في ليلة خريفية حالكة السواد، كانت السماء مكتظة بغيوم كثيفة كأنها ستسقط على الأرض في أي لحظة.
الرياح تعصف بين الأشجار العارية، في حين تملأ الرطوبة أجواء بلدة "السحاب الرمادي" التي تُعرف بغموضها وصمتها الدائم.
في تلك الليلة كان كل شيء يلوح بالهدوء الغريب، ولكن شيئًا غير مألوف كان يختبئ في تفاصيلها، كأنه سر مدفون ينتظر أن يُكتشف.
اقرأ أيضًا قصة "هلوسة على مشارف النعاس".. قصة تأملية
في تلك البلدة، كان هناك منزل قديم يقف وحيدًا عند أطراف الغابة، عُرف منذ سنوات طويلة بأنه "بيت الضباب".
كان مهجورًا، إلا من الأساطير التي تدور حوله. قيل إن أصواتًا غامضة تُسمع منه عند منتصف الليل، وأن هناك من رأى أضواءً غريبة تُشعل وتنطفئ من دون سبب، وأن شيئًا غير مفسر يجذب كل من يقترب منه.
وصل إلى البلدة رجل يدعى "إياد"، غريب، لا يعرفه أحد، ولم يُرَ وجهه من قبل. كان يبدو أنيقًا، هادئًا، ومع ذلك كانت عيناه تحملان نظرة حذرة وفضولية.
تقدم إلى سكان البلدة وسأل عن "بيت الضباب"، وأخبرهم بأنه سمع عن الأساطير المحيطة به وجاء ليكتشف حقيقته.
تردد الأهالي في الحديث، بعضهم ابتعد فورًا، والبعض الآخر حذره بصوت خافت من الاقتراب من البيت. ولكن إياد لم يُظهر خوفًا، بل بدا عازمًا أكثر على المضي قدمًا.
في الليلة التالية، حمل إياد فانوسًا وخرج متجهًا نحو البيت الذي بدا كأنه كتلة من الظلام تغمرها غيوم الضباب.
عند اقترابه، شعر ببرودة غير مألوفة، وبرائحة عتيقة كأنها تأتي من عصور قديمة.
دخل البيت بخطى حذرة، كانت الأرضية تصدر صريرًا تحت قدميه، والجدران تحمل بقايا لوحات متآكلة ومرايا مغبرة كأنها شهدت أحداثًا غامضة عبر الزمن.
بدأ يمعن النظر في التفاصيل، إلا أن شيئًا ما شد انتباهه فجأة: خريطة قديمة مرسومة على جدار مغطى بالرماد، وقد كُتب عليها عبارات غامضة بخط باهت، ومنها عبارة "لن يصل إلى السر إلا من كان مستعدًا للتضحية".
تابع إياد استكشاف المنزل، وفي أثناء سيره، عثر على صندوق صغير قديم مغلق بأقفال صدئة.
حاول فتحه، ولكن شيئًا بدا كأنما يمنعه، وكأنه توجد قوى خفية تتحكم به. تابع رحلته داخل المنزل، وفي كل غرفة وجد ألغازًا مكتوبة بلغة رمزية، كانت أقرب إلى طلاسم تستدعي التفكير العميق.
وبينما كان يجمع القرائن ويحاول فك الرموز، بدأت الأحداث تصبح أكثر غرابة؛ الأبواب تُغلق وتُفتح وحدها، والأصوات تزداد وضوحًا، كأنما أحدهم يهمس له باسمه من خلف الجدران.
لم يكن يخاف، بل ازداد شغفًا، كأنما البيت يحمل شيئًا يسعى لأن يكتشفه.
اقرأ أيضًا رواية "الطريق".. روايات رعب
بعد ساعات من الترقب والبحث، وصل إياد إلى قبو مظلم، يملأه الصمت والسكون المخيف.
هناك وجد جدارًا مخفيًا خلف رف من الكتب القديمة. عندما أزال الرف، اكتشف نفقًا ضيقًا يقود إلى ما يشبه الكهف.
ومع كل خطوة كان يتقدم بها، ازداد فضوله، وكان يشعر وكأنه يقترب من شيء عظيم.
في عمق الكهف، عثر على كتاب قديم، مغلف بالجلد، وعليه رمز يشبه الشمس المشوهة.
فتحه ببطء وبدأ في القراءة، فإذا به كتاب يروي قصصًا عن سكان البلدة، وعن أرواح طُردت منها، وعن أسرار دُفنت في أعماق "بيت الضباب".
كانت تلك اللحظة لحظة الكشف، فقد عرف إياد أن الكتاب يتحدث عنه، وأنه جزء من سلسلة غموض مستمرة، وأنه لم يأتِ صدفةً إلى هذا المكان.
كانت النبوءة قديمة، تشير إلى قدوم "الغريب" الذي سيكشف الستار عن أسرار لم يُرد لها أن تُعرف.
وبينما كان يغادر الكهف ببطء، أدرك أن القصة لم تنتهِ بعد، وأنه قد صار جزءًا منها، جزءًا لا مفر منه.
عندما خرج إياد من الكهف، كانت السماء قد بدأت تضيء بأولى خيوط الفجر. ولكنه لم يشعر بالراحة أو الاطمئنان؛ فقد كان يحمل في ذهنه أسئلة لا نهاية لها، ورغبة في معرفة المزيد.
مع كل خطوة يخطوها، كانت الصورة تتضح، لكنه كان يعلم أنه قد غادر شيئًا أكبر من مجرد منزل قديم أو أسطورة.
عاد إلى البلدة، لكن كل شيء كان يبدو مختلفًا. البيوت القديمة التي اعتاد أن يراها، والوجوه التي طالما مر بها، كلها كانت تبدو مألوفة وغريبة في الوقت ذاته. كأنما هو نفسه قد تغير، كأنما روحًا أخرى قد سكنت جسده.
رغم أن كتابه القديم كان يحمل بين طياته كل الإجابات، لكن هناك شيئًا ناقصًا. كان الكتاب يشير إلى "النهاية" لكن النهاية كانت غامضة.
كانت العبارة الأخيرة في الكتاب تقول: "لن تُكمل الرحلة إلا إذا فزت بمعركتك مع نفسك، أما الطريق الذي أمامك فمرصوف بالألغاز، وستكون الإجابة في مكان آخر، حيث ينكسر الزمان".
في اليوم التالي، شعر إياد بأن هناك شيئًا لم يكمله بعد. كان الكتاب قد أخبره عن "مفتاح"، لكن لم يكن هناك أي إشارة واضحة عن مكانه أو عن كيفية الحصول عليه.
فقرر العودة إلى "بيت الضباب" مرة أخرى. دخل مرة أخرى إلى الغرفة التي كانت تحتوي على الخريطة القديمة، ولكنه هذه المرة بدأ يدرك أن المفاتيح الحقيقية التي يحتاج إليها لم تكن مادية، بل كانت مفاتيح داخلية، تتعلق بفهمه لنفسه، ولأسرار أعماقه.
فبدأ يبحث عن نفسه بين السطور الرمزية في الكتاب، بدأ يقرأ كل كلمة وكأنها تحمل إجابة عن أسئلة لم يُجب عليها من قبل.
وفي تلك اللحظة، بدأ يشعر بشيء غريب يحدث له. كانت الغرفة تضيق حوله، وكأن الجدران تضغط عليه، حتى شعر أنه أصبح محاصرًا بين طيات الزمن، بين الماضي والحاضر.
كانت دقات قلبه تتسارع، وعقله يغلي بكل الأفكار المتناثرة، حتى توقفت يداه فجأة على أحد الألغاز في الكتاب.
"أنت مفتاحك"، كان النص مكتوبًا بخط مائل. في تلك اللحظة، شعر بإجابة تسري في عروقه.
كانت المعركة الحقيقية ليست مع البيت، ولا مع الرموز المخبأة، بل كانت مع ذاته، مع صراعاته الداخلية، مع مخاوفه القديمة التي طالما حاول الهروب منها.
في تلك اللحظة، اكتشف إياد أن المفتاح الذي كان يبحث عنه طوال هذا الوقت لم يكن في الكتاب أو في الألغاز، بل كان في نفسه.
لقد كان عليه أن يواجه مخاوفه، أن يعترف بضعفه، أن يقبل تقلبات شخصيته، وأن يتصالح مع ذاته ليحقق السلام الداخلي.
وبينما كان يخرج من "بيت الضباب" للمرة الأخيرة، شعر بأن كل شيء قد تغير. كان يحمل مفتاحًا جديدًا، مفتاحًا لفتح أبواب فكره، وأبواب قلبه.
لقد حارب في معركته الداخلية، وحقق النصر على نفسه، ولأول مرة شعر بالسلام الحقيقي. ولكنه لم يكن يعلم أن كل شيء كان مجرد بداية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.