نُشرت قصة «الحركات المدهشة» للكاتب «ياسر محمود» من محافظة السويس، بصفحتي 75 و76 بالعدد الأول لمجلة "المرجان"، لعام 2021.
وهي مجلة أدبية ثقافية يصدرها إقليم القناة وسيناء الثقافي، التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة، وهي قصة تطرح الأفكار بطريقة فلسفية تخيلية.
اقرأ أيضاً كتاب"مختصر تاريخ العلم".. رحلة الإنسان والعلم بترجمة أحمد الزبيدي
ما الذي تتناوله قصة "الحركات المدهشة"؟
قد جعل الكاتب الشارع شخصًا يحكي ما يراه ويسمعه من حوله من أشياء وبشر، بل يتفاعل مع البطل الراوي للقصة، للدرجة التي جعلت الراوي يطلب من الشارع الرحمة!! «.. فوجئت بالحدث، بغتة شملني والتهمني، ركعت طالبًا من الشارع الرحمة!!».
التشبيه والإسقاط، فهل للشارع قلب وشرايين وأوردة مملوءة بالدماء يمكن أن يُجرح فينزف دمًا؟! ما يجعله يستغيث بالمارة ويطلب المساعدة، فيأتي أحدهم له بطبيب جراح لإسعافه وإنقاذه!
وقد نعته الكاتب بأنه طبيب ماهر يمتلك أدواته «نزف الشارع دمًا لا بل أسفلتًا وزلطًا ورمالًا وأخذ يستغيث بالمارة، تجمع المارة حول الشارع، بدؤوا في الصراخ والعويل والندب ولطم الخدود، وأشار أحدهم إلى الطبيب من بينهم، نحوني جانبًا وكل ما نزفه الشارع فوقي، أخرج الطبيب أدواته، بحرص، وبحرفية».
الآن عرفنا بأن الشارع قد جرح ونزف وقد هرع الطبيب لإغاثته، فمن المتسبب في جرحه وما الداعي لذلك؟! قام الشارع «سرعان ما صرخ في الحب والكبرياء..»، ويعرف الخوف من الوقوع في الحب بـ«الفيلوفوبيا»، فما كان من البطل الراوي بأن «أخرجت مديتي وغرستها في قلب الشارع..نزف الشارع».
فأتى الطبيب فاستطاع «أزال المدية من قلب الشارع في حين يتلوى الشارع كالأفعى ويصرخ صرخات مفزعة، وإليه شخصت الأبصار، حيث صنع الناس دائرة حوله لمنع الفضوليين -ممن هم مثلي- من الحملقة في جرح الشارع، "كان من يفعل ذلك قليلين؛ لأن الكل كان يحب الشارع"»، كلمة مُدية: (اسم)، الجمع: مُدُيات ومُدْيَات ومُدًى ومِدًى، المُدْيَةُ: الغايةُ، المُدْيَةُ: الشَّفْرَةُ الكبيرة، سِكِّين، طعنه بمُدْية في صدره [معجم "المعاني الجامع"].
اقرأ أيضاً قراءة في كتاب "المبادئ السبعة لحل النزاع"
التشابه بين المخ والقلب
قد عُرف حديثًا بأن القلب مثل المخ له ذاكرة وبه مخزن لتخزين المعلومات والبيانات الخاصة بصاحبه، وهذا ما وجده الطبيب في أثناء علاجه للشارع، فقد وجد صورًا فوتوغرافية مادةً، وضميرًا حيًّا سلوكًا، وتصرفات مسببات، باقية مصادر للألم «واصل الطبيب الماهر عمله..
كان شيئًا لا يزال يؤلم الشارع، أخرج بحنكة من قلب الشارع صورًا فوتوغرافية مع كل الناس في بلادنا وكل بلاد الدنيا.. رماها بعنف فصنعت دوائر حول جرح الشارع، الشارع لم تنقطع صرخاته وآلامه..
بحث الطبيب عن سبب الألم، أخرج ضميرًا حيًّا لو تركه لمات الشارع من فوره»، فنجد أن الشخص المصاب بالفوبيا، تظهر عليه علامات الخوف عند التعرض لموقف ما، وهنا الخوف من الصور يعرف بـ«أوتوماتونو فوبيا» Automaton phobia.
