أنا المهرج الحكيم، هكذا نعتني كثير من الأهل والأصدقاء وزملائي في العمل، فقد كنت كثير الضحك والمزاح، كنت مرحًا ومحبوبًا من الجميع، أهلي وأقاربي وأصحابي، ولا أحمل همَّ غدٍ، وكنت عقلاني التفكير شديد الحكمة، وصائب الرأي في كثير من المواقف التي مرت بي في حياتي.
بعد وفاة أبي وأمي قررت ألا أستسلم للأحزان، فقد علمني أبي كثيرًا من الخصال الطيبة، مثل: الطموح والتفاؤل وبشاشة الوجه، وأن كل شيء بقدر الله وحكمته.
علمتني أمي حب الناس ومدّ يد المساعدة للجميع، والتدبّر والتّفكّر والتّمهّل قبل اتخاذ القرار أو إبداء الرأي، أنعم الله علي بكل شيء جميل، علمني والدي، وربتني أمي، أحبني الجميع، كنت ناجحًا في عملي، ميسور الحال.
أبدأ يومي بصلاتي، ثم رحلتي إلى عملي التي تبدأ بالاستماع إلى أصوات الجيران من الشرفات، وشجارهم بسبب المشكلات اليومية الحياتية، وأمضي وأستكمل تلك الحكايا مع أناس ألتقيهم في وسيلة مواصلات عامة، إلى أن أصل إلى مقر عملي، لأشارك الحديث نفسه مع زملائي، ونناقش متطلبات الحياة اليومية من مأكل ومشرب وغيرها من المشكلات، أستمع إليهم تارة وأشاركهم الرأي تارة، وأمزح معهم تارة أخرى، وأعود فأسأل نفسي: هل هذه هي الحياة، شجار دائم في البيت والمواصلات والعمل؟ هل خلقنا الله لهذا الشجار، أم يوجد لكل منا مهمات، ورسالة يؤديها بأمر من الله؟
وإذا كان لكل منا رسالة خلق لأجلها، فأين رسالتي؟ هل كل مهمتي المزاح والضحك فقط؟ لا أظن، نصحني كثير من أصدقائي بالزواج، ونصحني منهم بالتفكير ألف مرة قبل الزواج، ومنهم من نصحني بألا أتزوج أبدًا، وعادةً ما كنت أمزح معهم في ذلك الحوار.
يمر يوم العمل وأعود لحياتي اليومية الفارغة من أي التزامات، إلا أني كنت أذهب لزيارة أختي الوحيدة؛ لأستمع إلى تلك المشكلات، وأحاول المساعدة على نحو لائق حتى لا أسبب حرجًا لهم، هذه الأخت الوحيدة التي كانت تشد من أزري بحنانها، مثل أم تخاف على ولدها، رغم أني أكبرها سنًّا، بدأت المفارقة في حياتي حينما أتاني صديق وطلب الحديث معي خارج العمل، رحبت به، وقلت في نفسي قد يحتاج إلى بعض المال أو المساعدة، وجلسنا وتناولنا غداءنا في وقت الراحة بأحد المطاعم العامة المجاورة لمقر عملنا، وهو لا يتكلم.
بادرته بالحديث قائلًا: طلبتني لنتحدث، لكنك لم تتفوه بكلمة، ولم تتناول غداءك مثلما يجب، ما بك يا صديقي؟ ابتسم ابتسامة المكسور، قائلًا: أما آن لك يا صديقي أن تتزوج؟ أحسست أنه توجد فتاة يريد أن يزوجني بها، قد تكون أخته أو ما شابه ذلك، وفاتها قطار الزواج.
كنت كثيرًا ما أمزح في هذا الحوار، لكن كيف لي أن أمزح الآن، وهو في تلك الحالة الحرجة، شيء داخلي جعلني أسأله، هل لديك عروس لي؟ نظر إلي وقد رأيت لمعة الدمع في عينه قائلًا: نعم. ثم نظر إلى يمينه وكأنه يخفي الدمع عن عيني، لا أعلم حينها لماذا سألته: هل لي أن أراها؟ أجابني: نعم، وقت ما تشاء، ويكون اللقاء عندي بالبيت، دون تردد قلت: غدًا مساء إن شاء الله.
عدنا من غدائنا لاستكمال العمل، وكنت حريصًا على معرفة عنوان منزله، فأنا لم أزره من قبل، انتهى يوم العمل ورجعت إلى بيتي أفكر في الأمر، وأتساءل لماذا لم أرفض، أو أمزح مثلما رفضت من قبل مع غيره؟ لماذا طوعت لي نفسي هذه المرة القبول؟ وجلست طيلة الوقت ألوم نفسي عما بدر مني، وكيف أتزوج لمجرد إرضاء زميل لي؟ لن أذهب، وسأعتذر منه.
وفي اليوم التالي، لم يأتِ هو إلى العمل، ما جعلني في حيرةٍ طيلة اليوم، وفي انشغال وتفكير وتردد بين ذهابي إلى الموعد أو الاعتذار، ذهبت إلى بيتي بعد انتهاء الدوام، تهيأت في أبهى صورة وذهبت إلى العنوان المحدد في الموعد المتفق عليه، كان زميلي في استقبالي، وقد أعد لي عشاء فاخرًا، وحينما انتهينا من تناول العشاء، طلب لنا القهوة وجلسنا في الصالون، وتفاجأت بقطعة من ضوء القمر تقتربُ وتحمل بيديها فنجانين من القهوة، التي لم أتذوق مثلها يوما قط، ولم أزل أنظر إليها حتى انصرفت.
سألني صديقي حينما لاحظ اهتمامي بالنظر إليها، وهو في حالة من التماسك، هل أعجبتك؟
قلت دون تردد: نعم، إنها حقًّا فائقة الجمال، أهي أختك؟
قال: بل هي زوجتي.
جلست وفي وجهي حمرة الكسوف والخجل من الموقف، وتأسفت إليه وقدمت اعتذاري له، ولم أجد ما أتقدم به من الاعتذارات لصديقي الذي قاطعني قائلًا: لا عليك، واهدأ قليلًا واسمعني جيّدًا، هي زوجتي وأريدك أن تتزوجها.
هنا انتفضت من مكاني واقفًا متسائلًا: ماذا؟ وكيف؟ أتيت بي إلى هنا لتهزأ بي؟
كان في شدة الهدوء والصمت، أجلسني ثانيةً وطلب مني أن أستمع إليه، وأخذ يحكي لي قائلًا: أنا مريض، وحالتي تتأخر يومًا بعد يوم، والموت سيأتي لا محالة بعد علاج دام أكثر من عامين ونصف، دون جدوى، وحرصًا مني على ابنتي الصغيرتين وزوجتي قررت أن أختار لها زوجًا بنفسي، حتى إذا توفاني الله كانت أسرتي في مأمن من ذل السؤال، وإني استخرت الله فلم أجد خيرًا منك أنت أيها المهرج الحكيم، فهل تقبل هذه المسؤولية كرامةً لتلك الأسرة؟
نظرت إليه في ذهول محاولًا أن أطمئنه، وقلت: يا صديقي الأعمار بيد الله، ثق بربك ولا تجزع، فكم من مريض شافاه الله وكم من معافى مات في ريعان شبابه، المرض ليس رمانة ميزان الموت، أدام الله عليك صحتك، وبارك لك في عمرك، وأسعدك بحب عائلتك وسعادتها.
وهنا دخلت علينا زوجته حزينة الوجه، وجلست بجواره وضمته ضمة الأم لابنها، والدمع في عينيها، وهي تقول له: أأنت أحن علينا من الله؟ كن مؤمنًا بالله، أتزوجني وأنت على قيد الحياة؟ تحرر الزوج من تماسكه وانفجر باكيًا وهي تشد على يديه وتضم رأسه إليها، وتقول: لا والله، لن أتخلى عنك أبدًا.
حاول صديقي التماسك من جديد، ونظر إليّ سائلًا: هل تستطيع أن تحمل هم هذه الأسرة على عاتقك؟ وأشار بيده نحوي قبل أن أتكلم قائلًا: لا أريد منك ردًّا الآن، فكّر في الأمر جيّدًا.
طال الحديث بيننا وانصرفت وأنا في شدة الحيرة، وﻻ سيما أن زميلي أخذ مني وزوجته وعدًا بالزواج إذا قدر الله له الموت، وزادت حيرتي أكثر حينما علمت منه أن زوجته مريضة قلب.
وبعد مدة لم تتجاوز الشهر مات صديقي يأسًا، وانتهت شهور العدة، وتقدمت لها ولم ترفض تنفيذًا لرغبة زوجها المتوفى، على أن تكون علاقتنا سطحية، وافقتها وتزوجنا، فكانت خير زوجة وخير أم، وكنت لها بعد الله سندٌ ومعين.
أحببتها بجنون واحترمتني كثيرًا عندما رأتني ملتزمًا بعهدي معها في زواجنا السطحي، أحببت بنتيها الصغيرتين جدًّا، وتعلقت بهما تعلقًا شديدًا، وتعلقتا بي كثيرًا كأني أبوهما، عشت عامًا لا أعلم كيف أصفه، فكل يومٍ قصة منفصلة ممتلئة بالأحداث.
وتمرالأيام ويزداد مرض ضوء القمر، هكذا كنت أناديها، زوجتي التي لم أمسسها يومًا قط رغم شدة جمالها، نزولًا عند رغبتها وولائها لزوجها المتوفى.
وماتت بعد عام من زواجنا، وتركت لي بنتين تعلقت بهما حبًّا، ربيتهما وأحسنت رعايتهما، لم أحس بضيق أو ضجر منهما قط، ومرت السنوات ولم أفكر أبدًا في الزواج بأخرى، فكنت أستعين بأختي التي تعبت كثيرًا معي في رعاية تلك اليتيمتين.
واليوم أجلس أروي هذه القصة، وتجلس الكبرى على يميني مع زوجها، والثانية تجلس على يساري وما زالت تستكمل دراستها الجامعية، هذه أسرتي التي أنعم الله علي بها، ساقني القدر لرسالتي التي كنت أبحث عنها، أعانني الله عليها فأدّيتُها، تعلمت منها أن الحب والعطاء هبة من الله، وليس من مكتسبات الحياة، تعلمت منها الصبر على ملذات الدنيا، وتذوقت حلاوة ولذة كفالة اليتيم، وإذا أديت على مسرح الحياة دور المهرج، فلا بد أن أكون المهرج الحكيم.
سبتمبر 1, 2023, 6:23 م
اعجبتني كثيرا ..
انا من اشد المتابعين وانتظر المزيد
سبتمبر 4, 2023, 3:42 م
الله الله الله
قصة روائية درامية من التراث
واقعية لدرجعة اني سرحت واستمتعت بكل كلمة فيها وشاهد النشاهد انام عيني من شدة اتقان الكلام
محتاجة تكون اطول من كدة لنستمتع اكثر
ويسلام لو سناريست محترم يترجم القصة الي حوار
ويتعمل مسلسل درامي ذات عشرة حلقات
اتمني من الكاتب الاستمرار وكل الدعم مني الية في القادم
سبتمبر 6, 2023, 3:46 م
انت مبدع بجد القصة تخطت كلمة جميلة ، استمر 💗
سبتمبر 14, 2023, 9:19 ص
كل قصه اجمل من اللى قبلها كالعاده يارب الاستمرار الدائم ف النجاح والإبداع يا اسطوره ♥️♥️
سبتمبر 17, 2023, 5:36 ص
حبيبى ذو الذوق الرفيع
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.