في نهاية رمضان من كل عام يأتي إلى مسجدنا رجل قد طبعت أشواط سنين عمره على وجهه وجسده فصول فاقته وحاجته التي لا تنتهي في ثياب رثة لا تتغير، وكأنها تتمدد معه كلما تمدد جسمه.. يأتي لعل أحد يذكره بجنيهات يقمن أوده لأيام..
فلا تنتهي حاجته إلى الناس ولا تنتهي طريقة الناس في منعه أو إعطائه..
وإلى هنا هذه هي الحقيقة وما يأتي هو الخيال..
أركبته السيارة يومًا وذهبت به إلى شاطئ البحر الذي لم يعرف الطريق إليه يومًا.. وأوقفته أمام أحد الشاليهات التي لم يتم تشطيبها..
قلتُ له: ما قولك في هذا الشاليه؟
-إنه يساوي ملايين عدة..
أشبك أصابع يديه ووضعها خلف رأسه كأنه مستلقٍ على ظهره وسبح بخياله دقائق ثم عاد..
قلت له: يريد صاحب هذا الشاليه أن يهديه إليك لتدير به عجلة أيامك، وتطوي به صفحات البؤس من حياتك، وتحيا ما بقى لك في تذوق رغد الحياة التي يحيا فيها فئة من إخوانك من البشر..
ظنَّ أنني أمزح وسلك أذنيه بأصبعه ثم قال: ماذا قلت؟
أعدت عليه الكلام.. لتحيا كباقي إخوانك من البشر..
أطرق طويلاً.. ثم صاح.. لا.. لا.. لا..
قلت له: ماذا تقول؟!
قال: لا.
قلت: هل جُننت؟!
إنك تريق ماء وجهك للناس حياتك ولم تشرق على وجهك ونفسك وأهلك شمس الراحة والتنعم بمتع الحياة التي يرفل فيها غيرك!
قال: هب أنني اليوم أصبحت أملك هذا الشاليه فسأظل واقفًا أمامه متحسرًا ويزيد حزني كل يوم.
قلت: ولمَ؟
قال: لأنني لا أملك مالاً لتشطيبه، الذي يحتاج لملايين وإن استطعت ذلك فلا أملك تأسيسه، وإن فعلت ذلك فأين هم أسرتي وأولادي لترمح في هذه الغرف التي ستظل مغلقة لعدم حاجتي إليها؟
ثم أين وظيفتي الكبرى التي أتقاضى من ورائها دخلاً يغطي طلباته اليومية؟
وأين هو ذلك المركز الذي يسمح لي أن أزاحم أصحاب القصور المجاورة ليقبلوني بينهم؟
وأنت كما ترى يمتلئ وجهي بكهوف الحاجات التي يستحيل سدها...
إنني يا سيدي أشبه ما أكون بنملة قتلها العطش فطلبت قطرة ماء فجاءها الطوفان ليغرقها ويقضي عليها..
أو كجائع هائم في الصحراء يبحث عن لقمة خبزٍ يابس تسد رمقه، فجاءه من يضع بين يديه مائدة أُنزلت من السماء، فانقض عليها يلتهمها بعينيه قبل فمه حتى إذا ما امتلأت معدته، وتتابع الطعام الممتد من المائدة إلى بطنه، فإذا به لا يستطيع أن يرفع رأسه من الأطباق وهلك...
إن هؤلاء يا سيدي يملكون فوق هذا الشاليه بيوتًا وقصورًا ولهم أعمالاً وأولادًا.. لكل واحد منهم سيارته الخاصة وميزانيته الخاصة وحسابه البنكي الخاص يُصيفون في مشارق الأرض ويُشتون في مغاربها كأنما ماكينة صك النقود تحت أيديهم.
فإذا أردت أن تجعلني مثل هؤلاء فعليك أن تنزع جلدي وتبدلني جلدًا خيرًا منه بعد أن صار كالحراشف من عملي الذي أقوم به في هذا السن من رفع الطوب والرمل إلى الأدوار العليا مقابل فتات أقتات بها رزق أولادي...
عليك أن تخلع عقلي وتزرع مكانه عقلاً آخر تحشوه بما يُتخم به عقول هؤلاء من الأفكار والأهواء والطموحات..
كما عليك أن تعلمني وبناتي الإتيكيت وفنون الكلام واللباس والطعام وحضور المجالس وبرتوكولات المجتمعات الراقية.
عليك أن تُنشأني نشأةً أخرى.
إنك تفسدني ولا تصلحني... وصدق النبي صل الله عليه وسلم:
فلا تفتح على أبواب آمال لا تنتهي..
إن سقف طموحي أن أجدد ألواح سريري المتآكل منذ سنين، وأرمم جدران بيتي المتهالك، وأسد ثقوب غرفتي التي يتسرب منها ماء المطر.. وأن أبيت وعواء ذئاب الجوع في بطون أولادي قد انقطع، وأن أتمكن من تجهيز إيجار السكن كل شهر في خطاب وردي مطرز أضعه في يد صاحب الشقة لتفارقني ابتسامته العابسة.. وأن أحظى بزيارة لطبيب الأسنان ليعيد نصب أسناني في فمي الفارغ لأنعم بمضغ قطعة لحم مشوية تتسلل إليّ من المطعم العائم في الركن البعيد الهادئ..
وأن يأتي من يخطف وردتي الذابلة ليزرعها في أصيص بيته لتنبت أحفاداً ينادونني.. جدو.. قبل الرحيل.
أطرقت رأسي...
فتركني وذهب هائمًا على قدمين متثاقلتين، ثم ناداني من بعيد.. سأقبل هذا الشاليه في حالة واحدة..
أن أبيعه واُنفق ثمنه على إخواني الفقراء والمرضى والمحتاجين والمعدمين.
سقط قلمي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.