لم تكن تلك الرسائل المحملة بالكراهية ورائحة الانتقام تثير الخوف في نفس شاهين، فقد كان في عداد موتى الروح رغم حياة الجسد، يظل جالساً بجوار باب شرفته المفتوح على مصراعيه، لعلّ صاحب تلك الرسائل يكف عن تحرير الكلمات السخيفة ويأتي لينفذ وعيده، لكن أيامه التي تضيع في الانتظار جعلته غاضباً لا يجد وسيلةً للتواصل مع صاحب الرسائل ليخبره أنه في انتظاره، بل ليحثه على الإسراع في القدوم إليه، فلم يعد جسده البالي يطيق الحياة، لم يكترث لمعرفة المسؤول عن تلك الرسائل، لم يتعب عقله في التفكير عله يعرف هويته.
طرقات خافتة على باب منزله جعلته يبتسم باستهزاء، هو يعرف أن تلك الطرقات الخفيفة لن تخرج سوى من كف رقيق أنثوي، تساءل بينه وبين ذاته عن ذلك الحدث الغريب، فكيف لتلك الطرقات أن تكون على باب منزله الذي لا يعرف سوى الخشونة؟ تعالت الطرقات لتصبح أكثر حدة من ذي قبل، تحرك بانهزام ناحية عدسة الباب ليرى أمامه سيدة يبدو أنها في عقدها الرابع من العمر، أحمر شفتيها القاتم يعلن بقوة عن شخصية قوية جريئة، عقد ما بين حاجبيه بتعجب قبل أن يفتح بابه متسائلاً عن سبب وجودها الخاطئ بالتأكيد أمامه.
نظرت له الغريبة بتمعن قبل أن تصيح قائلة بسخرية:
- لم أكن أتوقع أن تكون بتلك الهيئة أبداً.
رفع حاجبه الأيسر بعدم اهتمام، شرع بإغلاق الباب في وجهها قبل أن يفهم ما السبب الذي جعلها تأتي لأجله، استوقفته غاضبة، أزاحته من طريقها لتدلف إلى الشقة بجرأة، تركها تتجول بعينيها أرجاء الردهة، جلس على مقعده الهزاز أمام الشرفة كما اعتاد ناظراً أمامه كجثة هامدة هربت منها الروح لتوّها، اقتربت منه وهي تتهادى في مشيتها، تتراقص الأساور الذهبية في معصميها، فيتعالى رنينها محطماً جدار الصمت الذي صنعه صاحب الشقة باحترافية، غمغمت بنبرة متقززة:
- ما كل تلك الفوضى حولك؟ لقد تعفّنت يا رجل.
قوبل حديثها بالصمت والتجاهل التام، استفزها تجاهله ووجهه المبهم، إن أسلوبه هذا في طبيعة الحال يُسهّل عليها عملها، لكنّ غرابته لم تصادف مثلها قط، مما جعلها تستشيط غضباً، لم يتدل فكّه من جمالها الأخّاذ، لم يصرخ محاولاً محادثتها من باب الفضول على الأقل لمعرفة كنهها، وما الذي تفعله في عقر داره في ساعة متأخرة من الليل، هكذا مثل من سبقوه من ضحاياها.
وقع بصرها على لوحة لسيدة شابة على فراش المرض يقبع بجوارها شخص يشبهه، منكس الرأس حزين مثل حالته الحالية تماماً، لفت انتباهها أن اللوحة يعترضها من الجانب شريط أسود يعبر عن الموت.
رغبت في إخراجه من صومعته الباردة لتتلذذ بمقاومته أو توسلاته حين تمارس عملها الذي تتقنه، استفزته قائلة:
- إذن، تلك السيدة، هل هي المتسببة بانحدارك إلى قاع الحزن هكذا؟
التفت إليها بوجه حاد يحمل طاقة هائلة من الغضب، لكنها لم تنجح في إنطاقه، فكان ذلك الوجه هو أكبر ردة فعل أخرجها من داخله، أدار وجهه تجاه باب الشرفة مرة أخرى ليثبت على حالته الباردة الساكنة كما كان، أخرجت من حقيبتها مسدساً مثبتاً في فوهته كاتمٌ للصوت، همست بنبرة خافتة منخفضة بدت كفحيح الأفعى:
- أنت التالي.
