نهضت باكرًا لتعد الفطور كعادتها ووضعت الإبريق على نار هادئة لحين توقظ زوجها، أطلت على غرفة الأبناء ووجدت لا يزالون نيامًا فالوقت مبكرًا، أما الزوج فلأنه يعمل بعيدًا عن المدينة فهو مضطر لأن ينهض ساعة قبل موعد عمله.
نهض وأرتدى ملابسه تناول الفطور وغادر، أما هي فقد كانت قد أعطته قائمة المشتريات ليقتنيها وهو عائد من العمل.
هي امرأة ربة بيت مثابرة ومجتهدة لديها مستوى تعليمي لا بأس به لكنها تعمل على تثقيف نفسها من حين لآخر بكتب ومراجع أبنائها، وتتبادل معهم أطراف الحديث في شتى المجالات.
صديقتنا هذه لديها عادة، وسوف نستشف منها أعظم عبرة، ولأن المقصود ليس ما تقوم به أو ما تفعله، فإن الدرس سوف يكون من أعظم دروس الحياة.
عادة صديقتنا هي جلوسها وراء النافذة حين تنهي عملها البيتي، ولأن أولادها في سن التمدرس، فهي تبقى بمفردها في البيت، أما النافذة فهي بمنزلة عالمها الذي تنظر منه، وعلى الرغم من أن الشارع الذي تقطن به قليل الحركة لكن هذا لا يمنع أن تحدث به بعض المواقف.
وتمر الأيام ويأتي أحدهم بفرسه التي ترافقه في جولاته فهو مدرب خيل كان قد علَّم فرسه بعض الحركات التي يجتمع حولها الناس، فتدر عليه بعض المال من المارة والفضوليين والمعجبون، فهذه هي مهنته.
أما فرسه ولأنها للاستعراض فهو يضع عليها سرجًا منمقًا ومزينًا بالخيوط المزركشة لتلفت الانتباه، ومكوثه بالمدينة قد يستغرق بعض الأسابيع وأحيانًا أكثر.
تفقد صاحبنا فرسه يومًا فلم يجدها، فبدأ بالبحث عنها ليسأل كل من يصادفه أمامه لكن دون جدوى، حتى إنه بدأ يفقد الأمل في العثور عليها، لكنه لمح شيخًا يجلس أمام بيته فقرر أن يسأله، فتقدم منه وبادره بالسؤال.
المعذرة أريد أن أسألك إن كنت قد لمحت فرسًا في هذه النواحي؟
لم أرها لكنني أستطيع أن أدلك على من يكون قد لمحها.
أرأيت ذلك المنزل اسأل أهله، ربما لديهم الجواب الشافي.
لكن المنزل يبدو مهجورًا حتى نوافذه موصدة كيف تقول ذلك؟
خذ بنصيحتي فقط ولا تتسرع.
لكن صاحب الفرس لم يذهب مباشرة إلى المنزل ليطرق بابه مخافة الإحراج، أو قد يكسر حرمة المنزل، فاإهتدى إلى وسيلة، وهي من الأمور المحببة التي نراها قد اختفت الآن، فقد أرسل طفلًا يلعب بالشارع إلى المنزل المقصود وطلب منه أن يسأل أهل بيته عن الفرس.
حين اقترب الطفل من الباب بدأ بطرقه، فسألت صديقتنا عن الطارق فبادرها بالسؤال إن كانت قد رأت فرسًا تمر من أمام البيت، فأجابته على الفور إن كانت الفرس التي تضع الخيوط المزركشة وذات السرج الذهبي فهي قد مرت منذ ساعات قليلة من أمام بيتها باتجاه اليمين.
عاد الطفل مسرعًا للرجل وأخبره بما قالته المرأة فشكره، وذهب باتجاه المكان الذي دلّته عليه، وما إلا لحظات ويجد فرسه رابضة أمام شجرة يبدو أنها تاهت ولم تستطع العودة إلى صاحبها، فحمد اللَّه تعالى.
لكن أسئلة عدّة صعدت إلى رأسه، وأهمها كيف للشيخ أن يعلم بأن أهل بيت ذلك المنزل هي من لديها الجواب على تساؤله؟ وكيف وكيف؟
فعاد بأدراجه إلى الشيخ وسأله كيف له أن يؤكد أن أهل البيت هم من عندهم الجواب مع علمه أن المنزل نوافذه مغلقة ومن يراه يعتقد أنه ليس به قاطنين.
فرد عليه الشيخ برد قد يسمعه أول مرة وهو أن المظاهر تخدع أحيانًا، وأن ما يراه المرء ليس دائمًا هو الواقع، ولأنه يقلل من شأن بعض الأمور ويستهين بها.
إن قصتنا اليوم هي عبرة ذات مغزى لكل إنسان يستهزئ ويقلل من شأن أخيه أو حتى نفسه، فيعتقد بأنه وحده من يعلم كل شيء، فتراه يتباهى بنفسه إلى حد الغرور، لكن لو نسأل ذلك الشخص البسيط والمتواضع نرى أنه يحمل من كنوز المعرفة ما لا تجده عند غيره، كالمثل القائل: (يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر) فلا تستهن بقدرات أخيك، فقد يكون أفضل منك.
فصديقنا صاحب الفرس لم يعتقد أبدًا أن من سيدله على فرسه هي امرأة ماكثة بالبيت، لا تكاد تخرج إلا لحاجة ولأنه لا يملك من حكمة الشيخ فقد فاته ذلك.
ونحن أيضًا نكون أحيانًا كصاحب الفرس لا ندرك أن الحقيقة تكون في تلك التفاصيل الصغيرة وليس الكل، فنبحث عنها وعن ذواتنا فنجدها أمامنا وبين أعيننا لكننا لا ندرك ذلك.
وهذا يقودنا أيضًا إلى من يبخس قدر نفسه ولا يعطيها مكانتها الحقيقية فتراه يجلد نفسه فتثبط عزيمته وتوهن، ولا يسترجعها إلا حين يقرر نفض الغبار عنها، غبار الحوارات التي تدور داخله التي يحدث بها نفسه بسلبية.
وصديقتنا لم تكتف بأن تكون ربة بيت فقط بل تطلعت إلى كتب ومراجع أبنائها لكي تجاريهم وتدخل معهم في نقاشات لتفيد وتستفيد، ولكي تغذي تلك الروح العطشة التي هي أسمى عنصر في الإنسان، فهي التي تسمو به عاليًا لتجعله يبصر ما لا تبصره العين.
إن النافذة التي تطل عليها صديقتنا هي رمز المعرفة التي جعلتها ضالتها، وهي العلم الذي تبغيه وتسعى إليه حين تجالس أبناءها، وتنتهل من مراجعهم وكتبهم، إضافة إلى تقوى اللَّه الذي تنتهجه في بيتها ومع أسرتها.
حقيقة إن المعرفة توصلنا إلى الحكمة وهذه الأخيرة تقودنا إلى معرفة اللَّه.
وإن من أعظم نعم الله التي سخرها لعباده لهي نعمة العلم ونعمة الدين وهما متلازمان، فإن العلم مع حسن القصد هما من يقودان المؤمن إلى الصراط المستقيم.
ولذة العلم هي من أعظم اللذات، ومن ذاق حلاوة العلم وتمتع بلذته فإنه لا يستغني عنه أبدًا، فحري بمن رزق هذه النعمة أن يدعو بالشكر والزيادة؛ لأن من أراد اللَّه به خيرًا وفقه إلى علم نافع يُحي به قلبه وينير بصيرته.
قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} المجادلة 11.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.