن أبا ناصر قديرٌ إلى الحد الذي يستطيع به أن يحسم أي شجار بنفس السهولة التي يحكّ بها أنفه، وكان من الواضح بأنه قادرٌ على سحق أي خَصْم قبل أن يعرف ذلك الخَصْم ما الذي يحدث

هذا تمامًا ما حدث مع غطاس، الشاب المغرور، الذي سولت له نفسه أن يقف على فرن القرية ويتحدَّى أبا ناصر أمام الناس، فما كان من الأخير إلا أن صفعه صفعةً واحدة جعلت غطاس يدور ثلاث دوراتٍ حول نفسه بعكس اتجاه عقارب الساعة، الأمر الذي اضطر معه أربعة رجال أن يحملوا غطاس إلى منزله بعد أن سقط مغشيًّا عليه.

لم تكن حادثة غطاس هي الحادثة الوحيدة في حياة أبي ناصر، ففي حياته الكثير من الحوادث التي قهر فيها بقوته وجبروته رجالاً أشداء، الأمر الذي خلق لدى أبي ناصر شعورًا بأنه الرجل الأقوى في العالم، وجعله معتدًا بنفسه إلى حدٍّ لا يطاق.

ولكن في جميع الأحوال يبقى أبو ناصر مجرّد ظاهرة من مظاهر الطبيعة، وهذه الطبيعة تحب التوازن فإنها كلما أوجدت قويًّا لا بد لها من وجود قويٍّ مثله يكون له ندًّا.

ربما كان هذا هو المبرر الطبيعي لوجود أبي محمد الرجل القوي، الذي لا تقل قوته عن قوة أبي ناصر وكأنهما منحوتان من صخرةٍ واحدة

كانا متشابهين في كل شيء، في مقاسات أجسامهم وأطوالهم وفي حجم جماجمهم

ولكن القاسم المشترك الأكبر بينهما هو شراهتهما بالتدخين فإذا اتفق وأن كانا يقفان معًا يدخنان فإنهما أشبه بمصنعين ينفثان دخانهما في الجو.

وإذا كانا يمشيان معًا ويدخنان فإنهما أشبه بقطارين يسيران على سكتين متوازيتين ينفثان دخانهما الذي لا ينقطع كل الطريق.

وفي الحقيقة كان الرجلان يتجنبان اللقاء ببعض، ولا يفضلان أن يرى أحدًا منهما الآخر، ففي داخل كل واحد منهما شعورٌ بأنه العدو الطبيعي للآخر

ولكن سوء طالعهما كان يجبرهما غالبًا على اللقاء على نحو متكرر، لا بل إنهما تشاحنا في أكثر من موقف، فقد كانا يتجاوران في حقلين لهما بجانب بعضهما البعض

طبعًا لم يكونا سعيدين لهذا الجوار، ولكنها كانت حالة مفروضة عليهما فرضًا، فقد ورثا هذين الحقلين عن آبائهما.

ولأن الطبيعة تحب أحيانًا أن تضرب أقطابها ببعضها البعض، ربما لكي ترى الشرر كيف سيتطاير من احتكاكهما أو لكي تفتعل بعض الحرائق لكي تراقبها من كثب أو لكي تعيد التوازن لنفسها وتصحح خللاً ما

من أجل ذلك ربما، وقع المحظور، وما كان أبو ناصر وأبو محمد يتجنبانه منذ سنوات قد وقع أخيرًا، عندما كان كل واحدٍ منهما يعمل في حقله، فنشب بينهما خلافٌ مجهول السبب، ربما كان خلافًا على حدود الأرض أو خلافًا على مسألة زراعية لا قيمة لها، فعندما يطل رأس الشر لا تعود للأسباب أهمية تذكر وعندما تستيقظ الفتنة فإنها سوف تأخذ مداها إلى أبعد حدٍّ ممكن

وهكذا كان اشتباك أبا ناصر مع أبا محمد، فقد مال أحدهما على الآخر كما ينهار جبلان على بعضهما البعض

