قراءة في قصيدة 'إفريقيا ' للدكتور داود بن عبد الباقي

يصبّ الدكتور شعوره في هذه القصيدة التي تحمل هموم محسٍّ مرهَفٍ تجاه وطنه، ويبكي على ما تحولت إليه إفريقيا التي منّ الله عليها، ويريد أن يوصل هذا البكاء الذي لا يسمع له أحد أنيناً ولا يُرى له دمع.

قد يعجبك أيضًا العرب وأهتمامهم بالشعر دوناً عن كل فنون الأدب الأخرى

الفساد في إفريقيا

ولعل القصيدة رسالة يوجهها الشاعر عقِب زيارة بعض الوفد العربي من السعودية إلى مركزه بأوغجو، وأيًّا ما كان الأمر فإن الشاعر يحاول أن يقول لنا إن إفريقيا لا يمنعها أن تبلغ مستوى أوروبا وآسيا بناءً وعمرانًا إلا سوء سياسة القادة، ولنرَ النفس الحساسة التي في القصيدة:

إفريقيا أرضنا والله يحميها          من كل شرٍّ ومن أيدي حراميها

كأن سائلاً يسأل: أين وطنك؟ فكان هذا البيت جواباً وتأكيدًا أو أن الشاعر بنفسه يريد إخبارنا عن مدى الفساد في وطنه.

ونفهم ذلك من الشطر الثاني من البيت، وعندما يعتزّ الإنسان بوطنه الفاسد ويقول: الله يحميه من الشر ومن أيدي حراميه، ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني أن الشاعر يسوءه حال وطنه داخلياً، ونفسه غير مرتاحة إلى هذه الدناءة التي قد وُجِدَتْ فيه، ونفس الشاعر لا تتحمل هذا الأذى الذي يصيبه من تدهور هذه الحالة المبكية، ولم يجد الشاعر من يلوذ به إلا الله سبحانه وتعالى.

ونلحظُ كيف يصور لنا الشاعر نفسيته من: "يحميها، وحراميها"، فهنا أسرار لا يكشفها إلا من يستطيع أداء هذه المخارج أداءً موفّقًا، فالياء والألف من قبيل واحد، وهو ما يسميه علماء الصرف حروف العلة.

إفريقيا إنها أرض مباركة               وجوّها لهموم الدهر يُنسيها

سبق القول إن الشاعر كأنه قيل له: حدّثنا عن إفريقيا فأعاد بعد أن عاد، فأكّد للسائل ماهيّته، وهو يحاول يُثبت هويّته، فكأنه يقول للسائل ولم يصرّح: ألم تعلم أن إفريقيا أرض مباركة.

فهذا نفي لأقوال من يبغضون انتساب أنفسهم إلى إفريقيا، ونفي لقول من يقول: ليس في إفريقيا سعادة، ويعود في الشطر الثاني يقول: جو إفريقيا يُنسي الهموم لمن عرف ذلك.

قد يعجبك أيضًا الواقعية عند الشاعر السبتي وبعض قصائده

البركة في قارتنا الخضراء

فانثرْ عليها نوًى تحصدْ بلا أملٍ       من دون كدٍّ ولا بذلٍ ينمِّيها

من بركة أرض إفريقيا أنك إذا زرعت فيها اخضرّت وأثمرت ثمرات يانعة، هذا كلام عادي، ولكن الكلام الذي يريد الشاعر أن يفهمه للمتلقي أن الكسالى من الأفارقة في الخارج الذين خرجوا بدعوى التعاسة فيها عرفوا هذا الأمر.

ويتألم الشاعر عليهم أنهم تركوا الجنان كسلًا وراحوا إلى ما ليس فيه شيء، ويقول الشاعر: إن هؤلاء لا يشكرون النعَم التي أسبغها الله عليهم؛ لأن الذي يرزع ولا يسقي ولا يجهد واجب عليه الشكر على نعمة الطعام الذي أخرجه الله له من الأرض.

والشاعر يلفت النظر إلى كلام بني إسرائيل الذين قالوا: " فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ …"، وقال: "اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه" البقرة 61، أو أهل سبأ:"جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ" سورة سبأ 15، كناطحات

سحابٍ نخلها بسقتْ            كذا عجائبُ أشجار تلاقيها

هذه الزروع التي يتكلم عنها الشاعر طويلة طولاً عظيماً، بقي أن يُسأَل الشاعر: هل تصف لنا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار؟

ولكن الشاعر سيقول: معاذ الله أن أصف لكم ما لم أرَ قطّ، ولكني أصف إفريقيا، وإذا أجاب الشاعر بهذا الجواب الرائع، فما للسائل إلاّ أن يزورها إذا كان غير إفريقي.

يدعونا الشاعر إلى تأمل مناظر أجواء إفريقيا وحدائقها؛ لأن ناطحات السحاب تدعو إلى الحس واللمس، والأشجار العجيبة تستدعي النظر المصوّر.

ويقول الشاعر في هذا البيت أيضاً: إن إفريقيا التي يسميها بعض الأجانب غابة هي التي تُطعِم الدنيا، مثل مصر التي اشتهرت بالقمح وغيره، وإثيوبيا تشتهر بزراعة القهوة، وكذلك بقية البلدان.

