تبادلت مجموعة من الأصدقاء الحديث عن الحب، وفي حين هم يتبادلون أطراف الحديث، برزت أمام أعينهم جزيرة كورسيكا، فقص عليهم أحدهم عن رحلة قام بها لتلك الجزيرة.
في فيلا مُطلة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، اجتمع وقت الغروب بعض الأصدقاء فتحدثوا عن الحب، فطرح أحدهم سؤالًا: هل يمكن لإنسان أن يبقى على حبه مُخلصًا لعدة سنوات؟ فقال البعض: أجل، وقال الباقي: كلا.
بدت لهم جزيرة كورسيكا كلؤلؤة في البحر، فوقفوا مشدوهين من ذلك العالم المجهول، تلك الجزيرة التي يمكن رؤيتها مرتين أو ثلاث في السنة، خاصة حينما ينقشع الضباب البحري.
تكلم أحدهم عن رحلته إلى كورسيكا، فقال: إننا لا نعرف كثيرًا عنها، مع أننا نراها أحيانًا من شاطئ فرنسا كما نراها الآن، الناس هناك ما زالوا على عهد البداوة، فالرجل يعيش هناك في بيته لا يكترث بأي شيء، أما أرضها فعبارة عن جبال تقسمها وديان ضيقة وكتل هائلة من صخور الجرانيت، ولا أشجار إلا أشجار الجوز وغابات الصنوبر، مع ذلك يأتي البعض إليها من حين لآخر، ليس هناك صناعة أو فن، ولا يمكنك أن تعثر فيها على قطعة من خشب منقوش أو حجر محفور مما كان عليه القدماء هناك.
كان كل قصر بإيطاليا يفيض بفنه، بل هي نفسها قطعة من الفن الخالد إذ الرخام والخشب والأحجار، وتشهد أصغر التحف بذلك، إن إيطاليا هي البلاد التي نحبها لأننا نرى فيها الإبداع، وعلى عكسها بقيت كورسيكا.
ظللت أجوب أنحاء تلك الجزيرة الرائعة شهرًا، وكأنني في أقصى المعمورة، فليس بها فنادق أو حانات أو طرقات، يمكنك أن تطرق باب أحدهم وتسأله عن طعام ومأوى فيلبي طلبك.
ذات يوم ذهبت لمنزل بحديقته أشجار الكروم، ففتحت لي الباب امرأة عجوز، بعدها جاء رجل عجوز وحياني دون أن ينطق بكلمة، فقالت المرأة العجوز اعذره فأنه أصم، كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة، فسألتها مُتعجبًا أنتِ لست من كورسيكا، فأجابتني كلا لقد قدمنا من فرنسا منذ خمسين سنة.
فسألتني المرأة العجوز: هل أنت من فرنسا؟
أجل وأقضي عطلتي هنا.
هل قدمت من باريس؟
فصُدِمت حين أجبتُها أني من نانسي.
ثم قالت: إذن فأنت تعرف كثيرين من سكان نانسي.
بالتأكيد كل إنسان فيها.
عائلة سان الأيس.
فقلت لها إني أعرفها تمامًا، كانوا أصدقاء والدي.
فسألتني ما اسمك؟
فأجبتها ونظرت إليَّ نظرة حازمة.
ثم قالت وأسرة بريسيار ما حالها؟
فأخبرتها أنهم ماتوا جميعًا.
وعائلة سيرمونت أتعرفها؟
نعم أعرفها، آخر رجل فيها جنرال.
فهزت رأسها وهي في حزن عميق وقالت أجل هو هنري دي سير مونت أعرفه جيدًا، إنه أخي.
فصعقني قولها، وتذكرت تلك الضجة التي حدثت في الماضي بين الأوساط الراقية في لورين بعد هروب سوزان دي سيرمونت الفتاة الثرية الجميلة التي فرت مع ضابط في اللواء السواري الذي كان يقوده والدها، كان شابًا جميلًا من أصل ريفي وكان أنيقًا وقد أحبته، لكن كيف تعارفا وكيف تمكنا من المقابلة وكيف علم أنها تحبه؟ ذلك ما لم يعرفه أحد أبدًا، وكل ما بعد ذلك إنما عُرِفَ بالتخمين، فبعد أن أنهى خدمته اختفى معها فلم يعرف أحد لهما مقرًا، ولم يصل خبر عنهما لأحد فظن الناس أنها ماتت، والآن قد وجدتها في هذا الوادي، فسألتها أنت الآنسة سوزان؟
فأومأت إيجابًا وظهر الدمع في عينيها ثم نظرت إلى ذلك الرجل العجوز وقالت: هذا هو.
فعرفت عند ذلك أنها لا تزال تحبه، فسألتها: ألم تكوني سعيدة على الأقل؟
فأجابت من أعماق قلبها، كل السعادة، لقد أسعدني كثيرًا، فلم يخطئ ولو لمرة.
فتعجبت من قوة حبها، هذه الفتاة الثرية أحبت هذا الفلاح، بل لقد صارت فلاحة مثله ترتدي ملابس الفلاحات، وارتضت بحياته البعيدة عن الترف، فتأكل في صحن واحد طعامًا هو مزيج من الكرنب والبطاطس ولحم الخنزير المجفف وتنام على حشية من القش بجانبه، ولم تندم على جواهرها التي تركتها وثيابها الجميلة ولذة الراحة على فراش لين، لم تبغِ شيئًا غيره، لقد أتت بمفردها معه إلى ذلك الوادي الموحش.
تركت المنزل في الصباح بعد أن حييت العجوزين، وانتهى الرجل من قصته.
قالت إحدى السيدات: تلك المرأة كان طموحها بسيطًا، فرضيت بالحاجات القليلة، لا بد أنها غبية.
قالت أخرى: ماذا يهم؟ يكفي أنها سعيدة.
مايو 10, 2023, 1:15 م
تنويه : إن ما قرأتموه لا يغني إطلاقاً عن قراءة النص الاصلي للكاتب الفرنسي جي دي موبا سان .
إذا حاز ما كتبناه على إعجابكم فلا تنسوا الإشتراك حتى يتسنى لكم قراءة كل جديد .
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.