المهزوم هو إنسان تعرَّض في وقت من الأوقات لاضطهاد أو قهر وتسلُّط وطُبِقَت عليه قسوة الحياة فانهدم من الداخل، كحال من تربى في أسرةٍ الأب والأم فيها قساة أجلاف، أو كالسجين الذي يقبع في السجن لوقتٍ طويل ويخضع لمراقبة دائمة وأوامر متتالية، فيتم إخضاعه وتطويعه فيصبح أقرب إلى الحيوان المروض، ويفقد الكثير من حريته وكرامته وإنسانيته.
وحتى لو خرج من السجن إن لم يخضع لإعادة تأهيل سيبقى يعيش في ذلك الحال الذي ألفه في السجن من عبودية وطاعة أوامر واسترقاق.
وما ينطبق على الأشخاص ينطبق على الشعوب كلها، فالحاكم الظالم الذي يحكم شعبه بالقسوة والظلم والقهر في الدول الشمولية إذا ما طال عهده يصبح كل شعبه مدجن، ويغدو الرهاب هو القاعدة في حياة الشعب؛ فالكل يخاف من أجهزة القمع والإرهاب وينسى الشعب الحرية، بل يصبح مصطلح الحرية غريبًا عليه حتى تغدو الحرية غير مرحبٍ بها في ذلك المجتمع..
إذ إن المجتمع يبدأ ينظر إلى الحرية على أنها فوضى حينما يصبح القمع هو القاعدة والإرهاب هو السائد.
والمُلفت للنظر في تلك المجتمعات أنه حتى لو خرج الفرد منه إلى مجتمع آخر حرًا ومختلفًا، فسيبقى يحمل معه هذا الكم من الرهاب المغروس بداخله لوقت طويل، وربما لا يزول عنه هذا إذا لم يشتغل على نفسه بعلاجها لاستئصال ذلك الرعب المخزن في الذاكرة.
ذات يوم كنا مجموعة من الشبان غادرنا بلدنا نحو بلد عربي نفطي بقصد العمل، وتأمين حياة أكثر رفاه لنا، ورزق أكثر وفرة.
وهناك حيث تعرَّفنا إلى بعض الأصدقاء، كان أحدهم يملك سيارة بيجو ستيشن بيضاء، وهذه السيارة معروفة في سورية حكرًا على عناصر الأمن العام، فإذا شاهدت سيارة في كل أنحاء سورية فلا بد أنها لدورية أمن عام.
كنا نسير ذات يوم على الطريق العام للبلدة عائدين من عملنا إلى البيت فمرت بجانبنا سيارة بيجو ستيشن بيضاء وتوقفت بسرعة أمامنا وعلى بعد أمتار قليلة نزل منها ثلاثة أشخاص، وبدأوا بالصراخ قف.. قف وبحالة اللاوعي تسمرنا في مكاننا، ووقفنا مشدوهين لا ندري ماذا نفعل..
ويبدو أن صورة سيارة الأمن المغروسة في ذاكرتنا رجعت إلينا لنظن أننا في هذه اللحظة من الزمن أننا في سورية، وبدت على وجوهنا علامات الرعب والحيرة والقلق، ولولا أن الشبان الثلاثة مزجوا صيحاتهم بالضحكات لما كنا ندري ما الذي يدور حولنا.
ولبرهة صحونا نحن لسنا في سورية، وهؤلاء ليسوا أمنًا، والسيارة ليست للأمن العام.. بعد هذا الفصل من الرعب قالوا هيا بنا نوصلكم للبيت بعد أن أخفناكم وما عادت أرجلكم تحملكم.
كانت لحظات اختلط بها الضحك مع التعجب لما تحتوي دواخلنا من رهاب يعشش فيها وتراكم من صور شتى من رهاب لا يزال عالقًا في ذاكرتنا جميعًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.