أو كما تصطدم دبابةٌ بأخرى، ولكي تكتمل درامية هذا المشهد فقد كانت جميع الحقول المحيطة بهم خالية من أصحابها، فلم يكن من يفك هذا الاشتباك، ولم يكن من يشهد هذه المعركة سوى الصخور والأشجار المحيطة

من أجل ذلك، لم يعرف أحد بالوقت الذي قضاه هذان الرجلان في العراك، ولأن الحسم النهائي لم يكن واردًا بالنظر إلى قوة الرجلين، فقد قرر كلاهما إنهاء هذا العراك على صيغة لا غالب ولا مغلوب.

وانسحب كل واحد منهما إلى حقله ليستعيد في ذهنه أحداث المعركة وكم ضربة سدد لخصمه، وكم ضربة تلقى منه.

فأوى أبو محمد إلى ظل شجرة ينفث دخانه ويحمّل زفراته كل غضبه

وكذلك فعل أبا ناصر ومد يده إلى جيبه يتحسس علبة سجائره، وعندما لم يجدها وأيقن بأنه لن يجدها لأنه نسيها في منزله، والقرية بعيدة جدًا ولا يستطيع أن يذهب الآن كي لا يظن أبا محمد بأنه هرب من أمامه..

"انسَ الموضوع.. لا تفكر بالسجائر

حاول أبو ناصر إقناع نفسه..

"هل يعرف هذا الوغد بأنني نسيت سجائري في البيت؟

قال أبو ناصر مخاطباً نفسه عندما اعتقد أن أبا محمد يدخن تحت شجرته نكايةً به.

"لم أعد أحتمل.. أريد سيجارة بأي ثمن.. لو أن جذع هذه التينة سيجارة لدخنته كله ولم أبقي منه شيئاً".

صعد أبا ناصر إلى أعلى صخرة في حقله ينظر لعله يرى أحدًا في حقله ليقترض منه سيجارة أو اثنتين ولكنه لم يجد، كأن الكون كله قد أقفر،  وكأنه لم يعد أحد سواه هو وعدوه على سطح هذا الكوكب

"إنه يشعل السيجارة تلو السيجارة.. هل يتقصّد إغاظتي هذا الوغد؟ هل يتلذذ لأنني مقطوع من السجائر؟".

"لم أعُد أستطيع الاحتمال، ولا أستطيع الاحتمال حتى أصل إلى القرية يجب أن أدخن الآن؟"

"هل أذهب إليه وأقتله وآخذ كل سجائره وأدخنها كلها فوق جثته؟ أم أذهب إليه وأطلب منه سيجارة؟"

"كيف سأقتله؟ ليس بحوزتي أي سلاح كما أنه جالس في مكانٍ مكشوف أي إن التسلل إليه وقتله خلسةً مستحيل، كما أنني لا أستطيع قتله وجهًا لوجه، لقد كان شديد المراس في العراك".

دارت كل هذه الأفكار في رأس أبي ناصر بينما كانت عيناه تزوغان وحلقه يجف ورأسه يعصف ولم يعُد في ذهنه أي فكرة، كانت الفكرة الوحيدة هي أنه يجب أن يدخن.

فعندما وقف على قدميه لم يكن عقله هو الذي أمره أن يقف وعندما مشى باتجاه أبي محمد لم يكن عقله هو الذي يقوده، بل إن رغبته وحاجته إلى التدخين هما من قادتاه.

وقف قبالة أبي محمد الذي تأهب ظنًا منه أن الرجل قد عاد من أجل استئناف القتال.

ولكن الرجل ما زال جامدًا في مكانه وترك مسافة خمسة أمتار بينهما فقال له أبو محمد بضراوةماذا تريد؟ 

فقال له أبو ناصرأريد سيجارة.

