تعود شخصية (خوسيه مونتييل) للظهور مجددًا، التي تحدثنا عنها قبل ذلك في قصة «عصر يوم عجيب في حياة بلتزار»..
عندما مـات (خوسيه مونتييل)، شعر الجميـع -باستثناء أرملتـه- بـأنهم قـد ثـأروا لأنفسهم، لكنهم لم يصدقوا أنـه قد مـات حقًّا، فقد ظل الشك يساورهم حين رأوا وجهـه مُشرقًا كأنه لا يزال حيًّا.
كـان لا بـد مـن تثبيـت غطـاء التابوت بالبراغي وإدخاله في القبر العائلي الفاخر، كي تقتنع القرية بأسرها أنه قد فارق الحياة!
بعدما دفنوه كان الشيء الوحيد الذي بدا غير قابل للتصديق، هو أنه قـد مـات ميتة طبيعية، فبينما كان الجميع ينتظرون أن يلقى حتفه بعد أن تُطلَق عليه النيران في كمين مُدبر له، كانت أرملته واثقـة مـن أنها ستراه يـمـوت فـي فراشه، وقد حدث ذلـك فعلًا، فقد مات نتيجة الانفعال، على الرغم من تحذيرات الطبيب له.
كانت أرملته تنتظر أن تحضر القرية كلها الجنازة، فقد كانت تظن أن البيت لن يتسع لباقات الزهور الكثيرة التي سيجلبها المُعزين معهم، لكن خاب ظنها، فلم يحضر سوى مُمثلي الجمعيات الدينية، ولم تصل باقات زهور غير المقدمة من الإدارة المحلية، أما ابنه الذي يعمل في قنصلية (ألمانيـا)، وابنتـاه اللتان تعيشان في (بـاريس)، فقد اكتفوا جميعًا بإرسال برقيات تعزية، وكان واضحًا أنهم كتبوهـا بالحبر الزهيد الموجود فـي مكاتب البريد.
جرَّدت أرملة (مونتييل) البيت من أي مظاهر للزينة، وغلَّفت الأثاث بألوان الحداد، ووضعت أشرطة سوداء على صور (مونتييل) المعلقة على الجدران، وقررت أن تنعزل عن العالم وتبقى حبيسة المنزل إلى الأبد، فالأمر بالنسبة إليها كمـا لـو أنهـم وضـعـوها فـي تابوت (مونتييل) نفسه.
وبعد ثلاثة أيام من إخراجهم جثة زوجها من البيت، تولَّى عمدة البلدة حلَّ مشكلة الأرقام السرية لخزنة (مونتييل)، فنقل صندوق الخزنة إلـى الفناء، وأمر بعض رجال الشرطة بإطلاق النيران على القفل، وطـوال الصباح سمعـت أرملة (مونتييل) مـن غـرفـة نومهـا دوي الرصـاص والأوامر المتتالية التي يصدرها العمدة، إلى أن اضطروا في نهاية المطاف إلى تفجير صندوق الخزانة بالديناميت لكشف الأسـرار التي حملها (مونتييـل) معـه إلى القبر.
فقالت لنفسها: هذا ما كان ينقصني، خمـس سـنوات وأنـا أدعو الله أن ينتهـي إطـلاق الرصاص في القرية، وبعد كل ذلك عليَّ أن أكون ممتنة لهم لأنهم يحاولون فتح الخزنة.
كـان (مونتييـل) نـصيرًا متكتمًا لكل الأنظمة، وكـان قـد تمتـع فـي أحـد الأوقـات بسمعـة طيبة؛ لأنـه وعـد بأن يُهدي الكنيسة تمثالًا بالحجم الطبيعي لأحد الكهنة حال فوزه باليانصيب، وقد نفَّذ ما وعد به عندما فاز، وكانت المرة الأولى التي شاهد الناس (مونتييل) يرتدي حذاءً، عند مجيء العمدة الجديد الذي قد أرسلته الديكتاتورية، وهـو رقيب شرطة متوحش الطباع، ولديه أوامر بتصفية المعارضة.
