كان المساء عاديًّا، أو هكذا ظنُّوا. اجتمع الأصدقاء بعد يومٍ طويل من العمل، على أمل قضاء ليلة هادئة ينسون فيها تعبهم. الساحل يبدو هادئًا، والمدينة من خلفهم تغط في صمت مريب.
مع بداية الليل، وبينما كانوا يبحثون عن مكان يؤويهم، قادهم حظهم إلى شقة مهجورة في حيٍّ معزول، على حافة المدينة، في الطابق الرابع. لم يُبالوا كثيرًا بوحشية المكان، ولا للظلال التي كانت تتراقص على الجدران، فقط أرادوا مكانًا يمضون فيه ليلتهم.
بعد أن استقروا، اقترح أحدهم جلب بطيخة تُخفف عنهم حرارة الليلة. خرج بطل القصة مسرعًا ليشتريها، وعندما عاد، كان أحد الأصدقاء قد أشعل سيجارة من الحشيش.
كان ذلك العرض البسيط كافيًا ليغير مسار الليلة بأكملها. أخذ بطل القصة نفسًا من السيجارة، وتبدلت ملامح وجهه في الحال، كأن الدنيا أخذت تتلاشى من حوله.
بدأ يرى المكان بوضوح أكثر، لكن ليس كما عرفه أول مرة. أصدقاؤه ما زالوا حوله، لكن أصواتهم أصبحت بعيدة، وأشكالهم بدت غريبة.
تغيَّرت ملامح وجهه، وأخذت عيناه تلتقطان مشاهد مبهمة، أما عقلُه فقد كان يطفو في عوالم غريبة. بدأ يرى أصدقاءه على هيئة أشباح، نصفهم يضحك بسخرية، والنصف الآخر يراقبه بقلق وخوف.
لم يكن يدرك إن كان هذا وهمًا أم حقيقة، لكنه شعر بأن روحه تُسحب ببطء. كان يتأرجح بين الحياة والموت، وكأن الموت يزوره في لحظة عابرة، ليدرك أول مرة كم هي هشَّة الحياة.
في تلك اللحظات، تذكَّر وجوه أولاده، تذكَّر كيف يركضون نحوه ويبتسمون براءة، وكيف كانت عائلته تنتظره بشوق. سرت في قلبه قشعريرة قاسية، وبدأت تساؤلاته تتفجر: "هل سأتركهم بسبب سيجارة؟ هل هذه النهاية التي أستحقها؟ أن أرحل هكذا، تاركًا زوجتي وأولادي خلفي؟".
وجد نفسه يتنقل بين صور مشوشة، كأنها ألبوم صور من حياته يُقلب أمامه بسرعة لا تسمح له بالتوقف عندها. ذكريات قديمة، وجوه أحبائه، مشاهد من طفولته، حتى اللحظات التي قضاها بصحبة أصدقائه، كلها تتسارع كأنها لقطات فيلم. قلبه ينبض بقوة، وأحس بشيء يخنقه، كأنما هناك سرًّا ثقيلًا يحاول كشفه، لكن لا يدري ما هو.
بينما كان يتأرجح بين الوعي واللاوعي، بدأت تتسلل إليه فكرة غريبة: "ماذا لو كانت هذه نهايتي؟ ماذا لو كنتُ أحيا الآن لحظاتي الأخيرة؟". شعر بقشعريرة تجتاحه، فكَّر في أولاده، وزوجته، وكيف سيتركهم خلفه. ثم أخذت هواجسه تنمو، وصارت أفكاره تقوده إلى مكانٍ أعمق، كأن هناك لغزًا لم يُحل بعد.
كان أصدقاؤه من حوله، لكنه لم يعد يشعر بالأمان بينهم. لم تعد نظراتهم عادية، بل تحولت لابتسامات غامضة ونظراتٍ تحمل شيئًا مريبًا. خُيِّل له أنهم قد يتخلون عنه، بل قد يتركوه في هذا المكان المعزول ويدَّعون أنه رحل عنهم وحده. تساءل في داخله: "هل يمكن أن يتخلوا عني هكذا؟".
ومع كل مشهد يظهر أمامه، كان الصوت الداخلي يكبر، كأنما يخبره أن هناك شيئًا أغفل عنه طوال حياته. كان ضائعًا بين حقيقة مشاعره وظلال المكان، ووسط تلك العوالم التي أخذت تتداخل ببعضها، ظهرت له لحظات من صمته السابق، من أخطائه التي تجاهلها، ومن مشاهد حياته التي لم ينتبه لها.
أدرك أن حياته كانت مليئة بالفوضى، كأنها لغز غير محلول، كل تفاصيله كانت تلمِّح له برسالة لم يفهمها من قبل.
في نهاية تلك الليلة، استيقظ وكأنه خرج من حلم غريب. كان جسده ثقيلًا، وروحه مثقلة بتجربة لم يمر بها من قبل. أفاق وهو يدرك أن الحياة يمكن أن تنتهي في لحظة بسيطة، ومن أسباب تبدو صغيرة وتافهة. خرج من تلك الليلة بقناعة جديدة: أن الإنسان يحتاج أن يتغير للأفضل، أن يختار طرقًا أنقى، وأن يتجنب لحظات التهور التي قد تكلفه حياته.
أدرك أن الموت يمكن أن يأتي في أي لحظة، وبأي سبب، وأن الحياة ثمينة لا تستحق أن تُهدَر على لحظات زائفة.
روعة❤️👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.