ولأن أبا محمد خبيث الطوية فقد ابتسم ابتسامة المنتصر الخبيث وأمسك بعلبة سجائر بقي فيها سيجارة أو اثنتان ثم رماها بعيدًا على الأرض، رماها كذلك لكي يمعن في إذلال خصمه ويستمتع برؤيته مكسورًا من أجل سيجارة.

ربما يكون أبا ناصر قد فهم قصده وربما لم يفهم أيضًا ولكن ذلك غير مهم، المهم هو أنه طأطأ رأسه إلى الأرض وذهب لكي يلتقط العلبة التي رماها له خصمه

التقطها وأخرج منها سيجارة وأصابعه ترتجف وأشعلها على الفور وأخذ منها نفسًا عميقًا جعله يشعر بالارتواء، وبأن صوابه قد عاد إليه، نظر نظرةً خاطفة إلى خصمه الشامت وهز رأسه هزة لا معنى لها ثم نظر إلى الأرض وعاد إلى حقله يجر انكساره، شعر بأن الأشجار والصخور أيضاً ينظرون إليه، شعر بأنه يحسد هذه الصخور لأنها ثابتة وليس لديها أرجلٌ لكي تمشي، وليس لديها حاجات تجعلها تذل نفسها من أجل الحصول عليها

"يا ليتني كنت صخرة"..

قال ذلك ثم جلس في حقله تحت شجرة يدخن ويفكر، نظر إلى حقارة شكل السيجارة ووضاعتها في كفّه وبين أصابعه الضخمة:

"لدي من الرجولة ما يكفي لتحطيم 50 رأسًا، ليتني أمتلك الشجاعة لتحطيم هذه السيجارة، ليتني أستطيع سحقها".

قال ذلك وهو يكز على أسنانه والدخان يخرج من أنفه ويتسلل عبر شاربيه.

حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق وعلى إجازة في المحاماة من نقابة المحامين في الجمهورية العربية السورية مهتم بالأدب وبشكل خاص الرواية والقصة القصيرة

