قصة «أزمة فراغ».. قصص اجتماعية

 إذا شاءت الظروف، وأحس المرء بفراغ في حياته، وخصوصًا في الليل، ماذا يفعل كيف يقضي الوقت، وقد جفاه النوم، بل جفاه الخلان؟ إليك هذه القصة.

وقفت رجاء أمام المرآة بعد أن نضت عنها الثوب الخارجي، وتأهبت لشحذ الأسلحة الفتاكة التي أمدتها بها الطبيعة، وهي العملية التي يسمونها "التزين" من قبيل التلطيف.

وبدأت كعاداتها بتمشيط شعرها الكستنائي المسترسل، ودار حوار شيق بديع بين المشط الذي تقبض على ناصيته خمسة أقلام من العاج الناصع، وبين خصلات الشعر المتمردة، هو يجوس خلالها في حفيف رقيق كحفيف التقاء الشفاه، يمضي وئيدًا مترفقًا، يستقيم حينًا ويتعثر حينا آخر، وهي تعبث به وتداوره حتى يخرج من الشوط خالي الوفاض، خروج العاشق المدنف من غرام لا أمل فيه، ولا رجاء.

اقرأ أيضًا: قصة المنزل المسكون.. قصص رعب

 ولكن اليأس لا يتطرق إليها، بل يعاود الكرة مرات ومرات، وتعاود خصلات الشعر رده وصده، وكأنما تضنيها المقاومة آخر الأمر، فتستسلم في خدر حالم إلى دغدغة أسنانه اللامعة وتستكين إلى قبلاته الصامتة.

 حتى وقت غير قصير، حين انتهت رجاء من زينتها، وأضفت على مفاتنها تلك الظلال الملونة الخلابة التي تضاعف خطرها، وتضمن لها النصر من الجولة الأولى، ولم يبق إلا أن تختار الثوب الملائم.

ووقفت أمام خزينة الثياب تستعرض مختلف الأزياء التي تقتنيها، وقع اختيارها على ثوب أرجواني مكشوف الصدر والذراعين، إن جمالها يتألق على أتمه في هذا اللون.

وارتدته وأخذت تدور حول نفسها في المرآة، حتى إذا استوثقت من استكمال عدتها لخوض المعركة، خطر لها هذا السؤال، ولكن أية معركة؟!

ولم تحفل بالإجابة عن هذا السؤال إلا بهزة رشيقة من كتفيها، وكانت قد شهدت هذه الحركة من مارلين مونرو على الستار الفضي، فأخذتها عنها، وتأنقت فيها حتى بدت أرشق من الأصل.

وفي الواقع أن رجاء لم يكن يعنيها تحديد المعركة التي تستخدم فيها أسلحتها الطاغية، أو تحديد ميدانها، فهي -لكونها غانية من غانيات الملاهي- تخوض كل يوم ألف معركة، فإذا ظهرت في حفل وتفوقت على لداتها من الفنانات والغانيات، عدَّت هذا التفوق خروجًا من المعركة ظافرة، وإذا نجحت في أن تدير رأس رجل يجالس فتاة أخرى، كان هذا في حسابها اكتساحًا عظيمًا لتلك الفتاة.

اقرأ أيضًا: أجمل قصص أطفال قبل النوم

فهي على هذا القياس في حرب مستمرة لا تتخيلها هدنة قط، إن مؤهلاتها في الحياة هي فتنتها، وهي جد حريصة على أن تعلن عن هذه المؤهلات بمختلف الوسائل، لا لكي ترضي غريزتها كونها امرأة فحسب، ولكن لاستلفات أنظار مخرجي السينما ومنتجي الأفلام لتظفر بعقد سخي تواجه به نفقاتها التي تتكاثر وتتزايد يومًا بعد يوم.

وفي هذا السبيل تضطر إلى ارتياد الملاهي والحفلات الساهرة، والتنقل من مكان إلى مكان حتى تعود إلى بيتها مع طلوع الفجر.