اقرأ أيضاً قراءة وتحميل كتاب نظرية الفستق للكاتب فهد عامر الأحمدي
ملخص قصة "الحركات المدهشة"
وهنا بتلك القصة «الحركات المدهشة» وصف المؤلف «ياسر محمود» على لسان البطل الراوي لقصته «الضمير الحي» الذي وجده الطبيب بقلب الشارع، وصفًا على عكس الطبيعي والواقعي، فالضمير هو قلب الإنسان النابض، ويقظته جزء لا يتجزأ من حياة قلبه، فالقلب الحي هو صاحب الضمير اليقظان الذي يدرك ما حوله ويستطيع التكيف مع ظروف الأحوال بشفافية وعقلانية دون التعدي على أحد، ومتى اتصف الضمير باليقظة فهذا عنوان سعادة صاحبه، وما تعانيه بعض المجتمعات اليوم من التردي وسوء الحال إنما ذلك بسبب موت الضمير لدى أفرادها، ومن هنا يكون مقصد الكاتب، ألا وهو موت الضمير لدى الشارع، وما يحتويه من بشر داخل هذا البلد وباقي البلدان هو الأمر الذي أضحى طبيعيًّا بين العوام، أما أصحاب الضمائر الحية فهم القلة والخواص.
حتى يثبت الكاتب عالمية المشهد وعموميته، وأن هذا الشارع يعيش في زمن العولمة الذي بدأ بأن العالم قرية صغيرة ووصل الآن مع الثورة التكنولوجية الهائلة أن العالم أضحى بيتًا واحد بغرف متعددة.
فقد وجد الطبيب داخل قلب هذا الشارع المطعون والمجروح الذي لا يزال يتألم وينزف الأشياء الآتية: «اخرج..، كراسي مذهبة..، وأقلامًا ملونه..، وجرائد للمعارضة..، وأقلامًا للروج..، ولاعبي كرة قدم..، ولعب أطفال..، وأمواس حلاقة بشفرة حادة..، وأشياء كثيرة أخرى..
اقرأ أيضاً ملخص كتاب "كيف تصبح إنساناً؟" للدكتور شريف عرفة.. أحداثه واقتباساته
أمراض الشارع المزمنة
رقصت فتاة شاهدت ذلك الفعل في فرنسا فودت أن تصنع مثله، وبعد أن أتمت رقصتها البديعة وضعت قبعتها من أجل أن يعطي الناس الذاهبون والعائدون بعض القروش من أجل الشارع، رفع القساوسة لافتة مكتوبًا عليها صلوا من أجل الشارع»، وهنا أحب المؤلف أن يثبت بأن أمراض الشارع المزمنة والمتوطنة متشابهة تمامًا رغم اختلاف البلد والبشر والعرق والديانة واللون والجنس والأذواق والاهتمامات والمهنة...إلخ.
وفي اعتقادي ما حدث للعالم منذ نهاية عام 2019م وبدايات عام 2020 من جائحة كورونا (كوفيد-19) قد وحدت العالم في صورة واحدة، لدرجة أن أحد رسامي الكاريكاتير قد رسم الكرة الأرضية وهي ترتدي الكمامة، من منظور من يرى كوكب الأرض من أحد الكواكب أو النجوم المجاورة والمحيطة بالأرض.
ينبغي أن توحد الأزمات والمحن الناس، وتدفعهم على اختلاف فئاتهم وطوائفهم للتعاون والإيثار، وجدير بالأطباء وهم ملائكة الرحمة أن ترق قلوبهم لظروف الفقراء بوضع تسعيرة تراعي أحوالهم المالية وألا يكونوا هم والمرض عليهم، ومن هذا المنطلق ناقشت قصة «الحركات المدهشة» للكاتب «ياسر محمود» قصة جشع وسوء سلوك الأطباء، بما فعله به الطبيب في أثناء علاجه وجراحة الشارع المصاب «واصل الطبيب عمله دون أن يلتفت لأي شيء حوله، بل انغمس في ذاته حتى أخمص قدميه في قلب الشارع.. إذ سرعان ما قفز الطبيب في حركة بهلوانية غير عادية وسقط في قلب الشارع.. وأخذ يبحث داخله عن سبب لدائه..، جعل الناس ينظرون إلى الطبيب الذي يسبح في دم القلب محاذرًا وأمواجه تكاد تعصف به..».
