قصتنا اليوم تدور حول صاحب بِئْرِ يَقْطُنُ في قرية نائية وكان لا يسقي أحدًا إلا بعد محاولات عديدة من طرف أهلها، لقد كان البخل هو ما يمتاز به والعياذ باللَّه لدرجة أنه أحيانًا يضع البعض من كلابه لحراسة البئر ومنع أي أحد من الاقتراب منها.
لقد ورث هذا الصديق بئره من والده، وهذا الأخير ورثها عن أبيه، بمعنى أن هذه البئر هي ميراث هذه الأسرة، والملاحظ أن هذه الأخيرة هي من تستأثر بهذا العنصر الحيوي، فقد حاول البعض من الأهالي حفر آبار أخرى في نفس المنطقة لكن محاولاتهم باءت بالفشل والسبب هو أن منطقة صديقنا هي من تحوي على الحصة الأوفر من الماء أي أنه متمركز فقط في أرض صديقنا.
ومع ذلك ها هي نافذة أمل تفتح وهي أن والد صديقنا حين أتته المنية أوصاه بأن يجعل للأهالي نصيباً من الماء، فهو لا يريد من ابنه أن يتحمل وزر الأجداد، لقد رأى أن هذا الماء هو ملك العامة ولا يجب عليه احتكاره، ثم أن السماء سخية فهي في كل مرة تجعل من البئر ممتلئاً عن آخره، أي أن الخير باقٍ مع الرزاق الذي يرزق من يشاء بغير حساب جل جلاله.
لكن ذلك الصديق أصيب قلبه بالصدأ، فحتى موت والده لم يردعه، بل ازداد مقتاً للأهالي، وقد لوحظ مؤخرًا أنه أصبح يتحاشى الناس ولا يقربهم، وأمسى لا يبارح تلك البئر إطلاقًا، وبالمقابل أهمل صيانتها فبدأت تتداعى مع مرور الوقت مع أن مخزونها لم يتأثر، فهو يزداد يومًا بعد يوم، لكن تلك المياه الجوفية للأسف قد اختلطت مع الأتربة التي بدأت تتسلل من جنبات البئر، فأضحى لونه عكراً ومضطرباً، فأصبح لا يأتيه المارة أو الأهالي إلا نادرًا .
وتشاء الأقدار أن يكبر ابن أحدهم وتصبح لديه تلك الرغبة الملحة للبحث وإيجاد الماء، فحمل على عاتقه مهمة توفيره للقرية التي عانت الويلات، لكن عندما سمع صديقنا بأن هناك من يبحث عن الماء خارج منطقته سخر منه، وبدأ بإطلاق سلسلة من التهكمات داخل القرية بأن فلان يريد جلب الماء، ثم كيف له أن يحضره وبأي وسيلة! ولم يتوقف عند هذا الحد فقد راح ينعته بعقل العصفور.
لكن قبل أن نكمل قصتنا أريد أن أتوقف قليلاً عند هذا التشبيه الذي يؤذي هذا المخلوق الجميل فهو من آيات الله عز وجل تُسَبِّحُ لله وتنفعُ الناس، ويكفي أننا نستشهد من كتاب العزيز الحكيم بذلك الحوار الذي دار بين نبي اللَّه سليمان أعظم ملوك الأرض وطائر الهدهد، لقد جعل اللَّه منه مثلاً مبعوثًا ومؤمنًا بفكرة ومدافعًا عنها وهي الدعوى إلى الله من سيدنا النبي سليمان إلى الملكة بلقيس.
وذلك الغراب الذي عَلَّمَ الإنسان كيف يواري سوأة أخيه، وغيرها من المخلوقات التي سخرها اللَّه تعالى، وهو شرف وتشريف من المولى للطائر بذكره في القرآن، فعندما سخِرَ صديقنا من الشاب يكون قد تجاوز حدوده بأن سخر من خلق ومخلوقات اللَّه.
لكن الذي لم يتوقعه صاحب البئر هو أنه تفاجأ يومًا بشاحنات تدخل القرية مُحَمَّلَةٌ بأنابيب بغرض تثبيتها على طول الطريق التي تصل القرية بمنبع ماء عُثِّرَ عليه بعد التنقيب، وها هو أخيرًا سوف يصبح الماء في متناول الجميع، وسوف يزول ذلك الاحتكار الذي طالما أرهق ساكني القرية وأذلهم عند صاحب البئر الذي لم يرحم حاجتهم واحتياجهم للماء.
أعتقد أن قصتنا قد قاربت على بلوغ نهاية سعيدة وهي تمكين اللَّه تعالى لأهل القرية من الماء، فقد أصبحت لهم بئر خاصة بهم أما ذلك المحتكر فقد انقلب عليه بخله وجَفَّ نَبْعُه الذي كان مانعًا الناس من الاقتراب والنهل منه، أما العبرة من قصتنا فتبدأ الآن.
إن تلك البئر هي رمز العلم الذي نراه مُحتَكَراً من طرف البعض، وأعني ذلك حقًا لأنه رغم التطور والانفتاح الذي وصلت إليه البشرية فإنه لا زال هناك من يبخل بالمعلومة، لكن لا بأس فما دام البحث مستمرًا فإن الوصول مؤكد.
أما صاحب البئر فهو فرد من أفراد أسرة لها باع طويل في العلم والمعرفة، ولكن للأسف هي تحتكر تلك المعرفة ولا تريد نشرها وتعتبرها ملكية خاصة بها، وهنا أريد أن أتوقف قليلاً لأذكر بأن العلم الذي لا يقود المرء لمعرفة اللَّه وحكمة الخالق هو علم عقيم ولن يوصله إلى طريق الفلاح، بل سيغدو وبالاً عليه والعياذ بالله.
لقد ترجى الأهالي صديقنا بأن يسقيهم من بعض ما تجود به تلك البئر من معرفة ومعلومات لكنه في كل مرة يرفض، وإن أعطى فإن العطاء يكون قليلاً أي أنه لا يسمن ولا يغني من جوع.
أما المعضلة التي كان يتخبط فيها هؤلاء القوم هي الجهل والأمية، فلم يكن يوجد بينهم من هو متعلم ودارس، لذلك كانوا تحت رحمة صديقنا الذي طغى وأعماه البخل، لقد باءت كل محاولاتهم بالفشل في البحث عن مصدر آخر للمعرفة.
في الواقع صديقنا كان دائمًا يرفض نشر علم أجداده، وحتى حين استدرك والده الأمر وهو على فراش الموت بأن يطلق العنان لكل ما يحوزه من معرفة لم يشفع له ذلك، فبدأت تتلاشى تلك المعرفة وكانت هيئة البئر المتداعية والماء الذي تغير لونه رمزًا وخير دليل، فالعلم الذي كان يستأثر به بدأ بالاندثار والزوال لأنه لم يلقنه أو يسلمه لشخص آخر وهكذا.
لكن تشاء الأقدار أن يخرج من تلك القرية من ينقذها من الأمية ويذهب بعيدًا للدراسة وطلب العلم ليعود ويفيد به أهل قريته، فنرى أن تلك الأنابيب التي جلبها هي في الواقع قنوات علم ومعرفة ربطها بينه وبين قومه، فبدأ نور العلم يضيئ عقولهم والحياة تَدُبٌّ في وجدانهم.
إن العلم ليس حكرًا على أحد، والكل له الحق في النَّهْل منه، وقيمة الفرد تزداد بزيادة علمه، أما زكاة العلم فهي نشره فنرى أن الفرد المتعلم حين ينشر ما يعرفه فإن خزانه يمتلئ من جديد، فلا نكاد نرى صاحب علم مفتقر له، فهو كالذي يتصدق ويتزكى فيلازمه الغنى أيْنَمَا حَلَّ وَارْتَحَلَ وهي من عطايا اللَّه تعالى لعبده نراه يُمسي شكورًا فيزيده الله تعالى.
يقول المولى تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات.) المجادلة 11.
اقرأ أيضاً
تسلم ايدك على هذه القصة الجميلة صحيح كلامك لقد صادفت في حياتي أشخاص كلما زادوا درجة علمية زاد غرورهم مع الاسف ولم ينتبهوا لقول الله عز وجل وما اوتيتم من العلم الا قليلا
الله يسلمك،شكرًا على الكلمات الراقية.
أحسنت..... كل إناء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع.......علي بن أبي طالب
مشكورة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.