وكان لا بد من وجود من يرافقها إلى المكان الذي تقضي فيه سهرتها، إن ذهابها بمفردها إلى السهرة أمر لا يتفق مع مكانتها، ولا يساير التقاليد المراعاة في الأوساط التي تعيش فيها، أقل أن ترميها به ألسنة الناس، إنها جاءت تبحث عن صيد جديد، أو إنها فقدت جاذبيتها حتى نفر منها أصدقاؤها وتباعد عنها المعجبون بها.

ولقد كانت دارها كعبة العشاق والمعجبين دائمًا، في مختلف أوقات النهار، حتى أطلق عليها بعض الأصدقاء اسم "خلية النحل". ولكن على الرغم من ذلك، كانت الدار في أوقات كثيرة تقفر من زوارها، تستشعر هي الوحدة التي لا تطيقها، فتلتمس الأنيس عن طريق التليفون، وسرعان ما يخف إليها الأصدقاء ليذهبوا وحشتها، ويؤنسوا وحدتها.

وفي هذه الليلة، كانت الدار تعاني إحدى أزمات الوحدة، وكانت هي تعتزم الفرار من هذه الوحدة المخيفة القاحلة التي تنذر بزوال دولة جمالها، والفرار إلى أي مكان، وإلى أية سهرة، وبرفة أي مخلوق.

وألقت بنفسها على أريكة تجاور التليفون، وسهمت بعينيها في فضاء الحجرة مفكرة، من المحظوظ الذي تختاره لمرافقتها إلى السهرة؟!

اقرأ أيضًا: قصة "مغامرة ألكسندر في الفضاء".. قصص خيالية

وحيد بك؟ إنه رجل خفيف الظل حقًّا، مبسوط اليد، لكن عيبه أنه يحاول أحيانًا أن يملي إرادته عليها، ويصر على ارتياد أماكن معينة غير حافل برغبتها، هي لا تطيق من الرجل أن يخالف لها أمرًا، وعلى الرغم من ذلك؛ فإنه متى ذهب إلى منزله فلا توجد قوة تحت السماء تستطيع إخراجه منه.

الأستاذ وجدي؟ نعم، إنه كلبها الأمين، كما يلذ لها أن تدعوه، ولكنه سوف يعتذر، على الرغْم من تلهفه لمرافقتها، ولو إلى جهنم؛ لأن الشهر جاوز نصفه، والإفلاس يبدأ غزو جيوبه في أمثال هذا التاريخ.

ومضت تستعرض الأسماء والشخصيات، فلم تلبث أن اختارت أربعة، وأعملت أصابعها في قرص التليفون، لتتصل بأقربهم إلى قلبها، حتى إذا لم تجده اتصلت بمن يليه في المكانة، وهكذا.

ولم تمض دقائق حتى تجهم ذلك الوجه المتهلل، ضاقت العينان الواسعتان، وانبعث منهما بريق الغضب والحنث، لقد اتصلت بالأصدقاء الأربعة الواحد بعد الآخر، ومن وجدته منهم انتحل عذرًا لا سبيل معه إلى زيارتها.

ووثبت من جلستها كالنمرة الموتورة، ومضت تذرع أرض الغرفة، وقد شعرت بمهانة جارحة مسَّت أدق نقطة حساسة عندها، وهي الثقة بسلطانها على القلوب والعقول، واستقرت أمام المرآة، وأخذت تتفحص الصورة الماثلة أمامها في دقة وإمعان كأنها تراها للمرة الأولى، إن فتنتها لا شك فيها ولا نزاع، وإنها معجبة بنفسها حقًّا، واثقة من أنها تحفة نادرة، هذه الثقة هي التي حملتها على ألا ترتبط بقيود الزواج؛ لأن الرجل الجدير بأن توقف مفاتنها عليه لم يُخلق بعد! هكذا أثبتت لها التجارب، فشل زيجاتها السابقة خير برهان على صدق نظريتها.

ولكن ما فائدة هذه الثروة الضخمة من المفاتن إذا اعترضتها أزمة كهذه التي تعانيها الليلة، وما قيمتها إذا عزَّ عليها أن تجد رفيقًا يؤنس وحدتها ويصحبها إلى السهرة.

اقرأ أيضًا: قصة "دبور المزرعة".. قصص مؤثرة

وتمشت في أرجاء جسدها رعدة قوية، رعدة المرأة المقهورة التي عزَّ عليها نفسها، وهي التي اعتادت أن تأمر فتطاع، ودار في ذهنها خاطر جزعت له أشد الجزع، لئن كانت أوقات الوحدة تقطع عليها أحلامها وهي لا تزال في قمة شبابها وريعان جمالها، فماذا عسى أن يكون من أمرها عندما يدير عنها الجمال ويولي الشباب؟

وارتدت عن المرآة، وانكفأت على الأريكة، وأنشأت تبكي، وتبكي، وخففت الدموع أزمتها النفسية، وعادت تفكر من جديد، على أي وجه تمضي سهرتها؟ هل من الضروري أن تسهر في الخارج؟ لماذا لا تكتفي بالسهر في البيت، والساعة في طريقها إلى نصف الليل؟ لتدع صديقًا أو صديقة لتناول بضعة كؤوس من الويسكي حتى يحين موعد رقادها.

وعادت إلى التليفون تتصل بهذا وتلك، لكن على غير طائل، لقد فشلت في أن تحمل واحدًا منهم على زيارتها ممن أمكنها الاتصال بهم، أما غالبية أصدقائها فلم تعثر على واحد منهم، ما الذي يبقيهم في بيوتهم ليلبوا دعوته؟ وهل هم يقصرون صداقتهم عليها وحدها.

وألقت بالسماعة في يأس بالغ، ودارت بنظرتها في أنحاء الغرفة، فخيل لها أن جدرانها تتباعد، لتخلف فراغًا شاسعًا، إنها وحيدة شريدة في هذا الفراغ وشعرت أن كيانها قد تضاءل وانكمش حتى صار شيئًا صغيرًا تافها.

ونهضت قائمة وهي توشك أن تجن، هل تكاتف ضدها جميع من تعرفهم، وأجمعوا على تركها وحيدة في هذه الليلة؟ هل قضت عليها الظروف أن تعاني هذه الأزمة الخانقة؟ ولكن لماذا لا تذهب إلى أي مكان؟

إنها ستجد أينما ذهبت أصدقاء ومعارف، ولكن كيف يتاح لها أن تنتقل إلى تلك الأمكنة بمفردها، وهبها لم تجد من يتفرغ لمجالستها، فكيف يكون موقفها؟

وأوشكت أن تجن، وأحست بأن جو الغرفة يطبق على صدرها، فخفت إلى النافذة لتفتحها، لتهرب من وحدتها، على الرغم من أن الشارع كان مقفرًا لكنها أنست بعض الشيء، إنها الآن تطل على العالم، إن في وسعها أن تجتاز المسافة من النافذة إلى الطريق، وهي لا تزيد عن متر واحد، فتبدد وحدتها القاتلة.

اقرأ أيضًا: قصة "عندما يقترن الحب بالموت".. قصص رومانسية

وطال وقوفها في النافذة، وشعرت بحاجة عظمى إلى إنسان، أي إنسان يخرجها من وحدتها، أي مخلوق يشفق عليها، وتتحدث إليه، لشد ما هي متشوقة إلى صوت آدمي يقرع سمعها.

ها هي ذي تسمع خطوات عابر سبيل يسير على الرصيف المحاذي للنافذة، إنه سيهيم بها حتمًا، ما الذي يمنعها من أن تلتمس مجالسته ولو بعض الوقت، إن هذا العمل بمنزلة مغامرة طريفة، نعم إن الناس لا يرونها كذلك، ولكن.. أين هم الناس؟

واقترب عابر السبيل من النافذة، وكانت الفكرة قد اختمرت في ذهنها فاندفعت تقول في صوت رقيق:

كم الساعة الآن، أرجوك.

وذعر الرجل إذ لم يكن منتبهًا إلى وجودها بالنافذة، ولما تمالك نفسه، تطلع إلى ساعته، ورفع نظره إليها، فراعه جمالها على الرغم من قلة الضوء المنبعث من الغرفة، وأجاب قائلًا:

إنها الآن الثانية عشرة وتسع دقائق بالضبط.

ما أعجب هذا، كنت أظنها الثالثة صباحًا.

لا، لا يزال الوقت مبكرًا.

لقد تركني جميع أفراد الأسرة بمفردي، ولذلك أجدني خائفة.

خائفة؟!

أعني خائفة قليلًا إذ لم أتعود الوحدة.

ليس ما يدعو إلى الخوف يا سيدتي، وفي إمكاني أن أدعو جندي المنطقة وأوصيه بأن يلزم النافذة، لكي تطمئني.

وتلفت الرجل هنا وهناك يبحث عن البوليس، فصاحت له قائلة:

كلا، كلا، أشكرك، هذا جرس الباب يدق، لا بد أنهم حضروا.

وحياها الرجل واسـتأنف سيره، وهي تشيعه بنظرة كانت خليقة أن تصيب منه مقتلًا برصاصة.

وهزت رأسها وهي تقول:

يا له من غبي، أحمق.

ومضى نحو ربع ساعة قبل أن تسمع وقع خطوات عابر آخر، وكان يدندن بالأغنية الشائعة: "أيه يعني لو ريحتني، وعملت غيري لعبتك" وعندما اقترب من النافذة سمع من تقول:

ألا يجوز أن غيرك لا يصلح لعبة بها مثلك؟

وفوجئ الرجل، وكان شابًا في نحو الخامسة والعشرين من عمره، فوقف وتطلع إليها، فلاحظت أنه مخمور، ولم يلبث أن أجاب قائلًا:

مين قال إني لعبة؟

أنت تقول.

أنا آه، ها ها، أنا أتمنى أن أكون لعبة، ولكن في يد قمر مثلك فقط.

بذمتك؟

وهل تشكين في ذلك، يا ذات الحسن والجمال.

وهل كنت لعبة يومًا ما؟

كنت أكثر من مرة، أوه لو قصصت عليك كيف كان ذلك لضحكت ساعات متوالية.

لشد ما أحب أن أستمع إلى هذه المغامرات الطريفة.

ليست مغامرات، ولكنها مقالب نسائية.

قص عليَّ واحدة منها، ولكن لماذا تتكلم في الطريق؟ ألا يلذ لك تناول فنجان قهوة مثلًا؟

فأجاب الشاب وهو يبتعد قائلًا:

ليس الليلة، فإني أولًا لست على استعداد للسهر أكثر من ذلك، ثانيًا أنا لا أحب القهوة، ثالثا: سلام عليكم.

ومضى يجد السير كأنما يفر من خطر داهم.

اقرأ أيضًا: أفضل 4 قصص حب حقيقية في التاريخ.. تعرف عليها الآن

واستبد بها الحنق؟ ماذا؟ أيعز عليها حتى اجتذاب عابر سبيل؟ وأبت أن تتراجع عن النافذة إلا إذا ظفرت ببغيتها، ولكنها باءت بالفشل الذريع مع عابري السبيل الذين مروا بها بعد ذلك، كان كل منهم ينتحل عذرًا للفرار منها، وهي، وهي رجاء التي يترامى على أقدامها المعجبون من أصحاب الشخصيات البارزة، وهي، هي التي أذابت بين يديها ثروات طائلة.

وشعرت بالهوان والمذلة وهي ترتد عن النافذة، لقد أعرض عنها المارة، وكـنها حشرة مؤذية، فياللعار.

لم تجد بين عابري السبيل من يرضى بضيافتها، هي التي لم تتعود أذناها إلا ألحان الصبابة والغزل وموسيقى الوجد والهيام من محبيها، إنهم إذن كاذبون منافقون! إنها ليست حسناء ولا امرأة فاتنة، ولا شيء أبدًا، وانكفات على وجهها فوق أريكة وهي تنشج، ولم تلبث أن راحت في نوم عميق أنقذها من جنون محقق.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة