استيقظت في صبيحة ذلك اليوم وأنا مفعم بالنشاط والحيوية.. ارتديت ملابسي وتناولت وجبة الإفطار على عجل.. وفي تلك الأثناء كنت أتحدث إلى والدتي بشأن ما عليَّ القيام به في المستشفى من مراجعة الطبيب في الفحوص الخاصة بها.. وأخذت جميع الأوراق..
ثم خرجت من المنزل واتجهت مباشرة إلى مستشفى الثورة التي لم تكن تبعد عنا كثيرًا.. ولذا فقد ذهبت إليها سيرًا على الأقدام..
وصلت المستشفى وأكملت ما جئت من أجله.. ثم انكفأت عائدًا إلى البيت.. كنت حينها في حوالي الثامنة عشرة من العمر تتملكني أحلام الشباب.. كنت أسير وأنا في منتهى النشاط والنشوة.. وأجول بنظراتي في الفتيات اللاتي أصادفهن أمامي.. وأطيل النظر إليهن..
وأحاول القيام ببعض الحركات التي قد تجذبهن وتلفت أنظارهن إليَّ.. كشأن أغلب الشباب في ذلك العمر.. في أثناء عودتي مررت من أمام الموقف الخاص بسيارات البيجوت التي تُقل المسافرين من وإلى المحافظات الأخرى وأهمها محافظة تعز وإب.. كان الوقت حوالي الثانية عشرة ظهرًا..
فجأة وبدون أي مقدمات.. حدث ما لم يكن في الحسبان.. استوقفتني فتاة.. وسألتني: لو سمحت هل تعرف فلانًا؟ فتلفتُّ حولي لأتاكد من أنها تتحدث إليَّ.. وبالفعل كانت تقصدني أنا.. فرددت عليها بأنني لا أعرفه.. وسألتها: أين يسكن؟ فأجابتني بأنها لا تعرف اسم الشارع، ولكن إذا وصلت إليه فإنها بالإمكان أن تتذكر وتصل إلى البيت الذي تقصده.. وذكرت لي أن البنك المركزي يقع في الطريق المؤدي إليه..
كانت الكلمات تنساب من بين شفتيها وأنا بالكاد أسمعها.. فقد كنت مأخوذًا بها.. كانت مكتنزة الجسم.. رشيقة القوام.. تقاربني في السن والطول.. كانت كاشفة الوجه وترتدي الحجاب بطريقة مميزة وجذابة.. ويظهر تحته بعض خصلات شعرها الأسود وكأنها تعبِّر عن التمرد.. وتتحرك مع هبات النسيم.. بهية الوجه.. عيناها سوداوان واسعتان.. تشعَّان ببريق ساحر أخاذ..
بشرتها البيضاء الممزوجة بالحمرة.. ووجنتاها المتوردان باللون الوردي.. وفمها العنقودي وشفتاها المرسومتان كأجمل ما يكون.. وصدرها الذي يظهر منه نهداها الممتلئان.. كتفاحتين..
كنت منهمكًا في تأملها وبالكاد سمعتها وهي تخاطبني.. كيف عرفته.. وأعادت عليَّ السؤال نفسه ولكن بصوت أعلى.. فانتبهت وسألتها بإحراج: ماذا قلتِ؟ فأعادت عليَّ الحديث.. فقلت لها وبدون أدنى تردد: نعم أعرف البنك وهو قريب من هنا.. فأجابتني: طيب هل بالإمكان أن تصطحبني إلى هناك.. فقلت لها: بالطبع على الرحب والسعة.. لم يكن لديها أي أمتعة تُذكر، فقط كيس صغير في يدها..
أخذته منها وتحركنا على الفور.. تلفتُّ حولي وإذا بنظرات المتواجدين تحدِّق فينا.. لكني حاولت أن أتماسك وأستجمع رباطة جأشي.. وأتجاهلهم جميعًا..
سرنا وأنا ما زلت مشدوهًا بما حدث.. ولا أكاد أصدق أنني أسير برفقتها.. وأعدت إمعان النظر إليها.. ولكم كانت تتفتق فتنة وجمالًا.. سألتها عن اسمها ومن أين جاءت.. فأجابتني بأن اسمها أحلام.. وقد جاءت من محافظة إب.. حيث تسكن مع أسرتها.. فسألتها مجددًا: وهل سافرتِ بمفردك؟ أجابتني: نعم.. فعدت لسؤالها: لماذا؟ ولمن ستذهبين في البيت الذي ذكرتِه لي.. فقالت إنها اضطرت للهرب من والدها الذي يريد أن يزوجها بشخص يكبرها وفي سن والدها نفسه..
وأنه متزوج قبلها بثلاث نساء ولديه من الأبناء من يكبرها سنًّا.. وهو تاجر كبير ولديه كثير من الأموال والأملاك.. ولم يستجب لها.. ولا لوالدتها عندما أفصحت له عن رفضها المطلق له.. وقد حاولت جاهدة بشتى الوسائل أن تقنعه حتى عن طريق بعض الأقارب ولكنه لم يرضخ لأي ضغوط..
كانت تتحدث إليَّ.. وأنا ما زلت مستمرًّا في النظر إليها.. كانت متقدة الذكاء.. حادة الملامح.. تومض عيناها ببريق حاد.. وبعزيمة وإرادة لا تلين.. للوصول إلى غايتها...
سارت إلى جانبي بخفة ورشاقة.. وثقة.. مفعمة بالعنفوان.. والأمل.. صوتها الهادئ.. الرقيق.. ينساب من بين شفتيها.. كلحن يصدح في ثنايا الروح ليلامس شغاف القلب.. وبين الحين والآخر كانت تظهر ابتسامة حانية.. كما كنت ألحظ بعض حركات عفوية وجذابة.. وطفولية..
في أثناء سيرنا عرضت عليها أن نستقل سيارة تاكسي.. لأخفف عنها وطأة السير.. والإرهاق.. خصوصًا بعد الإرهاق الذي قد يكون سبَّبه لها السفر.. لكنها ردَّت عليَّ برفق.. وبحزم.. بأنها غير متعبة.. ومن الأفضل السير مشيًا على الأقدام حتى تتمكن من التعرف على معالم الطريق سعيًا لتذكر البيت الذي تقصده.. لأنها جاءت إليه مرة من قبل وهي لا تزال صغيرة..
لكنها لا تزال تحمل في ذاكرتها بعض المعالم المؤدية إليه ومنها البنك المركزي.. من ثم عرضت عليها تناول وجبة الغداء.. لكنها أيضًا ردَّت عليَّ بأنها لا تشعر بالجوع وأنها قد تناولت وجبة أثناء رحلتها إلى صنعاء..
بعد سيرنا مدة لا بأس بها بدأت تشعر ببعض الأمان والثقة نحوي.. وغمرتنا مشاعر الود والألفة.. وهذا ما لاحظته عليها.. ما دفعني لأن أتجرأ وأمسك يدها.. ولم تمانع ذلك بل سارعت بمد يدها والإمساك بي.. عندها سرت في جسدي قشعريرة.. وتسارعت نبضات قلبي.. حتى كان يخيَّل إليَّ أنني أسمعها.. وصرت أخشى أن لا تقوى قدماي على السير.. ولم أعد أشعر بمن حولي..
كنت كأنني انتقلت إلى عالم آخر ليس فيه سوانا.. ومن ثم بدأت كفانا تلتحمان بقوة أكبر مما كانتا عليه.. وتوحَّدت مشاعرنا واعترت جسدينا مشاعر الخدر.. اللذيذ.. الذي كان يزيد أكثر.. فأكثر.. وصرنا نقترب من بعضنا حد الالتصاق.. وصارت خطواتنا ثقيلة وأكثر بطئًا.
استمررنا على ما نحن عليه.. ووصلنا إلى جوار البنك المركزي.. وبالفعل ورغم ما نحن فيه من مشاعر غامرة وفياضة.. تذكَّرتْ بعض ما كان عالقًا في مخيلتها من معالم، لكنها لم تكن تستطيع أن تتعرف على الاتجاه المطلوب.. فاستمررنا بالدوران حول البنك وفي كل الاتجاهات والطرق المؤدية إليه.. وبقينا على ما نحن عليه في السير والدوران.. ولم يعد في رأسي أي أفكار.. كنت فقط أود أن أستمر في عيش تلك اللحظات.. والحلم الذي أنا فيه.. ولم أعد أحفل أو أعبأ بأي شيء..
