القلوب الرحيمة تُغير الأقدار:
سافر الأولاد وكنتُ قد أخذت التأشيرة وقلت سألحق بهم بعد أسبوع..
وسبعة أيام نراها قليلة لكنها كانت كفيلة أن تنقلب فيها الأمور، وتتبعثر فيها الترتيبات، وتتباعد فيها الآمال، وتُنسف فيها كل الخطط، وتتغير فيها المسارات، وتتجهم فيها البسمات والضحكات..
وبقدر اللهفة على أن تنقضي تلك الأيام لنعود إلى الأهل بعد سنوات عدة فإذا بك تنأى عنهم فراسخ وأزمان.
ما كدت أنطلق بسيارتي من أحد الشوارع حتى خرجت طفلة صغيرة مسرعة من بين السيارات المصطفة لتنطلق إلى أهلها في الجهة الأخرى وقد ارتطمت رأسها بزجاج السيارة الذي تهشم.. فأوقفت السيارة ولا أدري ماذا حدث وتجمدت فترة أسرح بخيالي هل البنت تحت العجلات! هل ماتت!
ومر الشريط سريعًا.. سبعة أيام.. ستمتد إلى ما لا نعلم.. التأشيرة التي تزين فرحة اللقاء المنتظر باهتة لا قيمة لها.
أياديك الممتدة لتلامس أيادي أولادك الممتدة تتباعد.
ستهدم الإجراءات المنتظرة كل بناء بنيناه في خيالنا.
كيف سيكون الفكاك؟
نزلت من السيارة وأنا أنادي يا رب.. يا رب.. فوجدت عجبًا.. البنت حية في حضن أمها في الجهة الأخرى.. لقد قامت وعبرت الطريق.. تبكي وهي تهدهدها وتمسح دموعها.
اقتربت منها لأطمئن أن رأسها مكانها ولم تتهشم وعدت إلى السيارة لأركنها بعيدًا عن منتصف الطريق فصرخ أخاها قائلا: "وين رايح"
وهيأت نفسي لانتظار شرطة المرور، لا بد من الكشف على البنت، هل أصابها ارتجاج، هل ستعيش..
حتى انبعثت كلمات الأم الرحيمة في الأجواء تحمل الفرج والفرح.. توكل على الله.
الله يستر عليك.
هل ما أسمعه حقيقي أم أمنيات ينقلها الهواء؟
بكاء البنت لم ينقطع بعد...
أذعن الابن الهائج لكلمات أمه.
أنطق الله الأم بتلك الكلمات..
هل تيقنت أن الخطأ منها أن تركتها وحدها تعبر الطريق فألجمت نفسها قول الحق؟
هل قرأت معي شريط خيالاتي فأشفقت فتعاطفت فعفت؟
أم تخطت هي بخيالها لترى من ينتظرونني على لهف خلف البحر وهم شاحبة وجوههم مرتجفة قلوبهم فرقٓت لهم..
وبرزت التأشيرة زاهية متلألئة ثانية بعد أن توقفت الحياة دهرًا كاملاً وامتدت أيادينا التي تدلت لتتشابك من جديد فوق ضفاف النهر ونُسرج في عروقنا المواقد التي تذيب دماءنا التي تجمدت لتنطلق من فوهة ألسنتنا دفقات الحمد والشكر والثناء وأسماع السماء تلاحقنا.
تلك القلوب الرحيمة تغير موازين وتُحيي أمم.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.