في إحدى المدن القديمة عاش شاب يُدعى مصطفى، وقد كان شغوفًا بالحياة ومملوءًا بالطموح. وكانت أيامه تمضي بين عمله رسَّامًا وبين جلوسه في بيته متأملًا شجرة التفاح المزهرة التي كانت تقبع تحت بيته، وبين جلوسه في مرسمه الخاص بين أصوات العصافير وخرير ماء النهر وصوت الأغاني الهادئة التي طالما كان يسمعها وهو ينظر إلى فجر جديد. ولكن شيئًا كان ينقصه، إذ ينبض في قلبه شعور بفراغ غامض لا يكتمل إلا بوجود شخص ما.
تغني العصافير فوق الغصون وتشرب من نهر حب طهور
وتروي الحكايات بلحن حنون كروح الزهور وورد الجنون
وعند المياه تُراقص ظلها فتسقي الأماني بصوت ندي
فتشدو بأشواق قلب مسكون وتروي القلوب بحب دفين
ثم ظهرت في حياته هاجر، شابة جميلة تحب القراءة وتستمتع بالموسيقى الكلاسيكية. وكانت تهتم بالتفاصيل الصغيرة وتجد سعادتها في العيش ببساطة. حيث التقى مصطفى بها مصادفة في مكتبة بالمدينة، وتحت أرفف الكتب القديمة تبادلا الحديث بعمق. وقد كان هذا الحديث لم يجربه مصطفى مع أحد من قبل، وسرعان ما شعر بأنه قد وجد نصفه الثاني، تلك الروح التي لطالما شعر بأنها موجودة لكنها كانت بعيدة المنال.
مرَّت الأيام وازداد حبهما لبعضهما البعض، وكانت ساعات طويلة تمضي وتمر وهما يتحدثان. تضحك هاجر على قصصه الصغيرة وتدعمه لتحقيق أحلامه، وكانا يمشيان تحت الأمطار ويتبادلان الحديث عن الكتب والأفلام والأحلام، حتى بدا لهما أن الحياة قد أهدتهما سعادة خالدة.
لكن هاجر كانت تحمل في قلبها صراعًا خفيًّا، إذ كانت تتطلع لمستقبل أفضل وتسعى لتحقيق طموحاتها الكبيرة. فكان حلمها السفر والعمل في مجال الأدب في القاهرة، أما هو كان يحلم بالبقاء في المدينة البعيدة عن القاهرة، وأما هي فقد كانت ترى نفسها تزهر، وكانت تؤمن بأن حبها لمصطفى قوي، لكنه أيضًا قد يكون عبئًا على طموحاتها.
وفي لحظة من اللحظات الصعبة، اتخذت هاجر القرار وودعت مصطفى بحب ودموع، تاركة خلفها كل الذكريات والأيام السعيدة. وكانت تعرف أن قلبها يتألم، لكنها آمنت أن الحب لا يعني التضحية بحلمها، بل التضحية قد تكون من أجل حريتها.
عانى مصطفى من الألم والصدمة بعد رحيلها، ولم يتوقع يومًا أن تكون لحظة الفراق قاسية إلى هذا الحد. فكان يجلس وحيدًا في المكان الذي كانا يعتادان الاجتماع فيه، وينظر إلى الرُّسُوم التي استوحاها من جمالها، وكان يحاول النسيان، لكن كل ذكرى من أيامها كانت تحيي حبًا قد أُطفئ، وكأنه جرح لم يلتئم.
تجاوز مصطفى حزنه بطريقة خاصة، ومرَّت السنوات، وتحقق حلم هاجر وأصبحت كاتبة مشهورة، ووجدت لنفسها مكانًا في الأدب. ولكنها على الرغم من نجاحها كانت تشعر بحنين خفي لمصطفى، وكتبت عددًا من الروايات التي حققت نجاحًا كبيرًا، وكانت تحمل بين دفتي قلبها قصة شاب رسام وفتاة تحب الأدب، وكانت تحاول بواسطة تلك القصة أن تكتب وهي تُعبِّر عن الشوق والندم الذي يسكن في قلبها.
وفي لحظة غير متوقعة، عندما كان مصطفى في مرسمه الخاص، دخلت هاجر، وتقابلت أعينهما وبقي الصمت يلف المكان للحظات. لقد كان حبًّا صادقًا، حبًّا نبت في قلبين ثم انفصل، لكنه ترك أثرًا لن يمحوه الزمن.
أحسنتم النشر.. بالتوفيق
جميل
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.