جلستُ على المقعد الحجري في محطة المعمورة أنتظر قطار أبي قير. كنتُ شاردًا أفكر في نعم الله عليَّ، إذ أقضي كل صيف أمام شاطئ البحر هاربًا من قيظ أسوان الذي لا يُطاق في أشهر الصيف، وأُمَنّي نفسي بقضاء وقت ممتع مع وجبة السمك المشوي هذه التي أحرص عليها كل سبت، موعد السوق الأسبوعي في المعمورة البلد.
لفت انتباهي شيء ما، ولكن انجرافي خلف فكرتي ظل يزيح هذا الخاطر بعيدًا، حتى إذا ما انقطع حبل أفكاري انتبهت فجأة على نظافة محطة المعمورة اللافت.
سرعان ما تبينتُ أن هذا كان خاطري المفقود، ركزّتُ بصري التي بدأ ينتابه الوهن، فوجدت عامل النظافة يكنس ما بين القضبان ويكاد يفلّي تراب الأرض فلا يترك به زُبَيْلة.
لقد جلّت النظافة جمال لون التراب الداكن، وبدت المحطة في ثوب أنيق ما بين الرصيف والقضبان، وأضفَت النسمة الباردة الآتية من البحر القريب مسحة شاعرية على الجلسة فوددت ألا يأتي قطار أبي قير الآن.
نظرت إلى لفة السمك إلى جانبي، ثم جُلتُ ببصري على ركاب الرصيف المقابل، ثم انتابتني بعض أضغاث الفكر لأنتبه مجددًا على عامل النظافة وقد أصبح بمحاذاتي يعمل بجد، ولفت انتباهي تركيزه الشديد في انتقاء الزبالات وكأنه طبيب يجري عملية جراحية.
نظرت إلى رصيف المحطة من أوله لآخره، لا يقل عن مائتي 200 مترٍ، يا لها من مسافة طويلة أظنه لن ينهيَها.
كان رجلاً خمسينيًّا تبدو على وجهه تقاسيم الرضا. سبحان الله... أعرف أن رواتبهم ضئيلة، فمن أين جاء هذا الرجل بهذه العزيمة وأنّى له هذا الاستمتاع؟ ثم خطر ببالي أن عسى أن يكون ذلك خوفًا من الملاحظ الذي يمر خلسةً على المحطات، ويحرر مخالفات للمقصرين... ربما.
وفجأة ترك عامل النظافة مكنسته واقترب من ركاب الرصيف المقابل رافعا صوته: "حد ضاع منه حاجة يا حضرات؟ حاجة ذهب". وأخذ يكرر إعلانه راجعًا إلى حيث بدأ الكنس.
قد لا تكون صاحبة القطعة الذهبية المفقودة من ضمن هؤلاء الركاب. صدح الظهر بالآذان بينما بدا قطاري داخلاً المحطة.
كنتُ أرجو معرفة مصير القطعة الذهبية الضائعة، ولكن كان عليَّ أن أدرك صلاة الظهر في أبي قير لأكمل جدول أعمالي لليوم.
كانت زيارة ضرورية لطبيب الأسنان هي آخر ما بجدول أعمالي من مهام.
بعد صلاة العشاء بحوالي ساعة ونصف كنت قد وصلت إلى عيادة الدكتورة، قالوا هي الأفضل في ما بين المندرة وأبي قير، كانت عيادة صغيرة وأنيقة، وكنتُ السادس في الدور من بين المرضى.
وبينما انشغلتُ بترتيب ما سأقوله للدكتورة كي تعطيَني مستندات معتمدة أتمكن بها من صرف قيمة العلاج من مصلحتي الحكومية، إذ لفت انتباهي شيء ما.
شردتُ قليلاً في ما يتعلق بالكلفة العالية لإصلاح الأسنان التالفة. انتهت أفكاري بسرعة لأطوف ببصري عبر المرضى في العيادة. نعم إنه هو، ذات الوجه...عامل النظافة الذي رأيته في الصباح كان من ضمن المنتظرين. ما شاء الله.. يبدو أن لديه القدرة المادية على علاج أسنانه في عياداتٍ خاصة.
الحقُّ أنّ ما قيل عن براعة الدكتورة كان في محله. لقد قمتُ راضيًا عن الجلسة.
ضربتْ الدكتورةُ الجرس إيذانًا بدخول المريض التالي بينما جلستْ إلى مكتبها تكتبُ لي روشتة العلاج.
حدثتُ نفسي: يا رب تكون روشتة رخيصة.. كانت تنطق أسماء الدواء ثم تشرح دواعي استعماله في نبرة حانية فخمة.
أخذت روشتتي وهممتُ بالانصراف بينما فُتِحَ الباب ودخل عامل النظافة.
تنحيتُ جانبًا موسعًا له الطريق بينما قامت الدكتورة لاستقباله قائلة في نبرة حانية شفوقة: أهلاً بابا... تعالَ.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.