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
سبتمبر 30, 2023, 7:48 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
سبتمبر 29, 2023, 12:10 م - عيسى رضوان حمود
سبتمبر 29, 2023, 8:09 ص - عبير احمد الرمحي
سبتمبر 28, 2023, 11:12 ص - جينا فاروق توما
سبتمبر 28, 2023, 9:26 ص - مني حسن عبد الرسول
سبتمبر 27, 2023, 7:17 م - محمد جاد المولى
سبتمبر 27, 2023, 2:43 م - صفاء السماء
سبتمبر 27, 2023, 2:30 م - أحمد سامى محمد الجمل
سبتمبر 27, 2023, 1:58 م - زينب هلال
سبتمبر 27, 2023, 1:17 م - نادية مصطفى حسن
سبتمبر 26, 2023, 9:05 ص - زينب هلال
سبتمبر 26, 2023, 6:35 ص - جلال ناجي حسن
سبتمبر 25, 2023, 2:52 م - جينا فاروق توما
سبتمبر 25, 2023, 8:55 ص - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 24, 2023, 7:04 م - أسماء خشبة
سبتمبر 24, 2023, 11:40 ص - حسن محمد قايد
سبتمبر 24, 2023, 6:14 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 23, 2023, 2:32 م - بومالة مليسا
سبتمبر 23, 2023, 2:19 م - بومالة مليسا
سبتمبر 23, 2023, 11:08 ص - مدبولي ماهر مدبولي
سبتمبر 23, 2023, 10:50 ص - مدبولي ماهر مدبولي
سبتمبر 23, 2023, 9:11 ص - سهيلة يحيى زكريا
سبتمبر 23, 2023, 6:46 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
سبتمبر 21, 2023, 5:25 م - ليلى امير
سبتمبر 21, 2023, 1:47 م - أنس بنشواف
سبتمبر 21, 2023, 12:47 م - إياس فرحان الخطيب
سبتمبر 21, 2023, 12:26 م - آسيا نذير القصير
سبتمبر 21, 2023, 11:21 ص - زينب علي محمد
سبتمبر 21, 2023, 8:50 ص - وليد فتح الله صادق احمد
سبتمبر 21, 2023, 8:11 ص - أمل محمود قشوع
سبتمبر 21, 2023, 7:44 ص - سحر حسين احمد
سبتمبر 21, 2023, 7:37 ص - خلود محمد معتوق محمد
سبتمبر 20, 2023, 8:18 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 20, 2023, 6:20 ص - زينب هلال
سبتمبر 18, 2023, 4:01 م - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 18, 2023, 2:57 م - بوعمرة نوال
سبتمبر 18, 2023, 8:23 ص - زينب هلال
سبتمبر 18, 2023, 7:21 ص - سومر محمد زرقا
سبتمبر 18, 2023, 6:20 ص - زينب هلال
سبتمبر 17, 2023, 4:00 م - عبدالرحمن أحمد عبدربه الصغير
سبتمبر 17, 2023, 9:58 ص - وصال وداعه علي
سبتمبر 17, 2023, 6:26 ص - مني حسن عبد الرسول
سبتمبر 16, 2023, 1:31 م - ميساء محمد ديب وهبة
سبتمبر 15, 2023, 12:45 م - سهيلة يحيى زكريا
سبتمبر 14, 2023, 9:01 ص - صفاء السماء
سبتمبر 14, 2023, 8:40 ص - شروق محمود محمد علي
سبتمبر 14, 2023, 7:03 ص - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 14, 2023, 6:14 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 13, 2023, 6:44 م - صفاء السماء
سبتمبر 13, 2023, 5:36 م - صفاء السماء
سبتمبر 13, 2023, 9:27 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 13, 2023, 7:25 ص - مني حسن عبد الرسول
سبتمبر 13, 2023, 6:19 ص - حسام عبدالله الساحلي
سبتمبر 13, 2023, 5:55 ص - ياسين مسيق
سبتمبر 12, 2023, 5:52 م - صفاء السماء
سبتمبر 12, 2023, 5:13 م - صفاء السماء
سبتمبر 12, 2023, 2:19 م - حنين عبد السلام حجازي
سبتمبر 12, 2023, 8:05 ص - ميساء محمد ديب وهبة
سبتمبر 12, 2023, 6:47 ص - رايا بهاء الدين البيك
سبتمبر 11, 2023, 7:36 م - صفاء السماء
سبتمبر 11, 2023, 2:57 م - مبدوع جمال هند
سبتمبر 11, 2023, 10:04 ص - محمود سلامه الهايشه
سبتمبر 11, 2023, 8:51 ص - صفاء السماء
سبتمبر 11, 2023, 7:07 ص - مصطفى جاد ابو العز
سبتمبر 11, 2023, 6:24 ص - سهيلة يحيى زكريا
سبتمبر 11, 2023, 5:09 ص - أنس بنشواف
سبتمبر 10, 2023, 10:54 ص - التجاني حمد
سبتمبر 10, 2023, 9:44 ص - أسماء خشبة
سبتمبر 10, 2023, 9:19 ص - شادى محمد نجيب
سبتمبر 9, 2023, 8:54 م - محمود سلامه الهايشه
سبتمبر 9, 2023, 1:14 م - هشام بوطيب
سبتمبر 9, 2023, 11:14 ص - صفاء السماء
سبتمبر 9, 2023, 11:10 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 9, 2023, 9:51 ص - وصال وداعه علي
سبتمبر 9, 2023, 8:12 ص - بومالة مليسا
سبتمبر 9, 2023, 8:12 ص - مدبولي ماهر مدبولي
سبتمبر 7, 2023, 6:48 م - بومالة مليسا
نبذة عن الكاتب

حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق وعلى إجازة في المحاماة من نقابة المحامين في الجمهورية العربية السورية مهتم بالأدب وبشكل خاص الرواية والقصة القصيرة