مرَّ بنا الوقت سريعًا وقاربت الشمس على المغيب.. وبدأ المساء يلوح في الأفق.. وحينها بدأت تتذكر بعض المعالم.. ودبَّ فيها النشاط.. أكثر.. فأكثر.. كلما سرنا في الاتجاه الذي كانت تشير إليه.. وكانت كلما وجدت نفسها تتذكر بعض معالم الطريق تزداد نشاطًا وحماسة.. وبالمقابل كنت أزداد قلقًا وخوفًا وتعتريني مشاعر الهلع.. لأني أخشى أن أفقدها.. وأن تنتهي هذه اللحظات التي كنا نعيشها..
وفعلًا حدث ما كنت أخشاه.. عندما اقتربنا من أحد المنازل وقالت بثقة وبشكل قاطع إنه هو منزل أختها المتزوجة هنا.. ولم تتوانَ في التفكير.. بل على الفور طرقت الباب.. وبعدها سمعنا صوتًا خافتًا من الداخل يرد ويسأل: من في الباب؟ كان صوتًا أنثويًّا.. فردَّت هي عليها: أنا أختك أحلام.. فسارعت تلك بفتح الباب.. ونظرت إليها ثم صرخت: أحلااااام.. ثم التحمتا في عناق ملؤه القبلات والدموع وعبارات الحب والشوق واللهفة والحنين..
كان كل ذلك يحدث وأنا أقف مذهولًا بلا حراك.. فاقد التفكير..
بعدها انتبهت شقيقتها إليَّ.. فحدَّقت بعينيها.. وقطَّبت جبينها.. وهي تنظر إليَّ.. فالتفت رفيقتي أحلام إليها.. وأخبرتها بإيجاز عما حدث وبأني أنا من رافقتها وأوصلتها.. وهنا دعتني أختها لدخول المنزل.. وبدون أي وعي أو تفكير دلفت إلى المنزل وسرت خلفهما وأدخلتني إلى المجلس.. وأحضرت لي كأس عصير.. وكانت تردد كلمات ترحيب.. وشكر.. لما قمت به مع شقيقتها.. كانت تتحدث وأنا لا أعي ما تقول.. فقط كنت أنظر إليها وأهز رأسي.. وأتمتم بكلمات خافتة وغير مفهومة..
وشيئًا.. فشيئًا.. بدأت أعود إلى رشدي.. وشعرت بفداحة ما أقدمت عليه وأقحمت نفسي فيه من مأزق.. وأدركت بعض المخاطر التي قد أتعرض لها.. فكيف سمحت لنفسي بالدخول إلى منزل لا أعرف أهله ولا يعرفونني.. وليس فيه أحد من الرجال.. وماذا سيحدث لو دخل عليَّ أحدهم وأنا فيه.. فقمت واقفًا كمن لسعته حية.. واستأذنت في الخروج.. فلحقتني أحلام.. وقبل أن أفتح الباب.. استوقفتني..
وحدَّقت في عيني طويلًا.. ثم مدَّت يديها إليَّ وأمسكت بي واقتربت مني حتى التصق جسدانا.. ثم طبعت على وجنتي قبلة عميقة.. تعبِّر عمَّا في داخلها من مشاعر الود والحب والامتنان..
لحظتها فقدتُّ الإحساس بالزمان والمكان.. وشعرت أن قلبي توقَّف عن الخفقان.. وسرت في جسدي قشعريرة.. ووقف شعر رأسي كأنما صعقني تيار من الكهرباء فصرت جثة هامدة..
تسمَّرت في مكاني.. ولم أعد أعي أي شيء..
لاحظت هي ما أنا فيه.. فسارعت بعدها بفتح الباب لي.. وقالت لي وهي في حالة توتر وخوف وقلق: أخشى أن تأتي أختي.. أو أي أحد من الخارج.. فأنا ما زلت غريبة عن هذا المكان.. استمرت تردد عبارات الشكر والامتنان والوداع.. وأنا أتحرك وأخطو من الباب دون أي إحساس أو وعى.. وكنت أشعر أن قدميَّ لم تعد تحتملاني.. كأن عظامي قد ذابت وانصهرت..
خرجت.. وسرت في اتجاه منزلنا.. ولم أرها مرة أخرى..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.