في ليلة من ليالي الشتاء، جلس الجد جوار المدفأة بعد أن فرغ من طعام العشاء، فالتف الأحفاد حوله متلهفين لسماع قصة من قصصه، جلسوا القرفصاء ناظرين إليه بإصغاء، حمِد الله فأثنى وعلى المختار صلى.
فقال: يا أحفاد سأحكي لكم قصة حدثت في البلاد.
الجزء الأول: عصمت الطالب
كانت توجد طفلة شديدة العناد، سلوكها معاكس، تخطت عامها الخامس ومع حلول السادس التحقت بإحدى المدارس، لها أخ لطيف نحيف اسمه عفيف يكبرها بعامين، لكنه كفيف، يشاركها الضحك والكلام، ويبتسم لها في غسق الظلام، وتساعده في تناول الطعام، فكانت بذلك تعين والدتها ببعض المهام، إنها عصمت، كُمثرية الوجنات كلثومية الشفاه، عنقاء زرقاء صهباء تظهر عليها ملامح الثراء.
تأرجحت بين الذكر والأنثى، أضحت من الوجهة الشرعية خنثى، تناقل سيرتها العوام، وتجاذبتها وسائل الإعلام، إليكم سرد قصتها من البداية إلى الختام.
أول يوم ذهبت فيه إلى المدرسة بصحبة والدتها زكية، كانت لزي أخيها عفيف مرتدية، فهي شديدة التعلق بملابس الأولاد وارتداء القبعات، وتكِنّ الكراهية لثياب الفتيات.
نظرت إليها السكرتيرة فقالت:
- ما شاء الله! ما اسمك يا بُني؟
ردت بسرعة مقاطعة أمها:
- اسمي عصمت.
دونت اسمها وبياناتها كافة في السجل، وأعطتها المنهج والجداول، ثم انحنت وباست، وقالت:
- نلتقي غدًا الثامنة صباحًا يا عصمت.
ظنتها السكرتيرة ولدًا من الأولاد؛ فشعرها مقصوص، وبيدها لعبة مسدس وإصبعها على الزناد، بقيت زكية صامتة عن الكلام، اكتفت بالابتسام ورد السلام، في أثناء العودة أدخلتها أحد المحالّ وطلبت زي الطالبات.
صاحت عصمت ولاحت، وأصرت على أن تشتري لها بدلة من أحسن البدلات، فهي لا تريد أن ترتدي ملابس البنات، نزولًا عند رغبتها اشترت لها بدلة طالب مع حذاء، وحقيبة باشا من البشوات، تحوي جل الأدوات.
عادا زكية وعصمت إلى البيت، فحكت لوالدها علاء كل ما جرى.
فضحك وتبسم قبل أن يتكلم، وقال:
- دعيها تلبس ما يحلو لها، حتمًا ستكبر وتغير رأيها.
باتت عصمت ليلتها مختلفة عن بقية الليالي، تفكر وتتخيل كيف ستكون عليه الحال.
السابعة والنصف صباحًا، سُمع صوت الباص عند الباب، فأسرعت زكية بإيصال عصمت، وأركبتها مع بقية الطلاب، بنين وبنات من عدة حارات، شاركت زكية السائق التحية، وأعطته بعض النقود إكرامية.
في ساحة المدرسة وقف الوكيل بعد أن قرع الجرس وصاح:
- انتظموا أيها الطلاب في صفوف لأداء طابور الصباح، فكان الطلاب في جهة والطالبات في أخرى.
اتجهت عصمت ووقفت إلى جانب البنين متجاهلة أنها أنثى.
جرت الأناشيد الاعتيادية بصوت الإذاعة المدرسية، ثم توجه الطلاب بقطارات منتظمة إلى الفصول، فدخل الطلاب الجدد الطابق الأول حسب المألوف.
كان المعلم واقفًا إلى جانب الباب، وبادر في تنظيم جلوس الطلاب.
الطالبات في الأمام والطلاب في الخلف حسب المعتاد، لم ترغب عصمت بالجلوس في الخلف، وأصرت على الجلوس في الأمام.
اضطر المعلم إلى تقسيم الفصل إلى شقين بينهما ممر؛ البنات في شق والبنين في الشق الآخر، فأجلس عصمت في مقدمة البنين أمامه فهو في نظر المعلم طالب، لا طالبة.
بهذه الحيلة حُل الإشكال واستمر الحال.
انقضى الفصل الأول، وظهر تفوق عصمت من درجات الجدول، فزادت مكانة عصمت في قلوب المعلمين والمعلمات.
في بداية الفصل الدراسي الثاني كُرم عصمت لأنه طالب مثالي، وتقرر انتخاب رائد للفصل، فكان عصمت مرشح البنين وندى مرشحة البنات.
فاز عصمت بغالب الأصوات، اغتاظت ندى وأضمرت له العداء.
ندى ابنة كبير الجزارين حفيدة عمدة العطارين، دلالها فائق، وكلامها بائق، ولديها سائق.
يقف لقدومها العوام، ويصغي لحديثها الأنام، تستقبلها المعلمات ببشاشة، فريادتها للفصل أمر لا يجوز نقاشه، ترى من حولها خدامًا ليس لهم مقام، تشير إليهم بالسبابة والإبهام.
ترتدي الغرور، وتنتعل الفجور، ترى نفسها مهمة، لكنها تتلعثم في الإجابة وترتعش عند الكتابة؛ هذه هي ندى رائدة الذكاء والمرتبة الأولى.
سؤال كُتب بالطبشور: ما الفرق بين الثدييات والطيور؟
- أجابت ندى: هم جيران سوء.
- قال المعلم: كلام ندى صحيح، وإنما أريد فقط التوضيح.
الثدييات تلد بينما الطيور تبيض.
بتفوق عصمت احتفلت زكية وعلاء، ودعوا الجيران إلى تناول طعام العشاء، أحضر علاء كمية لا بأس بها من أسماك المحار، فهو يعمل صيادًا في البحار، وكان على رأس المدعوين مدير المدرسة والوكيل والسكرتيرة والمعلمون وعدد من الطلاب المتفوقين، زاد غيظ ندى عندما سمعت بما جرى، فحرصت على إظهار الاحترام بينما تكِن الانتقام، فأخذت تدس لعصمت الدسائس وتنشر عليه لدى زميلاتها بعض الوساوس.
استمر عصمت في التفوق في ذات المقام، في كل الصفوف على مدار الخمسة أعوام.
ذات يوم تلصصت ندى، واختلست من حقيبة سهام بعض المساطر والمبراة والأقلام، ووضعتها في حقيبة عصمت في أثناء غيابه في الحمام.
افتقدت سهام أدواتها، وبعد أن تأكدت أبلغت المعلم بتعرض حقيبتها إلى السرقة يعتريها الإحراج.
أمر المعلم الطلاب جميعهم بالوقوف، وطلب من سهام تفتيش جميع الحقائب والأدراج.
أنهت سهام التفتيش ثم جلست، فقالت ندى:
- بقيت حقيبة عصمت.
