الجو ماطر والسوق يغص بالمارة، والفرن كما عهدته منذ ثلاثين عامًا، الازدحام لا ينفك عنه من الصباح حتى وقت الإغلاق عصرًا، ثمة كوتان صغيرتان لا يكاد المرء يرى فيها وجه البائع.
الأيادي مرتفعة نحو الكوة والكل يصيح أعطني خبزًا، من تصل يده ليد البائع ويسلمه ثمن الخبز يكون من المحظوظين، مددتُ يدي أحاول أن أعطيه ثمن الخبز، لم أفلح حاولت ثانية لكن بلا جدوى ، إذ ما زالت الأقدام تتزاحم والأيادي تتعارك لتصل ليد البائع، وبعد أكثر من أربع محاولات استطعت أن أوصل ثمن الخبز ليد البائع.
أصابتني نشوة الانتصار وقد وصَّلت يدي للبائع وسلمته قيمة الخبز، لحظات وأصبح الخبز بين يديَّ بعد أن أعطاني الكيس ووضع الخبز فوقه.
كان الخبز توًا خرج من بيت النار ولا يمكن تحمل حرارته، أمسكت به محاولاً الخروج من بين الزحام والعراك استطعت النفاذ بأعجوبة إلا أن يديَّ احترقتا من البخار المتصاعد من الخبز.
التفتُ أريد مكانًا نظيفًا أضع فيه الخبز الذي حرق يداي، لا مكان أراه، ركضت باتجاه الرصيف المقابل ثمة محل قصاب وآخر بجانبه بقال، رميت الخبز على إحدى طاولات العرض في محل البقالة بلا تردد، ثم إنني نظرتُ تجاه صاحب المحل الذي كان واقفًا ينظر إلى لهفتي وحيرتي، وقلت له معتذرًا آسف لأني لم استأذنه، تبسم في وجهي قائلا: لا بأس.. لا بأس خذ راحتك، الكثيرون يفعلون مثلك لأن حرارة الخبز لا تطاق.
قلت: لو أنهم يخبزون من قبل ويضعون الخبز في أكياس أليس هذا أفضل من هذا العذاب؟ قال: يا أخي لمن تشكي وهذا حالنا منذ عشرات السنين.
ما أثار انتباهي وقرفي أن أحدهم وقد تسلم الخبز مثلي لم يجد ملاذًا سوى دكان القصاب، فرمى بأرغفة الخبز بجانب الباب فإضافة إلى المطر والطين الذي علق بأرغفة الخبز كانت بقايا أرجل المارة وبقايا فتات اللحم والدهن المتطاير من فوق خشبة الفرم، قد علقت أيضًا أجزاء منها في الأرغفة..
منظر يدعو للقرف كيف سيأكل هذا الإنسان وأولاده هذا الخبز! ما الذي سيقوله لأولاده وزوجته إذا سألوه لماذا الخبز عليه آثار طين وماء وأوساخ!
أي لقمة هذه المغمسة بالذل والهوان يأكلها هذا الرجل وأولاده، وأي وطن هذا الذي يجعلك تكافح لأجل رغيف الخبز ولا يصل لفم أولادك إلا وهو مغمس بالذل والقهر والهوان! أي وطن هذا الذي نعيش فيه..
كنتُ واقفًا أنتظر أرغفة الخبز كي تبرد قليلاً وعيناي ترقب هذه الجموع من العبيد التي قهرها الذل من أجل لقمة العيش.. من قال إن عصر العبودية قد انتهى!
لقد أصبحت شعوب بأكملها عبيدًا، في حين كان في الماضي بعض الأفراد أو مجموعات من المجتمع عبيدًا.. قاتل الله الطغاة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.