أود التعليق على كتاب "ما هو الفن؟" للأديب الروسي الكبير الكونت ليو تولستوي (ترجمة: د. محمد عبدو النجَّاري، ط: دار الحصاد، دمشق: 1991، وهي ترجمة غير جيدة مطلقًا).
عن الكتاب
الكتاب بدأه تولستوي بنحو 60 صفحة في عملية حشدٍ وتجميعٍ مميزة جدًا لتعريفات مصطلح "الجمال" لدى الأوروبيين من منتصف القرن الثامن عشر حتى زمنه، وقد أبْلَى بلاءً عظيمًا في عملية التجميع تلك، وتصنيف تلك التعريفات الكثيرة في أصناف معينة؛ حتى يتمكن القارئ من تحديدها وضبطها، وقد اعتذر مُقدَّمًا عن أنه سوف يورد عددًا كبيرًا من هذه التعريفات؛ لأنه قرر أن يكون كتابه مُلِمًّا (على صِغَر حجمه: 260 صفحة) بالموضوع قيد الدراسة، لذا فقد أتى بتلك التعريفات أولًا حسب بلدان المفكرين الذين تحدثوا في الموضوع كألمانيا وفرنسا وإنجلترا خصوصًا، ثم قليلًا: هولندا وإيطاليا وسويسرا، ولذلك كان يردف تعليقاته على معظم التعريفات ناقدًا وشارحًا وساخرًا أحيانًا، ثم بعد ذلك صنَّفَ أهم تلك التعريفات في صنفين، وأضاف لهما مجموعة ثالثة، وتخلى عن بقية التعريفات؛ لأنها لا تقدم شيئًا في نظره، فوضع صنف التعريفات الصوفية وصنف التعريفات الفيزيولوجية وصنفًا ثالثًا للتعريفات التي تعتمد الذوق والتلذذ، ثم شرع في انتقاد الكل دون استثناء.
وهو في كل ذلك يطرح سؤاله الأول: يا ترى إذن ما الفن؟ وكأنه حين كان يؤلف كتابه ويورد تعريفات الآخرين لمفهوم الجمال ويشرحها وينتقدها؛ كان ما زال خلال ذلك لم يضبط هو بنفسه تعريفًا دقيقًا للفن وفق آليات التعريف المنطقي، ومن الواضح عندئذ لجميع القراء أن تولستوي كان يرغب في إبعاد مسألة الجمال شيئًا فشيئًا عن عملية تعريف الفن، وسيُصَرِّح بذلك في تضاعيف حواراته مع الأوروبيين، لكن وقبل أن يبدأ في بناء رأيه الشخصي عن الفن وكما أسلفتُ؛ هو يصنف جميع التعريفات الغزيرة للجمال والتي سجلها كلها في تمهيده ذلك؛ إلى صنفين.
يقول: "هذا ويوجد تعريفان فقط للجمال، الأول: موضوعي صوفي، يُوَحِّدُ هذا المفهوم مع العالي الكامل، إنه تعريف خيالي وغير مدعم بشيء، أما التعريف الثاني فهو على العكس بسيط جدًا، مفهوم، وذاتيٌّ. ويَعُدُّ الجمال: "الشيء الذي نال إعجابنا.."، التعريف الصوفي موجود عند هيغل وفيخته وشوبنهاور وأنصارهم من المدرسة الألمانية والفرنسية، والتعريف الآخر هو تعريف كانط وأتباعه وينتشر أكثر بين علماء الجمال الإنجليز، ومن تأثَّر بهم من الجيل الشاب الروسي في عهد تولستوي وهو في كهولته، ولكنه كذلك لا يُرضِي نَهَمَ الأديب ليو في صياغة نهائية للجمال ولا للفن.