ترددت سهام، فعصمت في نظرها منزه عن الشبهات.
فطلب منها المعلم نزولًا عند رغبة ندى إتمام البحث عن المسروقات، بقي عصمت صامتًا، بينما تقدمت سهام على خجل، ففتحت حقيبة عصمت بعجل.
فصاحت:
- هذا غير معقول، هذه أدواتي المسروقة...
أصيب الجميع بالذهول، كانت صدمة عصمت كبرى، حاول نفي التهمة عن نفسه دون جدوى.
اعتراه الخجل، وطأطأ رأسه بعد أن وصفوه بالكذاب، رغم ما أبداه من إنكار، فلم يصدقه أحد لا المعلم ولا الطلاب، غادرت عصمت المدرسة مكسورة الجناح.
لزمت غرفتها، وامتنعت عن الطعام وصامت عن الضحك والكلام.
احتارت زكية وعلاء، ولم يجدا تفسيرًا لما جرى، فطلبا من عفيف أن يراوغ عصمت بكلامه الظريف.
بقيت عصمت صامتة تنهمر من عينيها دموع غزيرة، وامتنعت عن الذهاب إلى المدرسة.
ذهبت زكية وقابلت السكرتيرة، فأوصلتها إلى سهام، وطلبت منها أن تشرح لها لب الكلام.
كانت سهام شديدة الإعجاب بعصمت، فطلبت من زكية بإلحاح أن تصطحبها كي تطلب من عصمت السماح.
وصلت سهام، فرثت حالة عصمت، وقالت:
- انس ما جرى وعد إلى المدرسة، وسأخبر الجميع أن من وضع الأدوات في حقيبتك هو أنا.
لم تستطع عصمت أن تضع عينيها في عين سهام، فانهارت بعد أن كانت قد استقامت، رفضت كل المحاولات.
حاورت ذاتها فقالت:
- لم أقبل أن ينظر إليّ كأنثى، بل كرجل راجح ثقيل، كيف لي الآن أن أقبل أن ينظر إليّ أني لص ذليل.
سأختفي عن الأنظار، لن أقبل الاحتقار.
لم يكن أمام والديها من خيار سوى نقلها إلى مدرسة أخرى، وهي في الصف السادس الابتدائي بعد أن سجلاها عادا فلم يجدا عصمت في البيت.
بحثا في كل مكان، سألا عفيف، انقضت ليلة، ليلتان، ثلاث ليال، لا أحد يعرف.
أبلغا الشرطة بفقدانها مع صورة.
مرت الأيام، لم يعثر على خبر، فُقد الأمل واختفى الأثر.
انتاب الطلاب حزنًا تامًا، وتوجهوا باللوم نحو سهام.
فحز في نفسها تأنيب الضمير، فقررت ترك المدرسة دون تفكير، ارتبكت ندى بعد غياب سهام، فذهبت إلى منزلها، وتلطفت لها بطيب الكلام، وأنها تكن لها كل الحب والاحترام، ثم أجهشت بالبكاء واضعة رأسها في حضن سهام، حاولت سهام تهدئتها دون جدوى، نهضت سهام وأغلقت باب الغرفة ثم قالت:
- ما الذي يبكيك يا ندى؟ أنا المذنبة، أنا السبب فيما جرى، هل تتحملين وزر ذنب لم تقترفيه؟
رفعت ندى نظرها إلى سهام وقالت:
- بل أنا السبب يا سهام، أنا من أخذت أدواتك ووضتعها في حقيبة عصمت بدافع الحسد والانتقام، شعرتُ أن عصمت أخذ مقامي، فوجهت نحوه غضبي وانتقامي، وأطلب منكِ أن تبقي هذا الأمر طي الكتمان، ومساعدتي في البحث عن عصمت في كل مكان.
أبدت سهام تعاطفًا تجاه ندى رغم امتعاضها مما بدر منها.
- قالت سهام: أبي ضابط شرطة، سأطلعه على الأمر، وأرى وجهة نظره.
- ردت ندى بتفاؤل: وأنا سوف أجمع مبلغًا من النقود يعيننا على أعمال البحث والتحري بشرط أن نعود إلى الدراسة كأن شيئًا لم يكن.
دخلتا الفصل، فثار غضب حسام، فتهجم على سهام ببعض الكلام، وطلب من ندى مفارقتها، وترك صداقتها لكونها سبب ما جرى.
تحملت سهام الإهانة من حسام، واستلطفته بلين الكلام، وفي الاستراحة بين الحصص انفردت سهام بحسام في الحديقة، وعرضت عليه المساعدة، فهي تعرف أن حسام صديق حميم لعصمت، وكثيرًا ما كانت تراهما يلعبان ويلهوان في حديقة المدرسة، ويتقاذفان الأزهار والورود حتى أضحيا مناط حسد كل حاسد، وضغينة كل حاقد بالإضافة إلى تجاورهما في المقاعد.
وافق حسام بتلهف، فأحضر صورة لعصمت ونشرها في الصحف.
كان حسام يتيم الأم، عانى ظلم خالته كثيرًا، فمعظم الأيام ينام دون طعام، وإذا أراد أن ينام يدس في أذنيه السبابة كي لا يسمع صوت التلفاز وضجيج الكلام، وفي الصباح لا يجد أحدًا في البيت صاحيًا، فيبحث عن فضلات الرغيف الصحيح وبماء الصنبور يبللها ويمضغها ويروح، يعود من المدرسة مرهقًا فلا يجد له في البيت مكانًا، فبمجرد أن يجلس على أحد الكنبات تنهال عليه الأوامر والطلبات.
- خذ الحقيبة يا حسام، واذهب إلى الجزار، وفي أثناء عودتك مرّ على العطار، ثم عرّج على محل الخضار، وفي طريقك أحضر حاجتنا من محلات البهار ثم عد في الحال، بعد أن تأخذ التبغ واليم والزيتون وبعض البرتقال، تذكر الرمان والتوابل والهبهان، وأضف كأسًا جديدًا للمرح والتسلية، واجمع فواتير الجميع وضعها في الطبلية.
رغم هذا كان حسام مواظبًا متفوقًا أنيقًا متألقًا، لم يتأثر بالوسط الذي عاش فيه صباه من اللهو وصخب الحياة.
دارت الأيام، ولم تأت بالقصد والمرام، تغيرت أحوال سهام وندى، وتردت درجاتهما إلى أدنى مستوى، وظهر على ندى ملامح الإرهاق والإعياء.
غرق مركب الصيد الخاص بوالد عصمت بأكمله، فتغيرت أحواله وانقطع دخله.
اختلفت زكية مع صاحبة محل التطريز الذي تعمل فيه، فطردتها فزاد وضعهما سوءًا.
ساءت الظروف، فأودعا عفيف دار المكفوفين، ومضت ثلاث سنين، كانت ندى شاردة باستمرار، فشبح عصمت يراودها ليل نهار، وبمجرد أن تغفو ترى عصمت بصورة امرأة تهجم عليها بمخالب وتغمرها في أحد الآبار.
رسبت ندى في الإعدادية ونجحت سهام.
نشرت الصحف خبر غرق مركب الصيد الخاص بعلاء.
كانت زكية تعثر كل صباح خميس على مبلغ من المال محشور في ثقب الباب يكفي لستر الحال، ظنته من فاعل خير بغية الأجر والثواب.
كانت زكية قد راقبت من الذي يضع مبلغ النقود، فلمحت شابًا ملثمًا يعصرها في الثقب، ثم يعود، فأخفت الأمر عن الأنام، وفي أحد الأيام طرق عصمت الباب، ففتحت زكية، فإذا بعصمت زهية بهية، فصاحت ولاحت:
- علاء، استيقظ، عصمت عادت، عصمت هنا...
نهض علاء مسرعًا غمرته الفرحة، وترجل ثم طلب منهما تحضير أدوات السفر على عجل:
- سننتقل إلى العيش في فيلة على الساحل تطل على مرفأ الصيادين.
استبشر علاء عند سماعه كلمة صيادين، فقال:
- ولماذا نذهب هناك؟
- ردت: سترى ما يسرك يا أبي وتقر به عيناك، أين عفيف؟ أيقظوا الظريف.
فأخبراها بما صار عليه الحال، ومكان وجود عفيف، شدوا الرحال وأخذوا عفيف من دار المكفوفين.
تولى علاء إدارة مرفأ الصيادين، والتف الجميع حوله، فقد كان ذلك من صميم عمله.
سافرت عصمت بعفيف وأجرت له عملية للنظر فعاد إليه البصر.
يتبع…
الجزء الثاني: عصمت الجرسون
وأما قصة عصمت فبعد أن خرجت من الدار، ركبت قطارًا، وهي لا تدري أين تذهب.
في آخر محطة بقيت عصمت بمفردها، نزلت وبقيت تتلفت وتتعجب،
رأت الركاب يصعدون الحافلة، فصعدت، وعلى أحد المقاعد جلست، كثر الزحام، فقالت إحدى النساء:
- يا بُني، هل تسمح بالوقوف كي أجلس، فإني على الوقوف لا أقوى.
فجلستْ، بينما استقام جوارها، وكان يتكئ على كتفها، فتحت حقيبتها، وأعطته بعض قطع الحلوى، فأكل على عجل، فعرفت أنه جائع، فأعطته أخرى.
- سألته: إلى أين أنت ذاهب يا بطل؟
- رد: لا أعلم، غريب أبحث عن عمل.
- أين أمك وأبوك؟
- رد: لا أعلم، هربت من دار الأيتام.
وضعت يدها على بطنه باسترحام:
- إنك جائع، ليس في أحشائك سوى أمعائك.
وقفت الحافلة، فتح الباب، فنزل الركاب، نهضتْ بعد أن خف الزحام، وأمسكت بيد عصمت بإحكام، وأنزلته معها من الحافلة، ودفعت عنه الأجرة، وقالت:
- لا تخف، ستأتي معي، سأعطيك طعامًا، وأساعدك في العثور على عمل.
فرح واستبشر وشعر نحوها بالأمان.
أوصلته إلى مطعم وأجلسته على طاولة، وقالت:
- أحضروا له الأكل الآن.
أجابها الجرسون بالإذعان، فأكل وشرب وحمد الله على ما وهب، ثم وثب يريد أن يذهب، فأخذ بيده الجرسون، وأوصله إليها، فإذا بها قاعدة على درج الحساب، فأجلسته جوارها، واستمرت في عملها، فشاهد عصمت كيف تأخذ الفواتير والحسابات، وتضع الفلوس في درج، وتدخل السندات إحدى الخانات.
ظنه عمال المطعم ابنها أو أحد أقاربها، انقضى النهار، فنظرت إليه فوجدته شديد الانبهار.
- قالت: ما اسمك؟
- رد: عصمت
أفرغت الدرج من المحصول، ووضعت المال في الحقيبة، ثم طلبت العمال، فحضروا حولها، وأعطتهم الإكراميات، وفرزت الأرباح وأخرجت قيمة المشتريات، وأعطتها أحد العمال كي يحضرها في الصباح، أغلقت أبواب المحل، وعلقت حقيبتها على كتفها، وعلى كتفيّ عصمت وضعت يدها ومشًته جوارها.
ضغطت جرس منزلها، ففتحت الباب بنتٌ على رأسها عصاب، وهي في سن الشباب، فدخلا، وقالت:
- جهزي لعصمت الحمام يا مرام.
تبسمت مرام، ومشت برشاقة وخفة كأنها حمامة أوجست في نفس عصمت الخوف والقلق، تأفف وتأرجح وقال:
- لا أريد، أنا يوم أمس اغتسلت في المسبح.
- قالت صاحبة السعادة سعاد: كلامي لا يكرر ولا يعاد.
فأخذت مرام بيده، ونحو الحمام اقتادته، كانت مرام تتفحصه بنظرات إعجاب قبل أن تدخله الحمام، لمحت أذنيه مخرومتين، تبسمت وقالت:
- لماذا خرموا أذنيك يا غلام؟
- رد: بدار الأيتام يضعوا لنا أختامًا كي لا نضيع وسط الزحام.
- ردت باستغراب: أيتام، أي أيتام؟ ما هذا الكلام؟
دخل الحمام، وأغلق الباب بالترباس، وعادت مرام إلى سيدتها مهرولة مذهولة، وقالت مرتبكة:
- رأيت ما راعني، أذنا عصمت مخرومتان، وقد أخبرني أن دار الأيتام يضع على أذنيه الأختام.
- قالت: دعي عنك هذا، وجهزي طعام العشاء.
خرجت عصمت من الحمام بعد أن اغتسلت، وفي الصالون جلست واضعة رجلًا على رجل، وجهزت مرام سفرة الطعام، ونادت سيدتها التي حضرت
وجلست ودعت عصمت، فأجلسته مقابلها على الطاولة، وانصرفت الخادمة مرام، كانت عصمت شديدة الخجل، تأكل بتأنٍ، ولا ترفع نظرها إلا على وجل، وبعد الطعام جلسا في الصالون يتجاذبان أطراف الكلام، فلمحت أذنيه كما أخبرتها مرام، فأعاد عليها الكلام، فاعتقدت صدق مقاله، ثم قالت:
- يا عصمت، اعلم أني وحيدة الزمان، أولادي بالخارج، لا يوجد جانبي سوى أخي المعتوه بركان، سأعدك ابني الأمين المأمون على أن تعمل في مطعمي جرسون، سأدفع لك أجرًا، وأكسب فيك أجرًا، ستكون أمام ناظري، ولن تتخطى الباب، وستسكن هذه الغرفة...
تبسم عصمت، وأبدى رضاه، ثم طلبت منه أن يكتم قصة دار الأيتام، وأن يخبرهم أنه أحد أبناء الجيران، ثم نادت مرام، وطلبت منها تجهيز غرفة عصمت كي ينام.
اصطحبته في الصباح إلى المطعم، وبدأ العمل، فكان نشيطًا مبدعًا ملهمًا أنيق المظهر لطيف النبرة مبتسم الثغر يطوف على الزبائن كظل لا يمل ولا يُكل.
ذات يوم وجدت الخادمة مرام في غرفته عند تنظيفها ما يخص الفتاة دورتها الشهرية، فأوصلت ذلك إلى سيدتها سعاد، فحامت حوله الظنون، وطُلب منه كفالة كونه دون هوية، فكفلته صاحبة المحل، فاستخرج بطاقة شخصية باسم عصمت علاء رشيد فرغلي موهمًا سعاد أنه اسم وهمي.
حظي باحترام صاحبة المطعم بعد أن أبدع في عمله، واستقام، فزاد المحصول عن المعتاد.
بعد أن تضاعف الرواد، وتنوعت أصناف الوجبات، وبقي يفتح معظم الساعات، وأضيفت أجنحة بعضها خاص بالعائلات، وآخر بالحفلات.
كان ذلك من إبداع عصمت واختراعه، ففُتحت أبوابه على مدار الساعة، وكثرت الأرباح، وعمت الزيادة، فدخل عصمت شريكًا لصاحبة السعادة، فأوكلت إليه الإدارة والحسابات بعد أن أخبرها الطبيب بوجود حصاة في إحدى الكليتين، فاقتصر وجودها في المحل على بعض الزيارات، وقد كانت في الستين من عمرها، وتوفي عنها زوجها، لها ولدان وبنت يقيمان في أوروبا، وبقيت مع أخيها مصدر الشر والبلاء.
اعتلت صحتها، فالتحقت بأولادها بأوروبا، واحتاجت إلى المال لإجراء عملية فطلبت من عصمت بيع المطعم، وإرسال ثمنه، فاشترى حصتها برأس ماله.
يتبع…
الجزء الثالث: عصمت سيدة أعمال
تمكن من بيع المطعم بعد أن ظهرت عليه علامات الأنوثة، ولم يعد بمقدورها إخفاؤها تحت الأعطاف، بعد أن تكورت النهود، وتدلت الأرداف، فبرزت للناظر والسامع بعد أن كان يخفى ذلك تحت جاكت واسع.
توارى عصمت فرغلي عن الأنظار، وانقطعت عنه الأخبار بين العباد بعد أن شاع أنه ينوي السفر إلى الخارج لحاقًا بسعاد.
سمحت لشعرها بالتدلي شيئًا فشيئًا حتى انسدل على الأكتاف.
قرأت إعلانًا في صحيفة البلاد عن عرض أسهم شركة صيد بحري للبيع في المزاد، فقررت الحضور وكشف النقاب عن جسدها المستور، ذهبت على الفور إلى محل أزياء، فاشترت أحدث ملابس النساء، وقبل موعد المزاد بعدة أيام اتصلت بمحامٍ مشهور، وطلبت منه الحضور.
ضغط الجرس، ففتحت مرام، أخبرها بعد أن رد السلام أن تبلغ الآنسة عصمت فرغلي بحضور المحامي حسب الموعد.
ارتبكت مرام وتلعثمت بالكلام، وتمتمت:
- آنسة عص عص مت.
تركته على الباب، وطرقت باب عصمت عدة طرقات متسارعات، وقالت: - حضر محامٍ.
- رد: أدخليه الصالون حتى أرتدي ثيابي وآتي.
أجلسته ثم ذهبت إلى إحضار بعض الشراب، عادت وفي يدها الأكواب، فشاهدت فتاة زهية بهية مقابل المحامي جالسة مستوية، بادرتها بالتحية والترحاب وأعطتهما أكواب الشراب.
عادت إلى المطبخ، فداهمتها الأفكار: من هذه الفتاة؟ كيف دخلت دون استئذان؟
لا بد أن أذهب وأخبر عصمت بما جرى وصار، وجدت باب عصمت مفتوحًا وروائح العطر منه تفوح.
احتاست واغتاظت، وإلى أدراجها عادت، بقيت تحوم حول الكنبات كأنها ترفع الأدوات.
والفتاة والمحامي في نقاش عن ملف على الطاولة ملقيًا، عادت مرام لتراهما خارجين، فأغلقت خلفهما الباب، وإلى غرفة عصمت هرعت.
نادت عصمت فلم يجب، لكنها رأت ما هو غريب وعجيب، جوارب ومساحيق، فازدادت همًا وضيقًا، كانت عصمت قد شغفها حبًا، وهامت بعشقه بين الفينة والأخرى، فلم تستوعب ما جرى، قالت في نفسها:
- سأنتظر حتى يخرج عصمت من الحمام، لعله يأتيني بلب الكلام.
طال الانتظار، لا حس ولا خبر، قرقعت الأبواب، ورجفت السفر، وتأكدت أنه لا يوجد في البيت بشر، بقيت في البيت تحوم، هاتف عصمت لا يجيب، فجأة رن الجرس، أسرعت ففتحت، فشاهدت الفتاة التي راحت عادت، فبادرتها بالسؤال:
- تريدين عصمت؟ عصمت غير موجود، دعيه وشأنه، ابحثي لك عن غيره.
تبسمت عصمت ابتسامة أعقبتها ضحكة عندما رأت في عينيّ مرام شرر الغيرة، وقالت:
- هل تسمحين بالدخول سأنتظر حتى يعود؟
وافقت على مضض وقالت:
- انتظري هنا في الصالون، ماذا تريدين من عصمت؟
- ردت: هو خطيبي ونريد إقامة حفلة خطوبة.
- لكني لم أركِ من قبل مع عصمت.
- ردت: كنا نتقابل في النادي.
- مبروك، مبروك.
ثم تمتمت لا بارك الله لك.
ذهبت مرام ثم عادت فلم تجد الفتاة في الصالون، لمحت باب عصمت مفتوحًا، دخلت فوجدتها ممتدة على السرير وسوستة فستانها مفتوحةً، فصاحت:
- يا للبجاحة، إلى هذه الدرجة وصلت بك الوقاحة؟
استمرت عصمت في الضحك الشديد، خرجت مرام ثم عادت وبيدها سكين فقالت:
- إذا لم تخرجي بإرادتك غرزت هذا الخنجر في أحشائك.
رأت عصمت أن الجد جد، وأن السكين حد، وأن حياتها راحت في قبضة اليد، فقالت:
- أنا عصمت يا مرام.
قالتها بلطف وحنية
- عصمت من؟
- عصمت قريب سعاد.
- عصمت ولد وأنت بنت؟
- كنت ولدًا والآن بنتًا.
- ما أنتِ إلا جنية من الجان، تتشبهين ببني الإنسان.
تراجعت مرام إلى الخلف، وألقت ما في يدها، ولمت أغراضها وغادرت البيت مسرعة، لم تستطع عصمت الاقتراب منها أو اللحاق بها، فتركتها وشأنها.
حضرت عصمت المزاد، وفتحت الظروف حسب المعتاد، حينها كانت المفاجأة، لقد كان المنافس لعصمت حسام، وكاد أن يرسو عليه المزاد، فتقدمت عصمت فزادت وبالغت حتى شاهت الوجوه وصمتت، فازت عصمت فأخذت رقم حسام من أحد الظروف، ثم أسست مجلس إدارة للشركة، وزودتها بوسائل صيد متطورة، فكانت رئيسة مجلس الإدارة، وعلى عاتقها تقع مسؤولية الربح والخسارة، ثم أسست شركة فرغلي للصيد البحري التي تمتلك عدة مراكب صيد، وأضحت من أكبر تجار السمك بعد أن أسست مصنع تعليب تونة، وصارت تصدر الفائض.
استقطبت كثيرًا من المهنيين من العمال والفنيين، وعينت حارسًا لمنزل سعاد إلى جانب مرام، واتصلت بحسام وطلبت مقابلته، فحضر إلى مقر الشركة على المرفأ.
كان قد تخرّج من دبلوم تجارة قسم المحاسبة، وبدأ يشق طريقه في الحياة، وعند وصوله إلى إدارة الشركة لمح اسم رئيسة مجلس الإدارة (عصمت علاء رشيد فرغلي)، فقال في نفسه: لعله تطابق أسماء، وعند دخوله المكتب شاهد فتاة تجلس على المكتب، وأمامها على الطاولة الاسم نفسه عصمت علاء رشيد فرغلي.
جلس على أحد الكنبات بينما كانت توقع على أحد الملفات، وفي هذه الأثناء دخل علاء والد عصمت، عرفه حسام، فانتفض واستقام، وبادله التحية والسلام، وجلس إلى جانبه.
أتمت عصمت مراجعة الأوراق، فأعطاها علاء ملفًا وكانت تنظر إليه بوجه براق.
طالعت الملف وأبدت ارتياحها فقالت:
- ألم أقل لك يا أبي أنك الأجدر، بفضلك صار ربحنا أكبر، ودخلنا أوفر، أنت ذو بصيرة نافذة وخبرة سابقة.
اذهب ونقب عن أصحاب المواهب، لا تدع صديقًا ولا صاحبًا.
أخذ الملف وخرج، فخرج مسرعًا بعده حسام دون أن يدلي بأي كلام،
وعند الدرج أمسك بيد علاء بإحكام، وقال:
- هل عثرت على ابنك عصمت الذي تاه بعد أن سرق المساطر والأقلام.
- رد: ومن أنت؟
- أنا حسام زميله في الدراسة تلك الأيام.
- نعم: عصمت بنت، وليست غلامًا، وهي التي رأيتها تجلس أمامك تمامًا بتمام.
كان علاء متعجلًا فتركه وذهب، تعجب حسام شديد العجب، وقال في نفسه:
- أتيت للبحث عن فرصة عمل، سأعود إلى المكتب وأترك ذلك للمستقبل.
دخل فوجد عصمت بانتظاره.
- قالت: كاد المزاد يرسو عليك، وبشق الأنفس انتزعته من يديك.
وقد استدعيتك كي أضع يدي في يديك، فقد رأيت فيك صفات الأشخاص الثقاة، وأريد تعيينك مديرًا للحسابات.
اندهش حسام من العرض وترتيب العبارات، فالتزم الصمت، فمدت يدها وأعطته ملف التوظيف، وطلبت منه أن يملأ الخانات والبيانات، ارتفع نبض قلبه وزاد الخفقان في ركبه، وجف لعابه، فخرج ولم يعلم كيف خرج ومتى تخطى الدرج.
دخل البيت فنبش في الأوراق وشتت باحثًا عن صورة عصمت، ثم اتصل بسهام، وأطلعها على مضمون الكلام، فحضرت ومعها صورة عصمت، فقد كانت تحتفظ بها، وتعده فارس أحلامها.
قارنا الصورة بالصورة التي التقطها حسام بجواله في مكتبها خلسة، فأكدت سهام أن هذا هو عصمت ذاته، ملأ حسام البيانات والجداول، ثم حضر فسلمها، وكان ذلك تحصيلًا حاصلًا، باشر عمله، فأبدع، وتضاعف راتبه، وأتت سهام لزيارة حسام، وفي أثناء وجودها في مكتبه دخلت المديرة، وقف حسام احترامًا، فالتفتت سهام، فإذا بعصمت لم تتمالك نفسها، فارتمت بحضن سهام، وقفت سهام مذهولة مشلولة:
- ما الذي حدث وجرى؟ كيف تحول الذكر إلى أنثى؟
- ردت: هل من الممكن أن تحلي عليّ ضيفة يا سهام، وسوف أطلعك على مضمون الكلام.
وافقت سهام على مضض بعد أن كان حسام قد اعترض.
بعد أن سردت عليها قصتها قالت:
- هذه هي حكايتي يا سهام من البداية إلى الختام.
ازداد التوتر والقلق لدى مرام، فاتصلت بعصمت على جواله.
- ألو، عصمت؟
- رد: نعم.
- أين أنت؟ مختف، أقلقتني عليك.
- رد: أنا في الطريق إليك.
استبشرت بالخير ورتبت البيت، فُتح الباب، نظرت فإذا بتلك الفتاة تدخل وعليها أحسن هندام، فترد السلام وتتجه إلى غرفة عصمت، فسقطت مرام وأغشي عليها.
خرجت عصمت، حاولت إيقاظها، وبعد أن رشتها بالماء أفاقت، وبمجرد أن نظرت لمن أيقظها عادت إلى غيبوبتها.
كان لدى عصمت موعد مهم فغادرت البيت، أما مرام بعد أن صحت أبلغت سعاد بأن منزلها باتت تسكنه الهوام، وأن عصمت اختفى وظهرت بدلًا منه فتاة من الجان، تدخل المنزل دون استئذان، ردت سعاد بأنها على اتصال بعصمت باستمرار، وأن كل ما يحدث لها مجرد أوهام من الوحدة وتوتر أعصاب، وأنها ستأتي بمجرد انتهاء الاستطباب.
ألمت بسعاد العلل، فاحتاجت إلى المال، فطلبت من محاميها عرض منزلها للبيع على وجه الاستعجال، وبعد البيع غادرت مرام وهي في أسوأ حال.
أتى سُعاد الأجل قبل وصول المال، وعند الاطلاع على وصيتها وجدوا أنها قد أوصت لعصمت فرغلي بثلث تركتها بشرط أن يتزوج من مرام الخادمة.
عاد الورثة إلى البلاد، فطلبوا من المحامي حصر التركة، والإعلان عن الموصى له وتحديد ميعاد.
لم يتمكن المحامي من العثور على عصمت فرغلي، لكنه عثر على مرام، وأطلعها على لُب الكلام، فقالت:
- هذه منيتي، لكنها المحال بعينه، فعصمت اختفى، وظهرت بدلًا منه ملعونة.
نشرت الوصية في صحيفة، فاطلعت عصمت عليها، فتشوش فكرها واحتارت في أمرها، فالوصية باسمها، لكن الشرط أوضح أن الموصى له ذكر بينما هي أنثى.
مضت ثلاثة أشهر، وهي مستغرقة في التدبير والتفكير وقياس الأمور.
في هذه المدة لمحت إعلان بيع فيلا تعود إلى أحد الجزارين، فقررت خوض المزاد لعلها تفوز بها.
خاضت الغمار، وجنت الثمار، وحضرت مع المحامي إجراءات التسليم، فخرج أفراد العائلة والنساء مطأطئات الرؤوس يتلفتن إلى الوراء، فاقتربت من إحداهن بغرض استيضاح ما جرى، فتفاجأت بأن هذه الفتاه ندى.
تمهلت لعل عينها قد خانتها، فسألتها وهي تعتريها الحيرة:
- يا آنسة، هل من الممكن أن تحكي لي سبب بيعكم للفيلا؟
رفعت رأسها، وقد ظهرت على وجهها المسكنة والذلة.
- حدث عراك إثر تنافس بين أصحاب المسالخ، فاقتحم أصحاب المسلخ المجاور مسلخ والدي حاملين السكاكين والهراوات بالأيدي، فوقعت مشاجرة كبيرة نتج عنها مقتل اثنين وإصابة أخي، فوجهت تهمة القتل إلى والدي، وإخوتي أودعوا السجن، وها نحن كما ترين.
- إلى أين أنتم ذاهبون؟
- لا ندري، المهم نخلي الفيلا للمشتري كي نتمكن من تسديد الغرامات، ودفع الديات.
- ما اسمك يا آنسة؟
- وماذا ترجين من اسم فتاة بائسة؟
- فقط للتعارف، ربما يكون بيننا تآلف.
- اسمي ندى، وهذه قصتنا من المبتدأ إلى المنتهى.
- فقالت في ذاتها: سبحان مغير الأحوال، من يصدق أن هذه ندى صاحبة التباهي والغرور والدلال، ها قد حل محلهما الإذلال.
همت ندى بالانصراف واللحاق بالعائلة، فطلبت منهم الانتظار والوقوف حتى تنظر إلى الفيلا وتطوف.
تكوموا تحت الشجرة، وتبادلوا الهمس:
- ماذا تريد منا هذه المرأة؟
عادت إليهم بمنظر مهاب بعد أن أقفلت الباب، وقالت:
- خذي يا ندى مفاتيح الدور الأرضي، اسكنوا فيه في أثناء غيابي عسى أن يفرج عنكم ربي.
تهللت وجوههم بالفرح والسرور، ودعوا لها بالدعاء المأثور.
- فقالت: خذوا هذا (الكرت)، فيه اسمي ورقمي إن عرض لكم عارض عليكم إبلاغي.
انصرفت مع المحامي وضميرها عما فعلته راض.
في المساء تفحصت الكرت ندى، فوجدت مكتوبًا عليه: (عصمت علاء رشيد فرغلي)، يا لهذا الاسم، وما يحمله من معنى، لكن ذلك ذكر، وهذه أنثى.
فتحت الدولاب لتعيد الثياب إلى موضعها المعهود، فعثرت على مبلغ من النقود، فصاحت ولاحت، فحضرت حولها العائلة فحمدت الله وشكرت، فها هي يد الخير إليهم امتدت.
- أرينا يا ندى اسم هذه المرأة الكريم علنا نستوضح فعلها العظيم.
فبدأ الهم والغم ينتاب ندى على ما بدر منها وما جرى لمثل هذا الاسم في أعوامها الأولى، واستمر كابوس عصمت ينغص حياة ندى، فتارة يأتيها بهيئة شبح برأسين، وتارة يبرز بصورة غوريلا بجناحين تراه في سقف الغرفة قبل أن تنام.
تمشي فتسمع الصدى على أبعد مدى فتقف كي تسمع النداء، أصوات متداخلة تصرخ: (يا ندى) كأنها صادرة من مأتم أو وكر ببغاء.
مع تقدم الأيام ظهرت عليلة نحيلة كمن أصابها السُقام، لم يبق من جسدها سوى العظام، فلازمت الفراش وقطعت المعاش.
كانت عصمت تزورهم بين الفينة والأخرى، فتجود عليهم بما كتب الله وأعطى.
يتبع…
الجزء الرابع: عصمت الخنثى المشكل
عادت عصمت إلى هواجس الميراث، فقد سئمت من التغاضي وعدم الاكتراث، فمرام لم تترك مخيلتها وهي ترى وجوب استحقاقها وأحقيتها، فمرام من أسرة فقيرة تبحث عن اللقمة بالصدفة، مرت بالقرب من زاوية جامع فسمعت صوت واعظ طالع، همت بالدخول إليه لتطلعه على فحوى الوصية وتسمع رأيه، لكنها ترددت بعد أن رأت ملابسها غير محتشمة.
شاهدت محل ملابس نساء بالقرب من الزاوية، فدخلت وارتدت عباءة، وذهبت إلى الواعظ، جلست على مقربة منه محجبة منقبة.
أكمل الواعظ وعظه، فانصرف الطلاب من حوله، ثم نهض واستقام، وإليها وجه الكلام:
- هل لك من حاجة أقضيها أو خدمة أسديها؟
- نعم، لدي مسألة شائكة حيرتني شهورًا، ريشها نابت، ومنقارها مبتور.
- رد: عافاك الله وهداك، أفصحي عن مقصدك، هل فقدتِ عذريتك؟
- قالت: حاشاك الله.
- بل طالتني وصية من سيدة فاضلة بثلث المال، وكانت قد عهدتني في حياتها رجلًا من أوفى الرجال، وحين أعلنت الوصية وذاع الخبر ها أنت تراني أنثى لا ذكرًا، وفي الوصية شرط واجب التمام، وهو زواجي من مرام، فهل لك مما أنا فيه فتوى مسموعة أو حيلة مشروعة؟
- رد: ومن مرام؟
- خادمة صاحبة الوصية سيدة المقام.
أطبق رأسه على يديه برهة، ثم قال:
- اكشفي كفيك وقدميك وأميطي النقاب عن وجهك، وأريني خصلة من شعر رأسك.
ففعلت ما أراد علها تنال المراد، فقال:
- نلتقي بعد شهر في هذا الميعاد.
عادت عصمت إلى مكتبها على الساحل، تفقدت المراكب، وتسويق المنتجات، ورفعت لدى الصيادين المعنويات، فعمت الخيرات، ولمحت على وجه حسام الإرهاق، فظنته إلى سهام قد اشتاق، فمنحته إجازة كي يجدد نشاطه.
- قال: لا حاجة لي بذلك، فكل الامر أن سهام جفتني بخصام.
- ردت: دعك من هذا، فهنا ساحة عمل لا مكان لتبادل العشق والغرام، ومخصوم من راتبك عشرة أيام.
استغرب حسام من كلام عصمت الشديد المصحوب بالتهديد والوعيد.
قال في نفسه:
- سأبقى على عملي، لن أبدأ ولن أعيد.
انصرفت عصمت بعد أن أحست بتأنيب الضمير، وقالت في ذاتها:
- هل الغيرة أذهبت عني البصيرة؟ هل أحاول أن أخطف من سهام خطيبها حسام، سأعود إلى الواعظ.
وصلت في الميعاد نفسه مرتدية الجلباب والنقاب نفسهما، فلما رآها استقام، وقال:
- أتيتك بفتوى لحالك، احسبي نفسك زوجًا هالكًا مات دون أن يخلف، فترث زوجته ربع الوصية فرضًا، بالإضافة إلى استحقاقها مهر المثل، وبذلك تذهب الوصية إلى مستحقتها مرام، فما عليك إلا البحث عن مرام وإبرام عقد زواج ثم إعلان الوفاة، فلن يطالك أثر، فأنتِ أنثى والمتوفى ذكر حسم الخبر، والثانية: أتيتك بحيلة أبي الحيل، فمن الوجهة الشرعية فأنت خنثى مشكل.
- سأل: وما الخنثى المشكل؟
- رد: المولود الذي يولد وأعضائه التناسلية مخفية، فلا هو بالذكر ولا هو بالأنثى، إذ لا يوجد ظاهر منها سوى ثقب خروج البول، فيحتار أبواه، فيعطيانه صفة الذكر باعتبار ما سيكون.
فإن بلغ مرحلة الصبا إما أن تغلب عليه صفة الذكر أو الأنثى، وأنت ظهرت عليك علامات الأنوثة فعدت إلى أصلك الأنثى، فارتديتِ ملابس النساء، ونثرتِ العطور، وكنت في ذلك معذورة، وتُستحق الوصية وتكون حاجتك مقضية، فإن طلبك القاضي إلأى الحضور أوضحت له كل تلك الأمور، أنه بعد صدور الوصية ظهرت عليك العلامات الأنثوية.
شكرت الواعظ شكرًا مبجلًا وأجزلته بالمال على عجل.
رأت عصمت أن حيلة الخنثى المشكل هي الأنسب وإلى الصواب هي الأقرب، فذهبت إلى المحامي وطلبت حصتها من الميراث، فرفض طلبها ولم يعطها أدنى اكتراث، فتقدمت بدعوى استحقاق الوصية إلى المحكمة، فطلب منها القاضي إثبات صحة دعواها.
فأحضرت الشهادات المدرسية بأنها طالب وليست طالبة، واستدعيت مرام، وقضت المحكمة باستحقاق مرام الوصية كاملة غير منقوصة استنادًا إلى قصد وإرادة صاحبة الوصية التي صبت في مصلحة مرام بالشرط المقرون وهو الزواج الميمون، فالباعث على الوصية كان بغرض التحفيز على الزواج، ولو علمت أن عصمت أنثى لم تكن لتعقد الوصية باسمها، وإنما كانت ستكتبها باسم مرام.
هكذا قضت محاكم التفتيش رغم قطع المنقار ونبت الريش، وكانت عصمت سعيدة بذهاب الوصية إلى مرام، ثم ذهبت إلى الواعظ وأعطته هدية امتنانًا لحيلته الذكية، أما مرام فغابت وسط الزحام مختفية هربًا من عصمت الجنية.
يتبع…
الجزء الخامس: عصمت في وسائل الإعلام
تحدثت الصحف عن قصة عصمت الجرسون بالزيادة المملة والنقصان المخل التام، فكانت حديث المقاهي والنوادي ووسائل الإعلام.
شاهدت ندى عرض قصة الجرسون عصمت على التلفاز، فتأكدت أنه عصمت زميل الدراسة، فخجلت وتمنت أن تبتلعها الأرض قبل أن تنظر إلى عيني عصمت، سارعت للاتصال بسهام فحددت معها الميعاد، وكانت سهام قد تعرفت إلى مرام في جلسة المحكمة، فاتصلت بها وأحضرتها بصحبتها، التقين الثلاثة في مسبح للنساء، اتضحت لديهن الحقيقة بجلاء،
وهي أن عصمت الطالب الولد هو نفسه الآن عصمت الأنثى.
تذكرت مرام عندما شاهدت في أذنيها الأخرام، فقالت:
- قد أخطأت، فعددتها فتاة من الجان، وليس من بني الإنسان، فها هي عصمت صاحبة الفضيلة والقيم النبيلة.
- قالت: ندى هل تعتقدين يا سهام أن عصمت قد عرفتني ورغم ذلك أكرمتني أم أنها إذا عرفتني ستذكر الماضي وتطردني؟
- ردت سهام: دعك من الأوهام، فعصمت بعيدة كل البعد عن روح الانتقام، لكن مشكلتي الآن مع حسام، فانا على علم تام بما كان بين عصمت وحسام من ألفة وانسجام، فإذا تأكد لي أن ما بينهما باق، عندها يتعين عليّ اللحاق، وسأعطي حسام الدبلة وأفسخ الخطبة.
- ردت مرام: عليك التأكد قبل الإقدام على هذه الخطوة.
انتهى اللقاء وتفرق الأصدقاء، ندى تخشى، وسهام تتأنى، ومرام تتمنى اللقاء.
قررت ندى الإقدام على ما هو مهم، فانتهزت فرصة زيارة عصمت المعهودة للفيلا، فارتمت بين قدميها تنهمر الدموع من عينيها على مرأى ومسمع كل أفراد عائلتها.
جثت عصمت على ركبتيها ماسحة الدموع على خديها، ثم حملتها بين ذراعيها، ووضعتها على السرير، وأسقتها كوب عصير، ورثت حالها مما حل بها وابتلاها قائلة:
- أبشري باقتراب موعد خروج والدك وأخويك من السجن في المدة القريبة بعد سداد الدية وانقضاء نصف مدة العقوبة.
ردت بدموع غزيرة كينبوع الماء، وأرادت النطق إلا أن جفاف لسانها جعلها على النطق لا تقوى.
شعرت عصمت أن ندى ترجو السماح، فجادت بكرمها راجية تخفيف ألمها فقالت لها:
- اللهم اعف عن ندى في كل ما بدر منها وجرى، وأعنّي وإياها على البر والتقوى، فأجسادنا على النار لا تقوى.
نهضت ندى من ساعتها، وبرئت من علتها، وذهبت عنها الأوهام والأشباح التي كانت تطاردها، ثم أعطتها رأس مال فتحت به محل تطريز وخياطة وبذلك أضحت في قمة السعادة.
بعدها خرج أبوها وأخواها من خلف قضبان الحديد، وأعادت فتح المسلخ من جديد.
أما سهام، فقد ساءت ظروفها المعيشية بعد إحالة والدها على المهية، فزارت عصمت في مكتبها شارحة لها قصتها، فأسندت إليها وظيفة في الشركة وعينتها سكرتيرة.
هكذا أتى أصحاب الشهادات الجامعية طالبين الوظيفة لدى عصمت التي لم يتجاوز مؤهلها مستوى محو الأمية.
بادرت مرام بزيارة عصمت، تبسمت عصمت ابتسامة لقاء الأصحاب
بينما مرام تنهمر من عينيها دموع العتاب.
- قالت عصمت: احسبيني سعاد، وابقي عندي على عملك المعتاد.
وافقت مرام رغم ثراها، فسعدت وطاب بقاؤها.
تكررت زيارة بركان الهائم الولهان منزل عصمت بحثًا عن عمل، فقد كان بركان قد اعتدل بعد أن حل به ما حل، فلا ميراث حصل ولا فرصة عمل، فأنست به مرام وأنس بها وعلى سنة الله طلبها.
في أحد الأيام طلبت عصمت من سكرتيرتها سهام إبلاغ حسام بالحضور لمناقشة أمر مهم.
حضر وبقي مع عصمت في المكتب عدة ساعات في مناقشة بعض الملفات، فاجتاحت سهام الغيرة، وتركت المكتب وغادرت قبل الظهيرة، فدقت عصمت على جرس السكرتيرة مرتين، فلم تدخل حسب المألوف.
خرج حسام ليجد دبلة الخطبة على الطاولة، ولم تكن سهام موجودة،
عاد لعصمت وشرح لها القصة، ردت بعد أن تبسمت:
- إنها الغيرة تعمي البصيرة، خذ الدبلة معك حتى تتصالحا.
غابت سهام عدة أيام، فأرسلت لها عصمت أخاها عفيف اللطيف الظريف حاملًا إليها الدبلة، فدق الجرس وعلى حافة الباب جلس، ففتحت الباب امرأة مسنة، بقيت إليه ناظرة لم تتفوه بكلمة.
- قال: هذا منزل سهام السكرتيرة؟
- نعم، ماذا تريد؟ أنا والدتها.
- أتيت لها بدبلة الخطبة التي ضاعت منها.
- تفضل، ادخل، سأناديها.
الآن عرفت سبب حزنها وانعزالها في غرفتها.
حضرت سهام فرحبت بعفيف صاحب الدم الخفيف سريع الكلام دائم الابتسام، ذهبت والدتها لتجهيز الشاي.
- قال: تفضلي هذه الدبلة، وجدتها على طاولة مكتبك ملقاة.
ذرفت من عينيها الدموع وقالت:
- لا أريد فتح هذا الموضوع...
شارحة عليه قصة عصمت وحسام من البداية إلى الختام، وما كانا عليه من ود وانسجام في سالف الأعوام، وأخبرته أن ما أقدمت عليه أمر قاطع غير قابل للتراجع.
- أعد إليه الدبلة وأبلغه فسخي للخطبة.
- رد: بشرط أن تعودي للعمل، فحضوري كان لإعادتك، وليس لإرجاع دبلتك، أنتِ لا تعرفين قيمة نفسك وذاتك، مضت ثلاثة أيام كل مَن دخل المكتب تلفت وعليك سأل: أين صاحبة المُقل؟ أين من لا تُكل ولا تمل؟ صاحبة الهامة الرفيعة والابتسامة العريضة، أين الشقراء العنقاء صاحبة الوجه الوضاء؟ فإن لم يعثر عليك ذهب بعد أن يحجم عن تقديم أي طلب، فعن المكتب تراجعت الأقدام وخف الزحام، هل هذا يرضيك يا آنسة سهام؟
نظرت إليه بذهول وقالت:
- هذا غير معقول، خذ الدبلة واذهب، غدًا ستراني في المكتب.
في بداية الدوام خرجت عصمت وحسام لجرد المحلات وتحصيل الإيرادات، وفي أحد المراكب تعثرت عصمت فسقطت في البحر وغرقت، وعن الأنظار توارت، فقفز حسام خلفها في البحر عائمًا كأنه سهم من السهام، فانتشلها من الأعماق وحملها على الأعناق، وإلى المركب حملها على ساعديه بعد أن أفرغ ما في جوفها من الماء.
تنفست الصعداء بعد أن أعطاها قبلة الحياة، فتحت عينيها فوقعت على عيني حسام، فرنت إليه كما ترنو إلى فراخها الحمام، كانت شبه عارية من الثياب بعد أن ابتلت وعلى جسدها التصقت، فبدت مفاتنها، فاحتضنها بعفاف وطلب من الحاضرين الانصراف.
عادت إليها جوارحها، فوجدت نفسها في حضن فارسها، احتشمت وعلى حافة المركب جلست، فتبسمت وإلى حسام بكلمات الشكر والعرفان تقدمت:
- مدينة لك بحياتي.
ثم نظرت إلى البحر وأخذت نفسًا عميقًا وقالت مخاطبة البحر:
- رغم ظلمك أنصفتني وبنصفي الضائع جمعتني، هجت فهاج فؤادي، ومن قعرك حملني جوادي، أحب قدميّ اللاتي أوقعتاني، وأشكر الأمواج على ابتلاعي.
وفي البحر الزاخر غرقت الهواتف والأوراق والدفاتر، فعلمت سهام بالواقعة فأتت مسرعة، فشاهدت عصمت مستلقية، وحسام يدفئها بحنية، فاتسعت بين سهام وحسام الهوة، وحلت محل الود الجفوة، انتزعته من أحشائها مثلما تُنتزع من الجسد النبلة، وعادت من حيث أتت، وعلى المكتب قعدت.
حضر عفيف، أطرى عليها وأثنى، وقال:
- من دونك الحياة ليس لها معنى...
استدرك ضاحكًا:
- أقصد الشركة.
تبسمت رغم غيظها وقهقهت، وبشت به أيما بشاشة، فكان يمضي معها جُل أوقاته، وصار حسام بالنسبة لسهام زميل عمل، فكان تعاملهما رسميًا بالعبارات والجمل.
أوعز عفيف إلى عصمت أن تخطب له سهام، فتفاجأت عصمت وقالت في نفسها:
- هذا هو القصد والمرام.
تمت الخطبة وأقيمت حفلة، حضر الجميع وكانت سهام فيها نجمة.
اقترب ما كان أبعد، وصار حسام بالنسبة لعصمت في متناول اليد،
ظهرت علاقتهما على الملأ، فخطب حسام عصمت علاء
فانقشع الغيم وانجلى.
رتبت الزفة وعلى الشاطئ كانت الحفلة، كان عُرس جماعيًا سعيدًا حضره القريب والبعيد، وكان من الحضور ندى رائدة الفصل الأولى.
عُقد قران بركان بمرام، وعفيف بسهام، وعصمت بحسام، وبهذا الحفل السعيد أضحت الأيام عيدًا، وأعقب الحفل لقاء صحفي مع عصمت، أذيع على الشاشات وخُط على الحيطان والأسوار، ولفت الأنظار وجذب الأفكار: المرأة المتحورة من ذكر إلى أنثى، من جرسون جوال إلى سيدة أعمال.
بادرها الصحفي بهذا السؤال:
- بما أنك عشتِ حياة الذكر والأنثى أيهما كان إليك أجدى؟
هُنا أُسدل الستار
وإلى المُشاهد والمستمع انتقل الحوار.
النهاية.
شكرا لمنصة جوك ادارة ورواد
👍👍👍👍👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.