زُعم أنه كان في سالف الزمان وقديم الأوان أسدٌ في أرضٍ موحشةٍ مُلكهُ عظيمٌ وهيبتهُ سائدةٌ بين الأنام، وكان له في مملكته حمارٌ أجيرٌ يكدح في خدمة الوحوش ويكدُّ النهار بالليل لا ينام، وكان الحمار حسن الطبع ليِّن القلب سريع الرضا بطيء الغضب، غير أن عقله قليلٌ وفهمه ضيِّقٌ كضيق فم الجرَّة إذا صببت فيه من بحر الكلام.
فبينما الأسد ذات يومٍ جالسٌ في ظل شجرةٍ يتفكر في شؤون المملكة، إذ أقبل عليه الحمار مُسرعًا وقال: أيها الملك الأوحد وسيد البرية، قد رأيت في منامي أني صرت ملكًا وأنك صرت أجيرًا عندي تسوقني بالحبل وتأتمر بأمري.
فهزَّ الأسد رأسه وسكت ساعة ثم قال: ويحك يا حمار، ما جرَّأك على هذا المقال؟ وما أنطقه على لسانك من حال؟! أمنامٌ هو أم وسواسٌ في الظلال؟
فقال الحمار: والله ما كذبت ولا افتريت.
فقال الأسد في نفسه: إن هذا الحمار قد غرتْهُ نفسه وخدعته رؤياه، فلا ألومنَّه على حلمٍ رأى. ولكن من ترك الحمار ينام على ريش الترف لا يلومن إذا ظنَّ نفسه طاووسًا في الغيمات. ثم أمره أن يعود إلى عمله وألا يُكثر من الأحلام والأوهام.
فلما مرت الأيام ودار الزمان واشتدت قسوة الأسد في حكمه، عاد الحمار يهمس في آذان القطيع أن العدل لو كان له لكان غير الأسد من يقود.
ثم اجتمع إلى الذئب والثعلب وابن آوى، وقال لهم: ما قولكم في ملكٍ لا يسمع ولا يرحم؟
فقالوا: وما لك في ذلك؟ قال أكون أنا الملك وأنتم وزراء.
فنظروا إلى بعضهم وسكتوا وقالوا: كلٌّ يريد من الحمار ظهره لا عقله، فإن صار ملكًا كان لنا منه ما نريد.
فاتفقوا أن يُدبِّروا انقلابًا صامتًا، ويُشيعوا في الغابة أن الأسد مريض العقل كثير الظلم قليل العدل.
فلما بلغ ذلك مسامع الأسد، ضحك ملء شدقيه وقال: قد نطقت الحمير بما لا يُفهم، وأرادت السباع أن تسير وراء من لا يُبصر الطريق.
ثم نهض الأسد في مجلسه وقال: يا قوم، من طمع في المُلك دون عقل هلك، ومن استشار الحمقى سقط، ومن صادق الثعلب نام وفي جيبه خنجر.
ثم وثب على الحمار فمزَّقه. وقال لأتباعه: هذا جزاء من أراد أن يضع التاج على آذانه الطويلة.
وفي ذلك حكمة لمن كان له قلب، فلا يطمعنَّ ذو الجهل في موضع الملوك، ولا يُخدعنَّ الذئب بقول الحمار، فإن الغابة لا تُدار بالنعال، بل بالمخالب والعقول.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.