ماذا طرحت قصة الحركات المدهشة؟
وطرحت القصة لإشكالية الصوت العالي والألفاظ البذيئة بين الأجيال الجديدة في الشارع المصري، أضحى الأمر يمثل ملامح ظاهرة عامة من الانحدار في لغة الحوار داخل المجتمع، فما أسبابها وكيف نستعيد رقي وأخلاق الشخصية المصرية الأصيلة؟!
ظلت اللغة السردية المكتوب بها قصة «الحركات المدهشة» هي العربية الفصحى إلى أن وصلنا إلى أول حوار داخلها، فجاءت الصدمة، بدأ بحديث وتوجيه من أحد الأشخاص الواقفين يشاهدون ما يفعله الطبيب بقلب الشارع، ووجه هذا المواطن كلامه للطبيب بالعربية الفصحى، إلا أن الرد جاءه من الطبيب بلغة عامية سوقية تصل لحد الهمجية والعنف اللفظي! فهيا بنا نقرأ سويًّا هذا الحوار السردي:
قال أحدهم وهو يزعق:
- احذر البطين الأيمن يدفع كميات دم غير عادية.. لا تسبح في اتجاهه.
ضحك الطبيب ضحكة ساخرة وصرخ به بطريقة فظة:
- وأنت مال أمك.. الشارع ده بتاعي لوحدي!!
بالطبع، عزيزي القارئ الكريم، أتأسف بصفتي كاتبًا لتلك الدراسة عن تلك الألفاظ الضحلة، والواردة في الحوار القصصي السابق.
ولكن كان لا بد من نقله لكم، حتى نستكمل القصة على لسان البطل الراوي الذي تعجبك مثلنا «استغربت للهجته العامية وهو الطبيب الحاصل على درجة علمية ذات شأن، وددت لو استطالت ذراعاي حتى تصل إلى الطبيب فتخرجه بدمه والصور التي أخذ يخرجها من طيات قلب الشارع والذكريات الأخرى التي بين مطباته.. وتحققت بالفعل هذه الرغبة فاستطالت يداي، أخرجت الطبيب من قلب الشارع والدم، والرمال تتساقط من كل جزء فيه.. شعره.. ثيابه.. قدميه».
ما المفيد في المشهد السابق؟
نستخلص من المشهد السابق أن رجل الشارع العادي لديه ثقافة طبية لا بأس بها، فكان يوجه الطبيب بأدب، ولكن قابله الطبيب بسوقية بألفاظ نابية، فمن الواضح أن كثرة الشهادات لا تدل على توافر الثقافة لدى الشخص!!
وفجأة يتحول الطبيب لشخص مختلف تمامًا، كأنه لبس قناع التقوى ولسانه لا يتحدث إلا بالإيمان، كمن هو مصاب بانفصام بالشخصية، وبدأ يتحدث مع الناس ناصحًا أمينًا، «قال الطبيب فجأة: الشارع سيصبح في أفضل حال.. فقط اركلوه بأحذيتكم اليمنى دون اليسرى، وأغلقوا قلبه بأيديكم اليمنى أيضًا، وأنتم تمسكون بكفوفكم حفن الرمال والإسمنت، واقرؤوا له الفاتحة.. اركضوا.. اركضوا في كل سبيل».
حتى وصلنا لنهاية القصة، التي أظهرت النتيجة التي كان يريدها الكاتب من كل هذه الأحداث التي دارت بالشارع، بانفجار الناس بالثورة به، بل مشاركتهم باقي الثورات بميادين وشوارع العالم كافة.
في مشهد توحدت فيه مظاهر الاحتياجات الإنسانية خاصة جوع كل أعضاء البطن من الجهازين الهضمي والتناسلي، فالناس تحركهم دائمًا شهواتهم، إذ سعى هؤلاء الثوار لإنقاذ قلب الشارع سواء بإشعال شمعة لإنارة هذا القلب المظلم، مع قراءة الفاتحة، ولكن للأسف لم يستجب لهم جرح الشارع وأخذ يتسع في كل اتجاه.
في الختام نستطيع أن نقول: إن القاص «ياسر محمود» في قصته «الحركات المدهشة» استطاع أن يخلط النزعة الروائية والتأملات الفلسفية والتأريخ الاجتماعي، متناولًا فلسفة الحركة وسرعتها في تحريك الشارع بمحتوياته، لا سيما حركة الجمهور وتنقل الأشخاص!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.