ما الفن؟ تعريف مقترح مع شرح لعناصره
وأنا في هذه المقالة؛ أبتدئ باقتراح لتعريف "الفن" حسبما أفهمه من نظري وتأمُّلي في مجموع الفنون التي نطَّلع عليها، وحسب التنظيرات المقترحة بين مختلف المدارس التي أوردها تولستوي وشروحاته لها وانتقاداته عليها وسأقارن بين مُقترَحي هذا وبين التعريف الذي اختاره ليو في نهاية هذه المقالة، وقبل كذلك يجب أن أُنَبِّهَ إلى أن هذا الصنيعَ تمامًا كما جاء في العنوان هو مجرد "محاولة" لبناء مفهوم مُستَجَدٍّ للفن وليس رأيًا نهائيًّا لي ولا مُسَلَّمةً يقينيةً، أسجل هذا أولًا حتى لا يندفع بعض المتخصصين للتهجم على هذه المحاولة. وثانيًا وهو الأهم: لإثارة النقاش في موضوع شديد الحضور في يومياتنا وضروري لكل إنسان سواءً كان من عموم الناس أو ممن أفنَى حياته لمطالعة الفن والبحث عنه، ومع شدة حضوره بجميع أنماطه لكنه خاصة في الجزائر والوطن العربي عمومًا لم يُطرَقْ كثيرًا باب اكتشاف كُنْهِهِ وترسيم حدوده، إذْ هناك قلة قليلة من كتب في الموضوع أو من تحدث عنه في محاضرات يتلاشى معظمها في قاعات الدرس الأكاديمي، ولهذا فإن قراءة هذه المقالة -وقراءة كتاب تولستوي أمر بديهي فوق ذلك- تبعث على التفكير وإعادة التفكير والتدبر في جوهر الفن، وهل كل ما يُعرَض علينا في المتاحف وقاعات السينما وكل الكتب والروايات هو حقيقةً فنٌّ؟ وهل الفن هو فقط ما يقبع في تلك المباني الرسمية شديدة الهيبة؟ فأرى إثارةً للنقاش أنه يمكن وضع هذا التعريف المبدئي للفن بأنه: "صناعة بشرية موجهة لاستثارة خيال المُتَلَقِّي وغير قابلة للاستهلاك".
في هذا التعريف ننأَى عن التوكؤ على عصا علم الجمال الذي انتقد تولستوي إقحامه في محاولات تعريف الفن، فالجمال ليس دومًا جوهر الفن، إذ إن لوحةً فنية ما تصف حزن طفلة على فراق أُمِّها في الحرب أو عمليات التهجير القسري للسكان الأصليين من طرف الاحتلال مثلًا؛ لا يمكن وصفها بالجمال بل هي على العكس تمامًا تقدم صورة عن بشاعة البشر، نعم؛ الجمال يكمن من جانب آخر وهو قدرة الرسام على جعلنا نرى عِظَم ذلك الحزن والألم ونشعر به أكثر مما كنا عليه، وتلك القدرة الفنية توصف بالجمال مجازًا فقط لا حقيقةً، والمَجازات لا مكان لها في الحدود (التعريفات)، كذلك ستصبح اللوحة جميلةً بعد مُضِيِّ عقود أو قرون على انتهاء تلك المأساة لتتحول اللوحة إلى رمز جمالي تاريخي لكونه أرَّخَ لحِقبة مريرة للإنسانية (لوحات تأريخ الحروب الكبرى والهجرات الكبرى هي لوحات جميلة؛ لأننا لم نعش تلك الحروب وتلك الهجرات، نحن نراها جميلة لأنها كانت قادرة على توصيف تلك الحوادث المأسوية بأقصى ما في الوُسْع البشري وتخليده عبر قرون).
ومن خلال مفردات التعريف الذي أقترحه؛ فإن مفردة "الصناعة" تعني العمل المسبوق بإرادة داخلية، وسأورد تنبيه تولستوي على ذلك، و"الصناعة البشرية" ضابط يُخرِج ثلاثة أشياء: أوَّلًا ما كان فعلًا بشريًا لكنه ناتج عن غير إرادة، وثانيًا ما كان من مظاهر الطبيعة، وثالثًا ما كان من أعمال الآلة (مثل منتجات الذكاء الاصطناعي)، وكل هذه الأنواع الثلاثة سوف يُطْلَق عليها وصف "الفن" مجازًا فقط، وعبارة "موجهة لاستثارة خيال المتلقي" تعني أن الفن هو عمل بشري يستهدف به صاحبُهُ إثارة خيال الآخرين دون تحديدهم بفئة معينة كما في بعض التعريفات التي أوردها تولستوي، و"المتلقي" قد يكون فردًا أو جماعة، وقد تكون الجماعة صغيرة أو كبيرة، عرقية أو غير عرقية، محددة بعلامات ما أو عشوائية تمامًا.
