دخل يَعرُج وجسمه يرتعش دون توقف، فقيل أنه حلف زورًا وخان الأمانة.
لقد عاش في بيئة قاسية مثل الكثيرين من أقرانه، فكانت البادية التي تربى فيها سجنًا بالنسبة له فهو لم يقرب العلم ولم يلج مدارس، فزاده ذلك قسوة في الملامح والأهم من ذلك فهو ذو قلب غليظ وقاسٍ، فلا تكاد تراه مع أحدهم إلا فيما يخص تجارته التي يمارسها وهي الرعي وتربية المواشي، وبالرغم من المهنة وما تَدُرُّ عليه من علاقات اجتماعية بحكم احتكاكه مع الزبائن ومن يريد أن يتعامل معه لكن نراه دائمًا وحيداً.
أسرته التي ينتمي إليها نسخة منه، فالزوجة لا يكاد يُسْمَعُ لها صوت؛ فقسوته أطبقت على فمها، فهي ترى فقط بالعين، وحتى لو أزعجها أمر ما فلا تستطيع أن تعقِّب أو تبدي رأيها، أما الأبناء فحدث ولا حرج فهو يجتهد أيما اجتهاد لكي يصبحوا نسخة منه لأنه يرى أن رقة القلب لا مكان لها في بيئته.
مسكين صديقنا فهو تائه ولم يجد السبيل، ويعتقد أن الكون يقتصر على البادية التي يسكنها أو الزوجة المقموعة التي يمارس عليها سخطه من الحياة التي يرى أنها لم تمنحه ما أراد، فلطالما أخبر أبناءه أن اللين والسماحة هما ضعف، وأنهم لا بد أن يأخذوا من الحياة ما يريدون ولو بالقوة وعلى حساب الغير.
ومن بين ما كان يدرب عليه أبنائه هو الاحتيال والنصب على الناس، فحين يريد أحدهم شراء أنعام حلوبة يقوم صديقنا بعزلها عن صغارها إلى أن يمتلئ ذلك الضرع بالحليب ليسهل عليه بيعها فنراها تكاد تُهلك من هذا التصرف، وكان يعجِّل ببيع الشاة إن رأى بها علة لكي لا يفقدها ويفقد معها رأس المال.
هو يعتقد أن الحياة هي فقط تلك الماشية التي يتاجر بها، فهو لم يغادر البادية إطلاقًا فكل ما اختبره في حياته لا يتعدى معاملاته التجارية وحياته الأسرية التي لا أحد يتمنى أن يكون في مكانه.
وتمر السنوات وتبدأ ثمار تربيته لأبنائه تؤتي أكلها، فأول ما قاموا به هو إساءتهم المتكررة لوالدتهم فهم يطبقون ما تتلمذوا عليه من الوالد طبعًا، وكيف لا فقد أصبحت لديهم تجارة مستقلة عن والدهم وأي تجارة فهي لم تخرج عن تربية الماشية فبدؤوا يحذون حذوه في كل شيء لا سيما قساوة القلب.
ولأن دوام الحال من المحال ولأن الحياة تعطي من حين لآخر دروسًا، فقد عرفت سُّوقُ الماشية بَوَار وبالتحديد تجارته، فانتكس وأبناؤه شر انتكاسة فجلسوا يومًا ينظرون في أمرهم وخرجوا بحل وهو مغادرة البادية والتوجه نحو المدينة.
لكن حين دخل صديقنا المدينة وجد اختلافًا كبيراً، فالناس قريبون جدًا من بعضهم سواء في أماكن العمل أو في الطرقات فهاله تلك التجمعات التي يراها أينما ولى وجهه، فهم يبدو عليهم اللطافة والكثير من التَّودُّد بينهم، على كل فهو لم يعتد على مثل هذه المظاهر وبالرغم من ذلك فقد احتل مكانة لا بأس بها في غضون أشهر..
وها هو يمارس تجارة بيع البذور والعتاد الفلاحي وكل ما يتعلق بالأرض، لكن هذا الحال لم يدم طويلاً فأبناؤه سرعان ما أبهرتهم أضواء المدينة وملاهيها، فراحوا يعيثون فساداً في أنفسهم وأرواحهم فغابوا عن والدهم جملة واحدة، فوجد نفسه وحيدًا يصارع الأمرين، الأولاد الذين فسدت طبائعهم من جهة والأرباح التي في كل مرة تتناقص من جهة أخرى لأنه أتى بفكر وعقلية مختلفة لم تدر عليه بأي منفعة، ولم يرد التغيير فبقيت عاداته البالية تراوح مكانها.
وسرعان ما انفض من حوله الزبائن الذين تعاملوا معه تجاريًا فقد كان يطفف في الكيل والميزان حين يكيل البذور وما أدراك ما الميزان، وكان يبيعها منتهية الصلاحية على أنها صالحة بعد أن يغير وسمها بتاريخ جديد، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي دخل عليه زبون يريد شراء عتاد فلاحي وكان يحمل هذا الأخير حقيبة جلدية صغيرة بيده، وعند انتهاء معاملته التجارية خرج وترك سهوًا تلك الحقيبة، صديقنا لمحها على الفور فأخذها وخبأها.
بعد برهة لاحظ الزبون أنه فقد ما كان يحمله في يده، فعاد مباشرة إلى المحل يسأل عن ما يخصه، لكن إجابة صديقنا كانت أن أنكر وجودها قبلاً حتى حين بدأ ذلك الزبون يصفها له شكلها ولونها لم تتحرك لصديقنا شعرة من رأسه وكان الإنكار هو رده،
فما كان من المتضرر إلا أن طلب منه أن يحلف، بما أن هذا الأخير لم يكن لديه شاهدا أو حتى بيِّنة، فالقاعدة تقول" البيِّنة على من ادعى واليمين على من أنكر".
حينها وكأن أبواب السماء قد انفتحت لصديقنا فقام بالحلف وبكل بساطة فهو لن يخسر شيئاً، وكأن الأمر هيِّن ولا يدرك أنه ارتكب كبيرة من الكبائر والعياذ بالله، فقد عاش حياة بعيدة عن خالقه ولا يعلم شيئًا عن حلف الزور.
في الواقع هو من اختار هذه الحياة ولم يرد الاقتراب ولو قِيْد أَنْمُلة من الله، فهو يرى بأن الأسلوب الذي يحياه هو من يجلب له السعادة والمال.
ولأن المُلك بيد اللَّه يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء وهو المنتقم الجبار لعباده المظلومين، ونقمته تأتي بسرعة وبغتة لتقتص من كل ظالم، وكل من أعان، وكل من صمت على ظلم ولم ينطق بكلمة حق.
وعليه فقد كان قصاص اللَّه من هذا الرجل هو أن نزع من صحته وراحة باله، فأصابه شلل في جسمه وترك له لسانه سليمًا هذا الأخير الذي شهد به زورًا وخان الأمانة ليبقى عبرة لمن لا يعتبر، لقد كان جاهلاً ومفرطاً في ظلم نفسه.
على فكرة الحقيبة التي كان يحملها الزبون تحوي أموال زكاة أراد إخراجها، فهو من أعيان المدينة واعتاد أن يطهر أمواله وأرباحه التجارية كل عام، فوقعت هذه الزكاة في يد من لا يدرك قيمة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
حقيقة كم لله من لطف خفي، وما أعظم تدبيره، لقد كانت نية الزبون أن يُخرج زكاته وهي عند الله قد احتسبها كذلك، أما صديقنا فتكاثرت آثامه وازدادت من جراء هذه الفعلة المشينة فزادته إرهاقًا، ليقع تحت طائلة العاقبة الأخلاقية التي لا ترحم كل من يتلاعب بنواميس الكون وما وضعه اللَّه تعالى من قوانين على هذه البسيطة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.