فصار (مونتييـل) مُخـبـره الـسـري، فقسَّم خصومه السياسيين إلى أغنياء وفقراء، وأطلقت الشرطة النار على الفقراء فـي الساحة العامة، أما الأغنياء فقد مُنِحوا مهلة أربع وعشرين ساعة لمغادرة القرية، وبذلك تمت تصفية المعارضـة فـي أقـل مـن سـنة، لكن زوجة (مونتييل) كانت تُعارضه، فكانت في أثناء تلك المجزرة السياسية تقضي الصباح أمام نافذة غرفتها، حُزنًا على الموتى، وكانت تقول له إن هذا الرجل مجرم، استخدِم نفوذك فـي الحكومة لإبعاده، فهو هكذا لن يُبقي أحدًا في القرية حيًّا.
لكن (مونتييل) لم يهتمَّ بما قالته، فقد كان مُنشغلًا حينها بشراء أراضي الأغنياء المطرودين ومواشيهم بثمنٍ يُحدِّده بنفسه، فصـار (مونتييـل) أثـرى رجـال القـريـة وأوسعهم نفـوذًا، فلم يوجد في تاريخ البلاد مَن بلغ هذا الثراء الفاحش فـي ذلك الوقت القصير، وبفضل ثروته تلك، أرسـل ابنتيـه إلى (باريس)، وتَحصَّلَ لابنه على منصب في القُنصلية (بألمانيا)، لكنه الموت الذي حال بينه وبين الاستمتاع بثروته الهائلة.
بعـد الـذكرى السنوية الأولى لوفاته، كانت أرملته تشعر بالضياع وسط أملاكه الخرافية، وكانت تسمع دومًا صوت أحدهم يقول: «اللصوص مـرة أخرى، لقـد سـرقوا بالأمس خمسين عجـلًا»، لكنها كانت تبقى فـي مقعدها الهزاز ثابتة دون حـراك.
وتقول لنفسها: لقد أخبرتك دومًا يا (خوسيه مونتييل) أن هذه قرية جاحدة، فأنت ما زلت دافئًا في قبرك، وقد أدار لنا الجميع ظهورهم، لقد قلت لك سابقًا إنه سينتهي بك الأمر بالإفلاس وأنت تساعدهم كي لا يموتوا من الجوع في مكانٍ آخر، ولن يشكروك على ذلك أبدًا.
لم يأتِ أحـد لزيارتها باستثناء السيد (كارميتشيل) القائم بإدارة ممتلكات (مونتييل)، فلم تكـن الأمـور تسير على ما يرام، فكتب السيد (كارميتشيل) رسائل عدة إلى ابن (مونتييل)، واقترح عليـه أن يأتي ليتولى إدارة أعمال والده، وأخبره عن حالة والدته الصحية، لكن ابن (مونتييل) أخبره أنه لا يجرؤ على العودة خوفًا من أن يُطلقوا عليه الرصاص، فاعترف لها السيد (كارميتشيل) بأنها باتت تواجه شبح الإفلاس.
فقالت له: هذا أفضل، خُذ إذًا ما تحتاج إليه، واتركني أمت فـي سـلام.
حينها كانت صلتها الوحيدة بالعالم هي الرسائل التي تكتبها إلى ابنتيها في نهاية كل شهر، فقد كانت تخبرهما فيها أن هذه قرية ملعونة، وتنصحهما بالبقاء في (باريس) إلى الأبد، وألا تقلقا بشأنها.
في الحقيقة، إن ابنتيها لم ترغبا في العودة، فقد كانتا تقولان لها هذه هي الحضارة، فمن المستحيل لنا الرجوع للعيش فـي بلـد مـتـوحش يُقتَـلُ فـيـه النـاس لأسباب سياسية، فلم يعد المكان مُناسبًا لنا.
صعدت أرملة (مونتييل) إلى غرفة نومها لتنام، ثم أخرجت مقصًّا وضمادة طبية ومسبحة، وضمَّدت إصبعها الملتهب بسبب عادة قضمها أظفارها التي كانت قد اكتسبتها بعد وفاة (مونتييل)، ثم أمالت رأسها بعد أن غلبهـا النعاس، وسقطت المسبحة من يدها، وعندئذٍ رأت في منامها الأم الكبيرة في الفناء، فسألتها: متى سأموت؟
فقالت الأم الكبيرة: عندما يدب الألم فـي ذراعك.
سبتمبر 6, 2023, 3:22 م
تنويه : إن ما قرأتموه لا يغني إطلاقاً عن قراءة القصة .
إذا حاز ما كتبناه على إعجابكم فلا تنسوا الإشتراك حتى يتسنى لكم قراءة كل جديد .
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.