لوى شفتيه باستهزاء، ثم نطق أخيراً ليقول بصوت خفيض متحشرج:
- لقد تأخرت كثيراً، انتظرتك أياماً وليالٍ، ليكن ذلك سريعاً، فلننتهِ من الأمر عاجلاً.
- دون أدنى مقاومة؟ دون لذة سماع توسلاتك؟ لن أبرح مكاني حتى أجعلك كالدمية بيدي مثل من سبقوك، لقد أثَرَتَ حواسي وجددت شغفي في العمل.
- ليكن ما يكن، الآن حرريني.
- ليس بتلك السهولة، أنا أعمل منذ سنوات في تلك الوظيفة، ليس حباً في المال، بل حباً في القتل، تلذذاً في حصد الأرواح، تمتعاً بسماع التوسلات تحت قدميّ.
- لا يهمني من تكونِين.. نفذِي ما أتيتِ من أجله دون ثرثرة.
صوبت المسدس بإتقان ناحية قلبه مباشرة، انطلقت منه رصاصة راقبها ببطء شديد وهي في طريقها إلى صدره، شعر أن تلك الثواني قبل أن تخترق الرصاصة عظامه ما هي إلا سنوات مريرة انتظر فيها الموت كل لحظة بعد أن فشل في الحصول عليه بشتى الطرق.
في تلك اللحظة تذكر شاهين زوجته وهي تصارع المرض، وعدم قدرته على سداد نفقاتها العلاجية وفراغ محفظته بسرعة من النقود التي يقترضها ممن يقرضون الناس بالفائدة المضاعفة، واضطراره لاقتراض المزيد غير عابئ بالوعيد والجزاء الذي سيناله إن لم يستطع دفع قيمة القرض وفوائده حتى تركته يعاني الفقر والحزن بعد رحيلها حيثما لم تفلح أي حيلة طبية في إنقاذها، فتح ذراعيه ليستقبل الرصاصة بحفاوة.
سالت دماؤه بغزارة، أصبح جسده هامداً تماماً كروحه السجينة التي تبحث عن حريتها منذ أمد بعيد.
رنين الملاعق فوق الصحون المتراصة على المائدة الطويلة، وهمهمات الحديث المتبادل بين أشخاصها الجالسين لتناول فطورهم كالمعتاد صباحاً من كل يوم جعله يفيق من شروده لِيُفاجَأ بزوجته شاحبة اللون تشيح بيديها معبرة عن اعتراضها عن شروده الدائم الذي أضحى رفيقا وفياً له في الآونة الاخيرة، هزّ رأسه في محاولة بائسة للتخلص من شبح التفكير الذي يفصله دائماً عن عالمه، تمتم ببعض كلمات رسمية يعتذر بها بشكل آلي، قلّبت زوجته مقلتيها بملل قبل أن تصيح قائلة بنبرة باردة كلون وجهها:
- كفاك يا شاهين، وحاول أن تتقبل الأمر في النهاية، نحن سوياً هنا، لا يهم إن كنا أمواتاً أم أحياء، لكننا في نهاية المطاف لم نفترق، وما زالت أرواحنا تقطن في شقتنا رغم امتلائها بالبشر، ليتك تستطيع تقبل الأمر، ما زلت عالقاً بتلك الليلة، حاول اللحاق ببعض اللقيمات قبل أن ينتهي الأحياء من الفطور، وتُزَال الطاولة بما عليها من طعام، ستتضوّر جوعاً كعادتك.
"تمت بحمد الله "
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.