فالرسمة التي ينجزها طفل صغير ويقدمها لوالدته هي فن في نظر الأم دون ريب حقيقةً من غير مجاز، واستهداف خيال المتلقي أرى أنه أهم جزء في التعريف المقترح؛ لأنه يوضح علاقة الفن والمنتَج الفني بالمتلقي ويُبطِل تلك الآراء المتعددة الواردة في كتاب تولستوي التي تركز إما على شيء غامض (روحي أو إلهي) انطلق أصحابه من خلفيات دينية مسيحية، وإما على الجانب الفيسيولوجي للإنسان وهي تعريفات تستهدف الحواس كالنظر والسماع وبذلك تشترك مع اتجاه أصحاب التلذذ، إذ إن اللذة مُناطة بالمادي أكثر منها بالمعنوي، وسأوضح فيما بعد أن الفن معنى لا مادة.
تولستوي بعدما شرع يسجل ملاحظاته هو ومحاولاته لتعريف الفن؛ ضرب مثالًا صغيرًا فقال: "وإليكم مثالًا بسيطًا آخر: إن الطفل الذي عانى فَرَضًا من الخوف عند لقاء الذئب، وبغية إثارة المشاعر التي عاناها عند الآخرين يتحدث عن هذا اللقاء ويصور نفسه، ووَضْعَهُ قبل ذلك اللقاء، يصور الوضع، الغابة، وعدم اكتراثه، ثم يصور منظر الذئب وحركاته والمسافة بينهما وما شابه ذلك، فإذا عانى الطفل في أثناء حديثه ثانية من المشاعر نفسها التي عاناها سابقًا، وإذا أعدى المستمعين إليه، وأرغمهم أن يعانوا كل المشاعر التي عاناها هو؛ فهذا هو الفن، واذا لم يكن الطفل قد رأى الذئب إنما كان يخافه غالبًا، وإذا رغب في أن ينقل مشاعر الخوف التي يحس بها إلى الآخرين، وأخذ يختلق لقاء مع الذئب ثم بدأ يتحدث عن اللقاء بصورة تثير في المستمعين المشاعر ذاتها التي عانى منها وهو يتخيل الذئب، فهذا أيضًا هو فن.
وسيكون فنًّا أيضًا إذا ما عانى إنسان ما في الواقع أو في الخيال من فظاعة العذابات أو روعة الملذات، ثم عبَّر عن هذه المشاعر على قماش كتاني أو لوحة مرمر بحيث يُعْدي الآخرين، وسيكون فنًّا كذلك إذا ما عانى إنسان ما أو تخيل لنفسه شعور الفرح والسعادة، أو الحزن أو اليأس أو النشاط أو الكآبة، وإذا استطاع أن ينتقل من حالة إلى أخرى من تلك الحالات، وأن يعبر بواسطة الأصوات عن هذه الأحاسيس بصورة تُعدِي المستمع بهذه الأحاسيس وتجعله يعاني مما يعاني هو".
لقد ركَّز تولستوي إذن على مفردتين هما "الإحساس"، والقدرة على "العدوى" بنقل تلك الأحاسيس إلى الآخرين بحيث تجعلهم ينفعلون بها كما تنفعل بها أنت، وهذا هو ما عبَّرنا عنه في التعريف المقترح بعبارة "موجهة لاستثارة خيال المُتلقِّي"؛ لأن استثارة خيال الآخر هي القدرة على إعدائه والتأثير فيه بما يجول في خيالنا نحن من أحاسيس، فالطفل الذي استطاع أن "يخلق" فيمَن حوله مشاعرَ الخوف والانبهار باستعمال الكلمات والملامح هو "فنان" لأنه صنع مشهدا فنيًّا نقل به أحاسيسه هو من داخله إلى دواخل من حوله من أُسرة وأصدقاء، و"الخيال" وحده هو الذي جعلهم ينفعلون بما ينفعل به هو.
لذا فإن استدعاء الخيال لتعريف الفن يجعل أمامنا مرتكزًا ثابتًا يمكن الاتفاق عليه ولا ينازع فيه لا أصحاب الأديان ولا اللادينيون؛ لأن الخيال قوة إنسانية عقلية يعترف بها هؤلاء جميعًا، وهي القوة التي تتفاعل مع المنتج الفني بكل أنواعه، سواء المرئي أو المسموع أو المعقول أيضًا، ونقصد بالمعقول ما لا يتلذذ به الحس حتى وإن كان واردًا من خلاله مثل الآداب، فهي وإن كانت مقروءة باللسان ومسموعة بالأذُن إلا إنها ليست كالموسيقى التي يتلذذ بها السمع بل هي معانٍ معقولة تورث حركة في الخيال الإنساني.
وأما الجزء الأخير من التعريف وهو عبارة "غير قابلة للاستهلاك" فهي لتحاشي الصناعات البشرية الاستهلاكية مثل الأغذية والأشربة والألبسة والأغطية وغيرها، فهي وإن كانت قد تثير الخيال لحظة ما فإنها تُستهلَك في زمن محدد سواء أكان قصيرًا (الطعام) أم طويلًا (الغطاء).
وقد يُطرَح سؤال بسيط عن تلك المنتجات الفنية التي تُباع وحدها أصالةً أو تباع حين تكون عَرَضًا من أعراض مادة استهلاكية. مثال الأول: اللوحات الفنية والكتب، ومثال الثاني: رسمة على فراش منزلي، هل تعد داخلة في تعريف الفن أم لا؟
فنقول: إن الجوهري في المنتج الفني هو معناه لا مادته؛ لأن تلك اللوحة تتكون من مجموعة مواد متوفرة في الطبيعة لكل أحد منَّا، لكن وجودها في شكل فني لم يحصل إلا بعد عمل الفنان عبر عدة مراحل من التحويل والتشكيل والتلوين وغيرها، وهذه الأعمال وأثرها هي أشياء ونتائج معنوية لا يمكن الإمساك بها، لذا فإن تلك اللوحة حتى وإن بَلِيَت وتحطمت وتلاشت وانتهى عنصرها المادي فهي باقية بمعناها في "خيال" المتلقي.
والأمر نفسه تمامًا حين نقتني كتابًا ونطالعه ثم بعد زمن معين يُهتلَكُ ويتمزق أو يصيبه سائل فتذهب منه كتابته ويصبح غير قابل للقراءة ثم يتحول إلى بقايا ورق بالٍ ويفنَى، فالذي فَنِيَ هو الكتاب المادي لا محتواه، والكتاب الذي هو ورق وغلاف وتجليد هو حامل للفن (النص) وليس هو الفن بحد ذاته، والذي أثار خيال المتلقي (القارئ) هو النص لا الورق مجردًا؛ لأن بإمكان القارئ أن يقرأ المحتوى في صيغة إلكترونية ويمكن طباعة ما لا يُحصَى من النسخ من ذلك الكتاب بعينه ولا يتغير المحتوى ولا يتبدل ولا يُضاف إليه أي شيء آخر بكثرة نُسخه واختلاف صِيَغِهَ ورقيةً كانت أم إلكترونية، كذلك ما يتعلق بالمواد الاستهلاكية البحتة التي تحمل أشكالًا فنية ما، فإن الاستهلاك الحاصل لذلك المنتَج لا يجعل الجزء الفني فيه مستهلَكًا هو الآخر؛ لأن ذلك الذي اقتنَى تلك المادة بغرض استهلاكها إن كان من متذوقي الفن فإنه سوف يبقى مأسورًا بتلك الصورة المصاحبة للمادة الاستهلاكية، وهذا هو الفرق الذي جعلنا نستثني في التعريف ما خُصِّصَ للاستهلاك بأنه ليس فنًّا، وهذا يُزيح كثيرًا من الغموض الذي ورد في تعريفات كثيرة للغربيين تختلط فيها الفنون بالأطعمة والأشربة.
