في غرفة شبه مظلمة، يجلس "يوسف" على سريره، عيناه معلقتان بشاشة هاتفه المحمول، ينعكس على وجهه الضوء الأزرق البارد، في حين تتحرك أصابعه بسرعة على شاشة الهاتف، تارة نحو اليمين وتارة أخرى إلى اليسار.
أصوات الإشعارات تملأ الغرفة على نحو متواصل، قائمة أصدقائه على وسائل التواصل الاجتماعي ممتلئة، فهو يعرف أشخاصًا كُثُرًا من مختلف الجنسيات والأعمار، يشارك معهم عالمهم الخاص بهم، قصصًا وأفكارًا ربما لم يكن ليلتقيها يومًا في واقعه المحدود، يناقش هذا في موضوعات ثقافية أو اجتماعية وكأنه خبير عالمي، ويمازح الآخر بلطافة وكأنهما صديقان قديمان، تتنوع موضوعاته بين الجاد والمضحك، من الثقافة إلى أحدث صيحات الموضة، ومن تجارب السفر إلى حكايات الحياة اليومية.
وبدون سبب واضح، تسلَّل الملل إلى قلبه، شعر أن كل هذه الحركة الافتراضية باتت بلا معنى للحظة، وضع هاتفه جانبًا، ونهض بخطوات متثاقلة نحو النافذة، وقف هناك ينظر إلى العالم وما يدور به، كان يوجد من يسيرون على عجل، وآخرون يتجولون على ما يعتقد أنه بلا هدف، كانت الأعمدة تضيء بنور شاحب، كان يمتزج مع الظلال التي ترسمها السيارات المسرعة، تأمل المشهد بصمت، وكأنَّه يبحث عن شيء يربطه بالعالم خارج شاشته.
لكن تأمله لم يدم طويلًا، فجأة، انقطع خيط أفكاره على رنين رسالة وصلته عبر هاتفه، التفت تلقائيًّا نحو الجهاز، تردد للحظة، وكأنَّه يحاول مقاومة الفضول، قبل أن يعود بخطوات بطيئة نحو السرير، وكل ما يجول بخاطره هو احتمال أن يحمل ذلك الرنين شيئًا مختلفًا، أو ربما مجرد ضجيج آخر، كالمعتاد.
أمسك بالهاتف وألقى نظرة على الشاشة، ليجد إشعارًا من تطبيق "فيسبوك" وليجد منشورًا لصديق قديم يُدعى "فهد"، نشر صورة لكتاب مفتوح بجانب كوب قهوة، مع تعليق بسيط: "أجمل لحظات الصباح مع كتابي الجديد".
ظلَّ يوسف يحدق في المنشور للحظات، لم يكن فهد مجرد اسم عابر في قائمة أصدقائه، بل كان شخصًا يحمل معه ذكريات قديمة، أيامًا كانت مليئة بالحماس والحديث عن الأحلام التي لم تتحقق بعد. تلك الصورة، مع بساطتها، حملت له شعورًا مختلطًا بين الحنين والفضول.
تساءل يوسف عن الكتاب الذي يقرأه فهد، وابتسم بخفة قبل أن يكتب له مازحًا: "أخيرًا بدأت تقرأ! لم أتوقعها منك أبدًا".
ضغط على زر الإرسال وانتظر، متوقعًا أن يرد فهد بروحه الساخرة المعتادة، لم يمضِ سوى لحظات حتى ظهر إشعار بردٍّ منه، لكنه لم يكن كما توقع:
"ما الذي تحاول قوله بالضبط؟".
تجمدت أصابع يوسف فوق الشاشة، شعر بأن هناك خطأ ما، أعاد قراءة رسالته السابقة، كانت مزحة عابرة كتبها بعفوية.
كان يعرف فهد جيدًا، دائمًا ما يتبادلان هذا النوع من المزاح، فلماذا بدا رده هذه المرة جافًّا؟ تردد قليلًا قبل أن يكتب:
"هاها، كنت أمزح كالعادة، ما الأمر؟".
تأخر فهد في الرد حتى مرَّت دقائق ثم ساعات، وصار يوسف قلقًا، هل أخطأ في تقدير الموقف؟ قرر أن يرسل له رسالة أخرى، هذه المرة أكثر جدية:
"فهد، إن كان هناك ما يضايقك، فأنا آسف، لم أقصد أي إساءة".
وبعد وقت طويل، جاءه الرد:
"لا تقلق، فقط كنت أمر بيوم سيئ، وعلقتُ على رسالتك بطريقة لم أقصدها، أعتذر إن بدا الأمر جافًّا".
تنفَّس يوسف الصعداء، وشعر بضيق تجاه هذا العالم الافتراضي، كيف يمكن لكلمات بسيطة، كتبها بلا تفكير، أن تفسد لحظة بينه وبين صديق مقرَّب؟ أدرك أن هذه الشاشات الباردة تخفي وراءها مشاعر حقيقية، وأن الرسائل النصيَّة لا تحمل نبرة الصوت أو تعبيرات الوجه التي توضح النيات.
تساءل كم مرة حدث مثل هذا سوء الفهم دون أن يدركه، كم صديق ربما جُرح بسبب تعليق لم يقصده، وكم موقف فُهِم بطريقة مختلفة عمَّا كان يقصد، شعر فجأة بأن هذا العالم، الذي كان يراه مساحة حرة للتواصل والتعبير، يمكن أن يكون أحيانًا سجنًا للكلمات، حيث تُحبس المعاني بين الأحرف، ويصبح سوء الفهم أسرع من أي تبرير.
وضع هاتفه جانبًا وتأمَّل السقف، متذكرًا الأيام التي كانت فيها الحوارات أكثر بساطة، حين كان يمكن لنبرة الصوت أن تُصلح أي سوء تفاهم في لحظة.
انتبه يوسف من شروده على صوت والدته في الأسفل تناديه لكي يجهز للذهاب إلى جدَّيه. تنهَّد وهو ينهض عن سريره، يشعر بثقل غريب في قلبه، وكأن هذا العالم الافتراضي استنزف منه أكثر مما أعطاه، خرج من غرفته متجهًا نحو الحمام لغسل وجهه، ليتخلص من هذا الضيق الذي لازمه، حين كان الماء البارد يلامس بشرته.
فكَّر في اللقاءات العائلية، في الأحاديث الدافئة التي لا تحتاج إلى رموز تعبيرية لتوضيح المشاعر، ولا إلى تفسيرات طويلة لتصحيح أي سوء فهم، بعد دقائق، كان يرتدي سترته ويهبط الدرج، حيث وجد والدته تنتظره بابتسامة دافئة، نظرت إليه قائلة:
- "ماذا بك؟ تبدو شاردًا".
هزَّ رأسه محاولًا طرد أفكاره وقال وهو يبتسم:
- "لا شيء، أفكِّر في كم أشتاق لجدي!".
ابتسمت والدته، وهي تناوله حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الهدايا لجدَّيه، وقالت:
- "إذن، ستستمتع اليوم بحديث طويل معه".
ابتسم يوسف، وهو يأخذ الحقيبة منها، ربما كان هذا ما يحتاج إليه حقًّا، بعض الوقت بعيدًا عن هذا العالم الافتراضي.
ثم وصلوا إلى بيت جدَّيه، ذلك المكان الذي يحمل ذكريات طفولته، برائحته المميزة وصوت التلفاز القديم الذي يعمل دائمًا على قناة الأخبار.
دخل البيت، حيث وجد جده يستقبله بابتسامة هادئة، دخل يوسف وجلس على الأريكة، متأملًا الجو من حوله، لا هواتف تضيء الوجوه، لا إشعارات تقاطع الحديث، فقط أصوات طبيعية: ضحكات جدته وهي تروي قصة قديمة، تعليق جده على الأخبار، ووالدته التي تنضم إلى الحوار بحماس.
لاحظ يوسف أن جده ينظر إليه مبتسمًا، وقال بصوته العميق:
- "لماذا تبدو شاردًا يا بني؟".
تردد يوسف قليلًا قبل أن يجيب:
- "كنت أفكر… كيف تغيَّرت طريقة تواصلنا اليوم، كل شيء أصبح سريعًا، لكن في الوقت نفسه، نشعر أحيانًا بالوحدة رغم أننا متصلون طوال الوقت".
ابتسم الجد وهو يستند إلى عصاه وقال:
- "لو تعلم يا يوسف كم كانت الأيام مختلفة… أحضر لي ذلك الصندوق هناك، فوق الخزانة".
نهض يوسف متحمسًا، توجَّه إلى الزاوية حيث أشار جده، ووجد صندوقًا خشبيًّا قديمًا يكسوه الغبار، حمله بحذر وعاد ليضعه أمام جده، الذي فتحه ببطء وكأنه يفتح بابًا من الماضي.
داخل الصندوق، كانت هناك كومة من الأوراق القديمة، مغلَّفة بعناية، بعضها مصفرُّ الأطراف، وبعضها مزين بأختام قديمة، التقط الجد إحدى الرسائل، ونظر إليها بحنين قائلًا:
- "هذه رسالة من صديقي سعيد، كنا نعيش في مدينتين مختلفتين، وكانت الرسائل هي وسيلتنا الوحيدة للتواصل، تخيَّل، كنت أكتب له، ثم أذهب إلى مكتب البريد، وأنتظر أسابيع حتى يصلني الرد!".
حدَّق يوسف في الرسالة بين يدي جده، لم يصدق أن التواصل كان يحتاج كل هذا الصبر، سأله بفضول:
- "وكيف كنتم تشعرون وأنتم تنتظرون الرد؟ ألم يكن الأمر مزعجًا؟".
ضحك الجد قائلًا:
- "ليس كذلك، بل كان الانتظار جزءًا من المتعة، كل رسالة تحمل شوقًا حقيقيًّا، وكلمات تُكتب بعناية، لأننا نعلم أن الرد لن يصل فورًا، لم يكن هناك تسرع، ولا سوء فهم مثلما يحدث اليوم، كنا نكتب من قلوبنا، ونقرأ من قلوبنا".
بدأ الجد يقرأ إحدى الرسائل بصوت عالٍ، كلمات دافئة عن الصداقة، عن الحياة، عن أخبار بسيطة لكنها كانت تحمل معاني كبيرة. جلس يوسف يستمع بانتباه، وكأن هذه الحروف تأخذه إلى زمن آخر، زمن لم تكن فيه الشاشات وسيطة بين القلوب.
ثم أغلق الجد الرسالة برفق وقال مبتسمًا: كانت الرسائل بريد القلوب، واليوم… تُرى، هل بقي للقلوب بريد؟! وتنهَّد وهو يعيد الرسالة إلى الصندوق العتيق، في حين بقي يوسف غارقًا في صمت، كأنه يسمع في داخله صدى ذلك الزمن البعيد.
جميلة ورائعة ي اية
ما أجمل هذا الزمان
تحياتى وتقديرى لك 🌷
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.