ترى العصافير في الأشجار منشدةً       برقرقاتٍ غريباتٍ معانيها

قد يعجبك أيضًا أحمد خالد توفيق واقتباساته وهل كتاباته تستحق القراءة؟

جمال إفريقيا وروعة زروعها وأشجارها

من اتساق الأشجار في إفريقيا وجمال الأغصان فيها أنك ترى العصافير التي تغرد وتغني، وليس هذا مراد الشاعر، بل مراده أنك بدلاً من أن تسمع الضجيج والصخب والضوضاء فيها إلا أنك تسمع الأصوات الجميلة، وتطمئن النفس إلى هذه الحدائق الغنّاء، ولا تنزعج النفس منها.

وبهذا يقول الشاعر أيضاً: إن السياحة فيإفريقيا تكفي وتشبِع، وهذه إفريقيا التي يصفها الشاعر ليس حقها الهجران، بل تستحق العمران.

فأمتع النفس مرتاحاً بجانبها                وعشْ حياتك بالإمتاع تقضـــيها

مفكراً تحت أزهار معـــــطرة             بالشدو والعود قد حُفتْ نواحيها

واستنشقنّ هواءً طاب مورده               فذا يجـــــلس شجايا قد تعانيها

الحياة التي يصفها الشاعر كلها صافية في وضح النهار، وهي واضحة إذا لم تغشَها عتمة، هذه الأوصاف الجميلة ليست مختلقةً أبدًا، ولا يتكلفها الشاعر.

والشاعر ينفي بعض أقاويل قيلت عنها، ويقول إنها ليست نتنة كما يقال، وما بقي للمتلقي الأجنبي إلا أن يقول: غداً أزور إفريقيا..

من عاش في جوها لا يستقر له                   طقس سواه بما يعتاده فيها

إلا الذي لبيـــــــــوت الله يعمرها                 أو من يقوم بطاعاتٍ يؤديها

لا متعة في حياة المرء فائــــقة                   بطاعة الله لا شيء يضاهيها

يردّ الشاعر على القائلين بأن إفريقيا غابة بأنها موطن فيه سلام وأمن واستقرار، وأن جوها أفضل الأجواء على مستوى العالم، واستثنى العابد الساجد لله تعالى.

وليس هذا مراد الشاعر، وإنما مراده هنا هو أن إفريقيا لم يعرف قيمتها الأفارقة الذين في الخارج والداخل، والشاعر يتكلم بلسان ثقافته وعين حضارته التي أبصرتْ ما في بلدان أخرى.

وهو يقول: أيها الأفارقة مهما كذَبَكم غيرُكم فإنكم محسودون على إفريقيا.

قد يعجبك أيضًا قصائد شعرية | قصيدة شيعت في ذاتي جنازة

اعتزاز الشاعر بأصله

يصف مفدي زكريا الجزائر ويقول:

ويا بسمة الرب في أرضه               ويا وجهه الضاحك القسمات.

لا زلت في وصف أوطاني بإفريقِيا حتى أَرى لا يُرى بالعيب راعيها

إني بوصفك أوطاني لمنـــــــبسطٌ     فأنت مثل قصور المجد أبـــــنيها

فأتوا إليها رجالا أو بمركبـــــــــة     فَباسم ربي مرساها ومجـــــــريها

يعتزّ الشاعر بكونه إفريقيا، وليس لشيء آخر، ويوجه الشاعر الرسالة إلى من يرى العيب في انتسابه إليها من الأفارقة.

نرى شوقي يصف مصر:

وطَنٌ يرفُّ هوًى إلى شبّانه                 كالروض رِقّته على ريحانه

هم نظمُ حليته وجوهرُ عِقده                 والعِــــــــقد قيمته يتيم جُمانِه

يقول الشاعر: لو كان الأفارقة مثلي، ورأوا ما رأيت، لما رأوا العيب في ادعاء إفريقيّتهم.

هذا هو الجزء الأول من القصيدة، أما الجزء الثاني فهو يُدمي العيون.

وإن تزرْ في غرب إفريقيا               فلتستشرْ أهلها ما دمت تنويها

وقد تفاجأ أن النور منقطعٌ               شهراً فإني خبــير من أهاليها

فلتصطحب لمبةً إن كنت طارقَها       ولتأْتها ضحوةً لا في ليالــيها

واجعلْ بجيبك نيرات تقدّمها             بغير ظرْف لشرطيّ وتطــويها

هنا أحطّ رجالي لا توصّلني             إلى فساد تفشّى في مشـافيها

إلى فساد تعدّى كل دائرةٍ                  إلا دوائر فيها خير من فــيها

هذا مجمل فساد إفريقيا بلا استثناء، يقول الشاعر: إن هذا الفساد طارئ عليها، فهو سيزول، ولكن هذا الفساد لا يمنع من زيارتها.

 قد يعجبك أيضًا

-التّهويدة..تعويذة الأمهات الأسطورية

-الكتابة الإبداعية والأفكار التقليدية والمنطق الذي حولهم

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة