قصة «السفر إلى المجهول» (6)

كان أحدُ أصدقاء صالح يعمل في مطعم في حي الميناء، وبجواره مطعم آخر للوجبات الخفيفة يعمل فيه سودانيان، علم صالحُ من صديقه أنَّ أحدهم ترك العمل هناك، وكان عملًا جيدًا راتبه 350 دولارًا وساعات العمل فيه قليلة، فأخبر نبيلًا بهذه الفرصة، وفعلًا ترك نبيلُ العمل في محل الملبوسات دون تردد واستلم عمله الجديد في المطعم.

سكن نبيلُ في حي الميناء لظروف العمل مع مجموعة من الشباب السودانيين الذين كانوا يسكنون في حي الميناء، يعمل نبيل يوميًّا تسع ساعات في عمله الجديد من السادسة صباحًا إلى الثالثة عصرًا، فهذا أفضل مقارنة بالعمل السابق الذي كان دوامه فيه اثنتي عشرة ساعة وراتبه أقل.

اندمج نبيل مع العمل الجديد، ولكنه لم يندمج مع السكن الجديد؛ خاصة وأنَّ الشباب الذين سكن معهم عليهم علامات استفهام كثيرة، وفي الحقيقة أغلب السودانيين الذين يعملون في لبنان عليهم علامات استفهام.

فأغلبهم نسي الهدف الرئيس الذي جاء من أجله وهو تحسين أوضاعهم المادية ومساعدة أهلهم في مواجهة ظروف الحياة، وبعضهم عندما جاء إلى لبنان أُصيب بصدمة كونه كان منضبطًا في بلده وفجأة وجد نفسه في بلد كل شيء فيه متاح ومباح، النساء والخمر والتعري والرقص في الأندية الليلية، فمشطوا شعرهم ولبسوا الضيق.

اقرأ أيضًا: قصة «السفر إلى المجهول» (1)

والقصير واختاروا لهم عشيقات من الحبشيات أو الهنديات أو البنغاليات، وشربوا الخمر وسهروا في الرقص، وبعضهم غيَّر اسمه ليجاري وضعه الجديد، وأغلبهم سافروا إلى لبنان وأعمارهم صغيرة لا تتجاوز السبعة عشر عامًا...

والشباب الذين سكن معهم نبيل كانوا من هذه الفئة التي جرفها تيار الحرية والتحرر من التعاليم الدينية، كلُّ واحد منهم يأتي في آخر اليوم ومعه صديقته لتسهر معه في المنزل جالبًا معه الويسكي والبيرة، وأصبح المنزل مكانًا للرقص والدعارة وشرب الخمر في الوقت نفسه. 

وسط هذا الجو والوضع عاش نبيل مضطرًّا؛ فهو لا يستطيع استئجار منزل لوحده لأنَّ راتبه كاملًا لا يكفي لذلك. في بعض الأوقات يكاد شيطان نبيل يتغلب عليه ليوقعه في هذه المعاصي، ولكنَّه سرعان ما يستجمع قواه ويتعوذ بالله من هذه الفتنة.

في إحدى السهرات العامرة طلب منه أحد شياطين الإنس أن يشرب كأسًا واحدًا لينسيه همومه وأحزانه، ملأ الكأس بالويسكي ومده إلى نبيل.

اقرأ أيضًا: اقرأ أيضًا: قصة «السفر إلى المجهول» (2)

كاد نبيل أن يأخذ الكأس ويتجرعه دفعة واحدة، ولكنَّه استعاذ بالله وقال لهذا الشيطان الإنسي: ولكن ديننا ينهانا عن شرب الخمر. فقال له: اشرب مرة واحدة وبعدها يمكن أن تتوب. فقال له نبيل: فإذا شربت ومِتُّ في هذه اللحظة كيف سيكون حالي مع ربي؟ ضحك صديقه وقال له: يا رجل أنت ما زلت في شبابك، انسَ أمر الموت. فردَّ نبيل بقوله: وهل يعرف الموت صغيرًا أو كبيرًا؟ وانتهت المناظرة بذهاب كل واحد في سبيله.

