اليوم فقط سأتخلَّص من الروتين اليومي الذي يلاحقني كل صباح، بدايةً من تسجيل حضوري ثم متابعة طلبات العملاء واستراحة الغداء بكلام الزملاء الذي لا يتغير.
اليوم سأستلم خطاب التدريب لأبدأ في الصباح الباكر بفرع الشركة في العين السخنة، ثلاثة أشهر سأتخلص فيها من كل هذا الملل وقد أعود وقد استعدت كامل طاقتي.
انتهت بالأمس مدة التدريب الخاصة بصديقتي غادة كانت كل يوم تحدثني في الهاتف وتحمسني كلماتها وسعادتها أن أبدأ على الفور لاحظي براحة من الكتابة على لوحة المفاتيح ومتابعة الملفات التي تتدفق كنهر خالد لا يتوقف عن الجريان، فالتدريب ما هو إلا اجتماعات قصيرة يتم فيها توجيه الموظفين لتعديل فكرهم بما يتناسب مع متطلبات السوق التي تستجد كل دقيقة بل كل ثانية وكلها أشياء محفزة ممتعة بعيدة تمامًا عن التعقيد والملل والجلوس لساعات طويلة أمام الكمبيوتر دون حراك.
تمنيتُ لو كانت مدة تدريبي بالتزامن مع صديقتي غادة، كنتُ سأحس براحة أكثر، فأنا وغادة صديقتين منذ المرحلة الإعدادية، ولم نفترق من وقتها قط، ولكن ما دام استمتعت غادة بمدة التدريب ووصفتها وهي الخجولة المتحفظة التي تهاب تكوين الصداقات، وصفتها بالرائعة أعتقد أنني ولكوني اجتماعية قليلاً وأمتلك بعض الشجاعة في مواجهة الآخرين، أعتقد ستكون الثلاثة أشهر رائعة مثل غادة.
أعترفُ أنني سأفتقد والدتي وجدتي، ولكن سأحدثهم في الهاتف يوميًا فلا بأس بقليل من الراحة، فلم أحظَ باستراحة منذ كنت في الثانوية، وخير فعلوا من جعلوا مركز التدريب التقني والإلكتروني في العين السخنة؛ فالمكان وحده كفيل ببعث الطاقة والنشاط للمتدربين.
انقطعت أخبار غادة منذ أسبوع كامل، فهي لا تجيب عن الهاتف ولا أرى لها تفاعلاً على الشبكات الاجتماعية، كنتُ أودُّ أن أسألها عن أحوال الطقس لأختار ما يلائم طبيعة المكان.
كنتُ أتلقى كل يوم رسائل من غادة مليئة بالمرح والسعادة والتفاؤل وصورًا رائعة للمكان، غير أنها توقفت لربما حزنًا عن كونها ستفارق هذا المكان؛ فغادة رقيقة جدًا ترتبط بالأماكن وعندها حنين منقطع النظير وعواطفها جياشه.
كنت لأسخر من فرط حساسيتها ولا أتفهمها وأحثها دائمًا أن تكون واقعية وتكف عن التعامل بعواطفها بدلاً من عقلها.
ها قد أقبلت غادة وهرعت إليها مرحبة بعودتها ولكي أسألها عن سر اختفائها، فأخبرتني بأنها ستعود معي للمنزل، فهي تريد قضاء الليلة معي قبل سفري فرحبت بالأمر ؛ لنستعيد تلك الذكريات التي كنا نقضي فيها الأمسيات معًا أمام التلفاز، ونحدث الفوضى ونتحدث للصباح غير عابئات بشيء نتجاذب أطراف الحديث، ونتحدث عن الموضة وتصفيف الشعر ووضع خطة مستقبلية لما سنرتديه في الأعياد والمناسبات.
كنا نحرص وقتها أن تكون ملابسنا متطابقة في الألوان، وكان الجميع يظننا أختين، غادة صاحبة الفضل عليّ في كثير من الأحيان فلولا غادة لرسبت في امتحان الفيزياء، فلقد كنت أمقت تلك المادة ولا أعرف الهدف منها وما ذنبي إن سقطت التفاحة على رأس نيوتن بدلاً من الأرض لم كل هذه القوانين والافتراضيات التي لم أستفد بأي منها في حياتي العملية.
كانت غادة أمامي في لجنة الاختبار، وهي تعلم مدى كرهي للمادة وعدم استيعابي لها، وكنتُ على علم بأني سأرسب فيها لا محالة، فلا يكفي ما بالمادة من تعقيد وتخبط، إذ يتفنن واضعوا الامتحان في أن يأتوا بأسئلة ما أنزل الله بها من سلطان، وكأن الحياة ستتوقف ويضيع مستقبل الأمة لو جاء الامتحان مباشرًا، وفي مستوى الطالب الطبيعي وليس مستوى من أبوه أينشتاين وخاله أحمد زويل.
هكذا وجدت غادة تملي على كل إجاباتها عن المادة، وأنا أكتب فقط ما تقوله وحمدًا لله، كانت غادة تتقبل هذه الفيزياء وتستطيع على عكسي فهمها، فنجحت على غير المتوقع، ودخلنا معًا نفس الكلية، ثم نفس الشركة التي سعى والد غادة جاهدًا لتلتحق بالعمل بها، وكيف لا وهي شركة دولية ذات صيت، ولا يمكن لأي أحد العمل بها، ولكن غادة كعادتها عندما جاءتها الفرصة ألحت على والدها ليجري اتصالاته لأعمل معها، وهددته إن لم أحصل أنا الأخرى على الوظيفة فلن تذهب للعمل ببساطة، ولن تقبل هذه الوظيفة دون أن أكون معها.
وهكذا استجاب والدها لضغوطها، وكنتُ في الشهر التالي أعمل مع غادة بنفس ذات الشركة، تمر عليّ يوميًا لتصحبني بسيارتها إلى العمل، ونعود معًا آخر النهار وأحيانًا كنا نذهب للتنزه والتسوق معًا ولم نعُد نحرص أن نشتري نفس الألوان، فلقد كبرنا على تلك التصرفات الطفولية، ولكن نشتري ألوانا متوافقة ومتناسبة لنتمكن من مبادلة الملابس فيما بيننا كعادة الفتيات.
كانت أسرة غادة ترحب بمبيت غادة لدي لأنهم يعرفون والدتي وجدتي وتربطهم الصداقة منذ أن كانت أسرة والدة غادة تسكن في ذات الحي.
بعد أن انتهى وقت العمل عدت وغادة لمنزلي ورحَّبت جدتي ووالدتي بعودة غادة فلقد افتقدها الجميع، كما أنها وعدتهن أن تتفقدهن أثناء غيابي وتقوم على ما يحتاجانه من طلبات، وهذا جعلني أطمئن كثيرًا، فوالدتي وجدتي تحتاجان من يرعاهما في غيابي ولا أجد من أثق به سوى غادة.
بعد العشاء، جلست وغادة وجدتي وأمي كالعادة أمام التلفاز، ولكني لاحظت أن غادة لديها ما تود أن تخبرني به على انفراد، فحملت أطباق الفشار والمسليات الخاصة بنا واستأذنت من والدتي وجدتي وأخبرتهما أنني أفتقد غادة ولن أقضي آخر ليلة معها بعد غياب ثلاث أشهر مضت، ثم ثلاثة أشهر قادمة أمام التلفاز.
دخلنا غرفتنا وشعرت غادة بالارتياح وما أن أغلقت باب الحجرة حتى انهارت بالبكاء فراعني بكاؤها، وعلمت أن خطبًا سيئًا ألم بها، وإلا لما انسابت كل تلك الدموع منها فقلت لها: ما يبكيك يا غادة؟ لم كل هذا الحزن منذ أن رأيتك في الشركة؟ أأنت حزينة لكونك قد أنهيت التدريب وغادرتي العين السخنة؟
فأجابت: لا يا غدير، لقد عانيت كذبًا وخداعًا حقيرًا من أحد الأشخاص، لم أكن أتصور أن البشر يحملون هذا القدر من المكر والدهاء.
غدير: لا أفهم شيئًا مما تقولين هلَّا وضحتي ما تقصدين ومن خدعك ومكر بك؟
غادة: أريد أن أنتقم يا غدير وأنت طريقتي الوحيدة للانتقام، ولأرد كرامتي التي ضاعت وكأنها سراب، أريد أن أرد الصاع صاعين وأرد الصفعة بصفعة تدوم للأبد ولا تزول، فهل ستساعدينني يا أختي التي لم تلدها أمي؟ هل تقفين إلى جواري في ثأري أم تتخلين عني؟
غدير: كيف أتخلى عنك يا غادة فما أصابك وإن كنت أجهل مفرداته إلا أنه أصابني أنا أيضًا فما يبكيك أحزنني، ولا أطيق أن أرى الدموع في عينيك لأني أوقن أن أصحاب القلوب النقية من أمثالك لا يستحقون سوى السعادة والهناء.
قامت غادة باحتضاني وأردفت :كنت أعلم يا غدير أنك الوحيدة القادرة علي تصفية هذا الحساب فأنت من كنت تعاقبين البنات لو أخطأن في حقي أيام الدراسة وتتشاجرين معهن وتضربيهن أحيانًا إذا لزم الأمر، وكنتِ تعلمين الجميع أنك من تتصدين للمواجهة، فكان الجميع يؤثرون السلامة خوفًا من بطشك وشخصيتك القوية العنيدة، وطالما رددتِ الصاع صاعين لمن كان يتنمر عليّ في الجامعة وعلى طريقة نطقي لحرف الراء.
غدير: أخبريني من تنمر عليك، وغدير بفضل الله قادرة أن تعيد له صوابه وتلزمه بالاعتراف بالخطأ بل والبكاء ندمًا على ما اقترفت يداه، فمن هذا الذي سولت له نفسه البائسة إزعاجك ألا يعلمون أنك صديقة غدير.
غادة: دمت لي يا رفيقة قلبي سأقص عليك الحكاية من بدايتها...
يتبع،
دمتم بكل ود وحب.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.