وقد غلب على هؤلاء جميعًا عنصر التلذذ الحسي خلال وضعهم لتلك التعريفات الناقصة للفن؛ كما أشار إلى ذلك ليو في لاحق الصفحات حين راح يؤرخ للعقيدة المسيحية وكيف جرى تشويهُها تمامًا حتى باتت مزيجًا من عقائد الوثنيين البدائيين من الشعوب البربرية التي سيطرت عليها روما، إذْ يرى تولستوي من خلال إفاضة طويلة في نقد المسيحية أن تلك التعريفات الفيزيولوجية للفن والتي تعتمد على عنصر التلذذ؛ إنما جاءت نتيجة لغياب مبادئ المسيحية الحقيقية (التوحيدية العادلة التسامحية التي نشرها السيد المسيح عليه السلام) وسيطرة مبادئ المسيحية الكَنَسية (الوثنية) التي استغلتها الطبقة السياسية (عهد قسطنطين وكارل العظيم وفلاديمير) وطبقة الأثرياء لبقاء امتيازاتهم أمام الطبقات البسيطة، فكان ظهور الأعمال الفنية الكبرى متناسقًا مع ما كان يؤمن به هؤلاء القادة والحُكَّام والأثرياء وما كانوا يتصورونه تجاه الفن؛ بأنه شيءٌ من اللذائذ الحسية الشهوانية، وبذلك وعبر تراكم كبير لهذا التوجه السلطوي الكنسي؛ نشأ تدريجيًا مفكرو أوروبا في هذا الوسط "اللذائذي"، وعكفوا على تعريف الفن بقوة اللذة التي تفرضها توجهات أصحاب السلطة وأصحاب المال.
يُرافع تولستوي بشدة أمام هذا التيار المادي وينتقد أصحابه بشدة ويرى أنهم مجرد أدوات سلطوية (سلطة السياسي والكَنَسي وصاحب المال) لابتكار مفهوم للفن والجمال على ما يتناسب معهم تمامًا، ومع عقيدتهم الوثنية المادية.
يقول في إحدى فقراته الرائعة تلك في تأريخ تحوُّل المسيحية وكيفية تأثير التدين الكنسي على الفنون: ".. فإن أناس هذه الطبقات المسيطرة الغنية: الباباوات والملوك والدوقات وأقوى الناس في العالم ظَلُّوا دون أي ديانة، وتمسكوا بالقشور الدينية فقط، ولم يَعُدُّوها مفيدة وحسب؛ بل ضرورية أيضًا؛ وذلك لأن هذه العقيدة تسوغ التفوق الذي كانوا يتمتعون به، وأما من حيث الجوهر فإن هؤلاء لم يكونوا يؤمنون بأي شيء كما لم يؤمن بشيء سكانُ روما المثقفون في القرون الأولى، على أن السلطة والثروات كانت في أيادي هؤلاء الناس، وهم بالذات من شجَّع الفن وأشرف عليه، هذا وقد ظهر بين هؤلاء الناس فَنٌّ لا يقوم على أساس مدى تعبيره عن الأحاسيس النابعة من وعي الناس الديني؛ إنما من خلال مدى جماله، بمعنى آخر مدى تأمينه للملذات فقط".
ويقول أيضًا بعد ذلك: "وظل هؤلاء الناس دون أي عقيدة دينية، ولأنهم ظلوا دون أي عقيدة دينية فلم يكن بوسعهم أن يملكوا أي معايير لتثمين الفن الجيد أو السيئ سوى معيار الملذات الشخصية، وإذْ اعترف ممثلو الطبقات العليا في المجتمع الأوروبي بمقياس الخير على أنه اللذة أي: الجمال؛ فقد رجعوا إلى الفهم الفظِّ للإغريق البدائيين: الفهم الذي أدانه أفلاطون، ووفقًا لذلك الفهم تشكَّلت نظرية الفن وسط أولئك الناس"، هكذا ينتقد بقوة البورجوازيُّ الروسي "التائب" من بورجوازيَّته ما قدَّمه أو ما اقترحه علماء الفن والجمال الأوروبيون ناظرًا إليهم أنهم ليسوا أكثر من بدائيين وضحايا للتديُّن الكنسي الشكلي الوثني.
التعريف المقترح يتحاشى الأحكام السابقة
وبالنظر إلى التعريف الذي اقترحناه بهذا النحو؛ فإنه يتخلَّى عن إعطاء أحكام سابقة لإرغام المتلقي على امتداح فنٍّ ما أو هجائه، فالفن بهذا التعريف يكون فَنًّا مطلقًا من غير تحديد هل هو فن عظيم أم تافه (جيد وغير جيد، جميل وغير جميل) وهل هو فن خيريٌّ أم شرير، فهذه الأحكام متروكة للمتلقي بحسب عدة أدوات تجعله يتخذ هذا الحكم أو ذاك، ومن بينها أداة "الذوق" ومفهوم "الجمال" نفسه، فضلًا عن الأخلاقيات الدينية والتوجهات الفكرية والسياسية، وفضلًا عن طبائع الناس واختلافها الشديد، وغيرها من المحددات التي يمكنها أن تحدد منطلق حكم الناس أفرادًا وجماعاتٍ على جودة ذلك الفن أو على خيريَّته من عدمها، فنَشيدُ انتصار المحتل هو "فنٌّ"، ثم هو فن عظيم في نظر أصحاب الاحتلال وهو فن رديء وشرير في نظر أصحاب الأرض، ولوحة "العشاء الأخير" هي "فن"، ثم هي فن عظيم في نظر الأوروبيين وكثير من اللادينيين وكثير من المسيحيين وحتى من جماعات أخرى، لكن هي فن عظيم كذلك لكنه "شرير" في نظر مجموعات أخرى من المسيحيين والمسلمين لكونها تتجرأ على محظورات دينية مثل تصوير الأنبياء ونحو ذلك، وهكذا كل الأعمال الفنية كالروايات والسيمفونيات والمسرحيات واللوحات والمنحوتات وغيرها؛ تُصَنَّفُ كلها جملة وتفصيلًا في مجال "الفنون"، ويُترَك للناس أفرادًا وجماعات أن يحكموا عليها بالجودة والخيرية والجمال.
وفي هذا السياق يقول تولستوي: "إن الأحاسيس مهما تنوعت سواء كانت قوية جدًا، أو ضعيفة جدًا أو خاصة جدًا، أو تافهة جدًا، أو سيئة جدًا، أو جيدة جدًا، إذا انتقلت بالعدوى إلى القارئ والمُشاهد والمستمع فهي بذلك تصبح مادة للفن، إن أحاسيس نكران الذات والخضوع للقدر أو للإله التي تعبر عنها الدراما، أو غبطة المُحِبِّين المدوَّنة في الرواية، أو المشاعر الشهوانية المرسومة على اللوحة، أو البهجة التي تثيرها الرقصة أو الفكاهة التي تخلقها نكتة مُسَلِّيَة، أو شعور السكينة الذي تثيره رؤية الغسق، أو أغنية مهدهدة.. كل هذا هو فن". ويُضيف مؤكدًا على مسألة "العدوى" قائلًا: "إذا انتقلت بالعدوى تلك المشاعرُ التي عانى منها المُؤَلِّف إلى المُشاهد والمستمع.. فهذا هو الفن ذاته"، فالموضوع لا يدور بتاتًا على "الجمال" ولا على "الخيرية" ولا "الجودة"، وهو ما يوضح بقوة أن الأحكام الدينية لا تنطبق على مفهوم الفن كمفهوم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنشد من أشعار أمية بن أبي الصلت وهو شاعر نصراني، ويستكثر منها.
يُضيف تولستوي في موضع آخر مؤكدًا على موقفه من كل التعريفات الموضوعة من طرف الأوروبيين: "الفن ليس كما يقول الميتافيزيقيون إنه ظهور أفكار ما سرية أو جمال أو إله، وهو ليس كما يقول علماء الجمال الفيزيولوجيون: لعبًا حيث يصرف الإنسان طاقاته الزائدة، وهو ليس ظهور الانفعالات بواسطة الإشارات الخارجية، وليس بنتاج المواد الشيقة، والأهم أنه ليس لذةً، إنما هو وسيلة اختلاط بين الناس ضرورية من أجل الحياة، ولصالح تطور الإنسان والإنسانية نحو الأفضل، وسيلة توحد الناس في أحاسيس واحدة".
يلاحظ أن ليو تولستوي يحاول بكل قوة اجتثاث الفن من متاهات النزعة الروحانية ومن براثن النزعة الحسية ويرى أنها تعريفات مبنية على أيديولوجيات ضيقة، ويسعى أن يجعل منه نشاطًا إنسانيًّا طبيعيًا كسائر الأنشطة التي تعبر عن إنسانية الإنسان. فالفن ضرورة مثل أي نشاط يفعله البشر بحكم طبيعتهم، وهو بذلك يؤرخ للفنون -من فحوى الخطاب- بتاريخ ظهور الإنسان نفسه. فالإنسان قد مارس الفن منذ أول وجود له تمامًا كما مارس سائر نشاطاته التي بها يتحدد الإنسان (مثل الأكل والكلام والحركة والعلاقة الجنسية والاستراحة..) أو بعبارة أدقَّ: مثل الأنشطة الاجتماعية التي يمارسها الإنسان والكلام مثال جيد لذلك، فالفن هو وسيلة أخرى للتواصل، ويركز تولستوي من ناحية أخرى على هدم عنصر "اللذة" في تعريف الفن، لأن النشاط الإنساني الضروري سيحصُلُ ويظهر مهما كان الشعور إزاءَه سواء كانت هناك لذة أم لا، بل قد تكون هناك آلام وأحزان مُصاحبة لصناعة الفن، كما أنه قد يورث تلك الأحاسيس المشؤومة نفسها حين يتلقاه الآخرون.
ونلاحظ بجلاء أن تعريفات التطوريين أمثال تشارلز داروين تسقط تمامًا في عمل تولستوي، لأنها لا تفرق بين الفن واللعب، الفن البشري بحسبهم هو نوع من اللعب يشبه لعب الحيوانات، وهذا التعريف متناسب مع النظرة الانحطاطية لداروين تجاه البشرية، الذي أراد تتفيهَ الفروقات بين الإنسان والحيوان، ولا بد أن نسجل اعترافنا بقدرة تولستوي على نسف كل المحاولات الأوروبية في تعريف الفن والجمال، فهو بعد إيراد حشدٍ كبير منها من مختلِف المدارس يُعمل فيها معاول الهدم ويضع إصبعه على مواضع النقص فيها واحدًا تلو الآخر، حتى مع اعترافه بتأخر دراسة هذا المجال في روسيا فإنه كان مصممًا -لا ريب- على أن يكون رائد علماء الجمال والفن في بلده، ليس ريادة تقليد للأجنبي بل ريادة تحقيق وبناء وحداثة، وهو ما يجب أن يكون عليه كل محقق وكل كاتب وباحث في مجال عمله؛ لأن الغاية من الكتابة ليست تكرار ما سبق بل الإتيان بما هو جديد ويستحق أن تكون له مكانة في المعارف، وهذا هو جوهر مفهوم الحداثة: التغيير المعاصر، فحسب.
ثم في آخر الاقتباسات؛ أنقل هذه العبارة كذلك فيما يمكن أن نقول إنه تعريف تولستوي للفن، يقول: "الفن هو نشاط إنساني يكمن في أن يقوم إنسان ما بِوَعْيٍ وبواسطة إشارات خارجية معروفة بنقل الأحاسيس التي يُعاني منها إلى الآخرين، والآخرون يُعْدَوْن بهذه الأحاسيس ويُعايشونها"، وهذه العبارة ليست مانعة، إذ هي لا تتحاشى المواد الاستهلاكية؛ لأن الفن غير قابل للاستهلاك، وهي عبارة مطاطة لم يُراعَ فيها ضوابط الحد المنطقي، فهي من "الرسوم" لا من "الحدود"، ولكن بكل حال يمكن الاعتماد عليها لمعرفة كيف كان ينظر تولستوي إلى الفن.
الفنون الجميلة؟
وعَوْدًا على مسألة الجمال التي استنكر تولستوي إقحام الأوروبيين لها في تعريفاتهم المختلفة للفن؛ فإنه ينبغي لي التنبيه على خطأ متكرر في أكاديميات الفنون في أنحاء العالم تقريبًا، وهو وصف تلك المباني بأنها قاعات أو متاحف للفنون "الجميلة"، هذا الوصف الزائد هو مشكلة ديكتاتورية في نظري شديدة الخطورة في علاقة الفنان والمُعَلِّم الفني والمتدرب الفني والمجتمع؛ لأنها تفرض شيئًا غير قابل للنقاش وهو أن كل ما يُنتَج أو كل ما يجري التدرب عليه داخل هذه القاعات أو كل ما يجري عرضه في تلك المتاحف هو "فن جميل" بالضرورة ودون أي مجال للتشكيك، وهذه ممارسة ديكتاتورية مرفوضة بالمنطق الفني نفسه الذي يعتمد على عرض المنتَج الفني على الجمهور لمعرفة آرائهم فيهم، فإذا كان الفن لا يكون فَنًّا إلا بظهوره من طرف الفنان ووصوله إلى المتلقي لاستثارة خياله؛ فإن المتلقي أصبح جزءًا أساسيًا في عملية الصناعة الفنية هذه؛ لأن لا فن من دون وجود لِآخِذٍ له ومُتَلَقٍّ له يتلقاه عن طريق خياله ليحكم عليه ويقدم رأيه فيه، وما دام الفن هو عملية تواصلية بين طرفين (مُبدِع ومتلقٍّ) فإنه لا معنى لإضافة وصف الفنون بـ"الجميلة" على لافتات المعاهد والمتاحف والقاعات الفنية؛ لأنه يصبح تدخلًا مكشوفًا من طرف ثالث هو "الرسمي" و"السياسي" في العلاقة الثنائية التواصلية بين الفنان وجمهوره، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر إذا سلَّمْنا بأن جميع الفنون هي فنون جميلةٌ بأي معنى من معاني الجمال كانت وبأي زاوية من زوايا النظر؛ فإنه يصبح لغوًا من الكلام أن نُضيف وصف "الجميلة" للفنون التي كلها -بهذا التوجيه- هي جميلة!
الدِّين والفن المزيف عند تولستوي وملاحظات أخرى
الأفكار التي سجَّلها الأديب الروسي تولستوي في كتابه العبقري "ما هو الفن؟"، فإنها وإن حازت إعجابي الكبير بتشييدها لعهدٍ جديد وثوري في الفن الأوروبي في عصره؛ وإنها مع شهادة الفنان الروسي الكبير ستاسوف بعد اطلاعه على الكتاب وكتابته هذا الإهداء والتقريظ عليه قائلًا وهو يخاطب تولستوي: "الكونت ليو نيقولايفيتش؛ منذ أن صدر كتابكم (ما هو الفن؟) وأنا أدرسه بغيرة، ولا أكفُّ عن الافتتان به: به كله تقريبًا، أعتقد أنه دشَّن عهدًا جديدًا في الفن لأنه يؤدي بعمق وقوة غير طبيعيين مهمة كتب الفن في زمننا: تبيان وعرض تلك الكمية الهائلة من الآراء الباطلة والأفكار المزيفة التي تراكمت قرونًا عديدة على الفن، والتي كانت تقيده أحيانًا بأصفاد ثقيلة، تبيانها وعرضها على مرأى من الجميع.." (ص: 06)
أقول: ومع قول الفنان والرسام الروسي الكبير إيليا ريبين في رسالة إلى تولستوي: "العزيز ليو نيقولايفيتش؛ فرغتُ الآن من قراءة كتابكم (ما الفن؟) وأشعر بنفسي الآن كُلِّيَّةً تحت تأثير عملكم الهائل هذا، إذا كان من الممكن عدم الموافقة على بعض الجزئيات والأمثلة؛ غير أن الصيغة الرئيسة للمسألة المطروحة عميقة جدًا ودامغة جدًا، حتى إن المرء يحس بالسرور وتنتابه السعادة.." (ص: 05).
مع هاتين الشهادتين في الاعتراف بعظمة أفكار تولستوي الفنية؛ لكنهما تضمَّنَتَا معًا إشارة مُجملة إلى عدم الاتفاق في بعض النقاط مع المؤلف، وهو ما صاحبني وأنا أطالع صفحات هذا الكتاب الفريد، بدءًا بالتعريف الذي اقترحه تولستوي للفن والذي نقلتُهُ في المقالة الأولى وأشرتُ باقتضاب إلى ما فيه من خلل، وأنا هنا أعيد نقل العبارة وأستطرد قليلا بما ترشَّحَ لدي من أفكار أعرضها على القارئ الكريم حتى يَزِنَها بعقله ورأيه الشخصي.
(يتبع بالجزء الثاني والأخير)
مقالة رائعة وتجسد معنى الفن الذي يظل في قلوب محبيه مهما بليت المادة لأن الفن كما ذكرت معنى ومحتوى وليس ورقا ولا قماشا
كل الشكر والتقدير على القراءة والتعليق، بالفعل كما تفضلت؛ الفن هو ذلك الصدق في نقل مشاعرنا إلى الآخرين عن طريق الكلمة والصوت والصورة والحركة، حتى يتمكن الجميع من معايشة تلك الأحاسيس الصادقة وتغير حياتهم إلى الجيد فالأجود، ويعد كتاب تولستوي فريدا من نوعه في تحديد مفهوم الفن الحقيقي وتمييزه عن الفن المزيف... ونحن بحاجة إلى هذا في عصرنا..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.