أصبحت الشقة التي يسكنون بها تعج يوميًّا بالضيوف من الجنسين، موسيقى بصوت مرتفع ورقص وسكر. ظل نبيل يهرب من غرفة إلى غرفة ليبعد عن هذه المعاصي، ولكنَّه كلما دخل غرفة من غرف الشقة وجدها أكثر فسقًا وفسادًا، فينتهي به الأمر أحيانًا بجلوسه خارج الشقة على المدخل حتى أذان الفجر، وأحيانًا تجد نبيل وسيطًا في حل مشكلة حدثت بينهم بسبب إفراطهم في الشرب.

وتتوالى يوميًّا الإغراءات على نبيل ولكنَّه ظلَّ صامدًا متمسكًا بتعاليم دينه، يؤدي صلاته في وقتها، مستنكرًا بلسانه وبقلبه كل ما يخالف تعاليم دينه.

اقرأ أيضًا: قصة «السفر إلى المجهول» (3)

في يوم عادي كغيره من الأيام خرج نبيل مبكرًا إلى عمله، فوجد أحد أقاربه الذي يعمل في بيروت ينتظره في مكان العمل، سلَّم عليه وضيَّفه بفنجان قهوة، وطلب منه أن يذهب إلى المنزل ليرتاح وسيلحق به نهاية الدوام، لكن الضيف رفض وأخبر نبيل أنه جاء في مهمة ويحتاج من نبيل المساعدة. قال له نبيل: تحت أمرك. فذكر له أنَّه جاء لمقابلة خمسة من الأجانب وهم من دولة نيجيريا يريدون أن يذهبوا إلى اليونان عن طريق التهريب.

علم نبيل بعد ذلك أنَّ صديقه هذا يعمل في تهريب الأجانب الذين يرغبون في السفر إلى أوربا عبر طريق سوريا تركيا اليونان. فسأله نبيل عن المطلوب بالضبط فقال له: المطلوب أن تذهب معي لمقابلة هؤلاء الأشخاص لتتحدث معهم؛ فهم لا يعرفون الكلام باللغة العربية، فقط يتحدثون بالإنجليزية، وأنت خريج جامعي وتستطيع التفاهم معهم والاتفاق على تكلفة السفر والتفاصيل الأخرى. 

وافق نبيل على طلب صديقه وذهب معه؛ فهذا التقدير من صديقه لامس وترًا حساسًا في نفس نبيل، خاصة أنَّه ومنذ أن وطئت قدماه أرض لبنان يحس بأنَّه ميت ليس له وجود؛ لأنَّ اللبنانيين يعاملون كل عامل أجنبي كأنَّه آلة فقط تعمل لخدمتهم، إذا حاولت أن تتحدث معهم في السياسة أو الفن أو الرياضة أو في أي مجال ينظرون إليك باستغراب، يعدونك لا تعرف أي شيء في أي شيء، أنت بالنسبة لهم لا شيء.

اقرأ أيضًا: قصة «السفر إلى المجهول» (4)

وبعضهم تتحدث معه أكثر من ساعة بالعربي وفي النهاية يقول لك باحتقار (والله عم تحكي عربي منيح) يحس نبيل بأنَّه خارج العالم ولكنَّه يحلم بأن ينقشع هذا الظلام وتعود حياته من جديد ويلتقي بأهله وأصحابه وأحبابه الذين يقدرونه.

 ذهب نبيل مع صديقه لمقابلة أولئك النفر، ولكن المفاجأة كانت أنَّ صديق نبيل متابع من جهاز الأمن اللبناني، وهم على علم بأنَّه يعمل في التهريب منذ زمن، فقط يريدون القبض عليه بدليل ثابت فنصبوا له هذا الكمين.

وللقصة بقية...

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة