قراءة في رواية «سيأتيك الغزال» لخليل صويلح

في استنطاق حي له عن مدى أهمية الإنسان وعبثيته على حد سواء، يجوب بنا خليل صويلح صحاري الرغبة الإنسانية، نسير معه بين أعشابها الشائكة ونتمرغ في بيئة حارة من التطلعات الوهمية للإنسان، يُعجب القارئ لحظة أولى بسردية خليل صويلح، فيجعل من الرواية نصًّا واحدًا متكامل الأطراف، لا تحتاج قراءته فقرة فقرة، بل نصًّا واحدًا على المطلق ليُفهم موضوع حكايته.

يدس في سطوره بعضًا من الحنين إلى الكلام الغابر، وقصص الأجداد التي تظل -في نظر كثير- روايات غير قابلة للتصديق أحيانًا، وأحيانًا أخرى قصصًا ملحمية تدور أحداثها في مكان غير معلوم يشوِّه صورة الحقيقة نوعًا ما، عزلة ما بعدها عزلة، وغزالة تركض في الفيافي ركضًا مستقيمًا؛ إذ إن الرابط بين الغزال والطفل الصغير، رابط حسي بحت، فهو يمثل ملاذًا له، الطفل الذي ينمو في عراء موحل يجوب تضاريس أيامه الوعرة، يسرد قصة حياته القصيرة ويرتب بنوع من الإجهاد تفاصيل حكاية شائكة، يحاول بكل عبثية وجود شيء ما في مثل جدته. "سيأتيك الغزال" وهو العنوان الذي يقابل القارئ في الصفحة الأولى الذي يجعله يتساءل أي غزال قد يأتيني؟ 

نوستالجيا الذاكرة، بين الواقع والوهم

في الرواية التي تبدأ مجملًا ببيت للأخطل الذي مفاده:

حي المنازل بين السفح والرحب     لم يبق سوى وشوم الدمع والحطب

يأخذ خليل صويلح بذراع القارئ ويجره إليه بعنف، حين يعرِّج بكل شفافية على حياة البدوي التي تدور أحداثها طبعًا بين الحشرات والأفاعي والعقارب، إذ يفتتح نصه بتوطيد لعلاقة معينة بين يربوع وطفل يربطه من عنقه، وبين جحر يمكن تأويله بأنه مخبأ نفس مضطربة وخائفة تحاول بإجهاد ستر عورتها المفضوحة، هكذا في الأقل يمكن لأي قارئ تأويل النص حسب نظرته ونفسيته. "إن أساس نظرية القراءة هو ذلك التفاعل بين القارئ والنص، فالنص يمتد في القارئ والقارئ يمتد في النص" (وردة سلطاني، مجلة قراءات جامعة بسكرة). بهذه الفكرة يخلص القارئ إلى أن خليل صويلح يشركه في قصته ويجعله يفهمها كما يريد.

رواية "سيأتيك الغزال" للكاتب الروائي والصحفي السوري خليل صويلح صدرت عام 2015

بداية يمكن القول بكل صدق إن الكاتب الذي يصارع وهمًا يطارده ويعيده لسيرة صبي في السابعة من العمر، ليس إلا مجرد مرء يجول في بستان من نوستالجيا قديمة تعج بالأحاسيس المختلفة، من فقد وحنين ووجع وقهر يقفز بينها كالغزال مجددًا ويحاول محو بعض منها بنسيان طويل، مسطِّرًا في نصه: "تغيب سنوات كاملة في مهب النسيان"، السطر الذي يبرز فيه كاتب "عزلة الحلزون" أنه فقد والده يجبرنا أن نقف على مهل أمام عبارة "... لقد فقدت أبي منذ تلك الحادثة.."، ونقلب بأناة ما يمكن لمسه من أحاسيس الفقد حتى اليتم.

في تفاصيل الرواية يجد القارئ أن الكاتب يقف موقفين أولهما موقف رجل قد كبر وبلغ مبلغًا من العمر حيث يسمح له باستذكار حياته القديمة مبرزًا أن: "هناك مشهدًا يطاردني منذ أشهر!". والموقف الثاني هو موقف الطفل الصغير الذي: "يلهو في برية مفتوحة على العراء"، وبينهما يمكن أن يحصل بُعد زمني طويل يصف الحياة بمجملها على أنها انتقال جسدي وروحي على نطاق واحد، من بُعد إلى بُعد آخر في تعاقب يشبه تعاقب الفصول الأربعة. الطفل إذن يكدس بين ضلوعه مغامرات شيقة كانت تستحق منه أن يفني جل يومه فيها كأن "يطارد سحلية" أو "يقطع رأس أفعى بضربة واحدة"، غير أن حياته حين كبر أصبحت تدور في حلقة مفرغة دون مخرج معين.

انتقال الكاتب من قريته المعزولة إلى قرية جده -حيث يوجد مدرسة هناك- يفسر أن نمو الإنسان ونضجه يبدأ بالحركة، إذ إن الانتقال هنا يصف حالة الكاتب وتعطشه لاكتشاف عالم جديد وخوض تجربة مغايرة تمامًا لنمط حياته، وتفعيل فكرة ما في قلبه النابض، على الرغم من حمى النوستالجيا ووهم ذاكرة تآكلت أعمدتها.

معالم الرغبة وعواملها في نص "سيأتيك الغزال"

في هذا العمل الأدبي، لا يقتصر النص فقط على نوع من القصص أو السرد الاعتيادي، إذ إن الكاتب زرع كما يزرع الفلاح البذور في أرض خصبة، أفكارًا متراكمة بعضها يبدو حزينًا والبعض الآخر يؤرخ ميلاد رغبة في نفس الكاتب نحو بلوغ المجد وتغيير حياة قاسية.

وقد يبرز هذا السطر بعبثيته الظاهرية أن خليل صويلح أراد لفت انتباه القارئ لنقطة معينة، مفادها أن تلك القرية التي كانت تضمه بين جنباتها، إنما فقط كانت عالمًا معزول عن الحضارة: "أما نحن تلاميذ الصف الأول فكان يجب علينا أن نكتب البيت الأول من النشيد عشرين مرة دون أن نعلم أين يقع جبل قاسيون أو أن نرى دمشق لمرة واحدة". إن كان بإمكاننا عمل إسقاط تحليلي لهذه العبارة، فإن عاصمة أي بلد تُعد محط الحضارة والتقدم، وفي سياق النقد الأدبي فإن المكان في السرد "يتسم  بالقيمة والأهمية الكبرى في الأعمال الروائية التي اهتمت بظاهرة المكان وكيفية تصويره، فهو يرمي إلى إعادة خلق الواقع وتشكيله من جديد" (عجوج فاطمة الزهراء، مجلة دراسات معاصرة العدد الثاني 1438ه‍-2017م).

إننا ومن خلال هذا البيان الذي يبرز أهمية المكان في سرد واقع ما، يحيلنا على فكرة أن خليل صويلح يوجد روحيًّا في مكانين اثنين، بين عتاقة زمن وعراقته، وبين حضارة مدن وتطورها. بهذا التصوير، يصبح خليل صويلح على المطلق معلمًا لانفكاك معين، وترابط محكم في الآن ذاته، واقفًا أمام أحجية نفسية تبلور الرغبة في اكتشاف عالم ثانٍ والرغبة في البقاء على الأصل والمنبت.

في هذا العمل الأدبي الذي يتناول قصة صبي يركض خلف أحلام بريئة وسط ذكريات وحروب غابرة كتبت فوق رمال الصحراء المثقلة بالحكايات والدلالات المرئية لغموض الحياة وتلونها، يصور لنا صويلح مشاهد من حزن كثيف بصور تبدو أقرب لفرح مزيف وعبثية لا متناهية، واصفًا بأنه "هكذا سأغرق في مياه أخرى، منذ اللحظة التي قفزت بها إلى السفينة لعبور نهر الخابور نحو الضفة الثانية، رفقة أصدقائي الذين يغادرون أهاليهم أول مرة في حياتهم، بأجساد هزيلة ونقود ضئيلة، واضطراب الفراق". بهذا النمط يغرز صويلح خنجرًا من الحقيقة في قلب القارئ، لا سيما وإن كان قد عاش جزءًا مشابهًا لهذه الحياة، وأرغم إكراهًا بحجة التغيير والسير نحو حياة أفضل، بترك أهله والرحيل برفقة حلم وزاد قليل نحو مجد غامض.

الشعور والفكرة في المنسوج السردي

لا تقتصر الرواية على المفهوم المجرد للاضطرابات والتراكمات التي تأسر الإنسان فقط، فخليل صويلح يعرف بشكل فني كيف يوظف الكلمات اللازمة لوصف حالات النفس وانفعالاتها، أو لترتيب المشاعر المتضاربة في سياق محكم، وكأنه يجمع أزهار البابونج في سلة عريضة، وهذا يظهر في "ساعة من الوقوف في ممر الباص، إلى أن لفظتنا غزالة الصحراء عند مدخل المدينة". وهنا بالذات، يضع القارئ أصبعه الناعم على المصطلحين "الصحراء" و"المدينة"، وكيف ساق خليل صويلح موقفه هذا بقوله إنه قد لفظ من فم غزال الصحراء عند مدخل المدينة، وإن دلالة هذا اللفظ تثبت أنه قد كان في جوف مظلم مكفنًا برمال حارة، تحت سطوة شمس حارقة، يأمل أن يجيل بصره في الحياة، وأن يقتلع كما قال: "وضعت حدًّا للتردد والخجل" ذلك الشعور الذي يطمس طموحه وغايته.

عند هذا الحد من الأوصاف المتتابعة والمتناقضة أحيانًا، يقود الصحفي السوري سفينة القصة نحو شاطئ برمال ساطعة من الواقعية، يستلقي بكامل ثقله بجانب القارئ ويخاطبه بكلمات دقيقة حول الماهية والكينونة، في حوار عميق يسوقه في هذا الشكل "أليس من المحزن أن نتفرج على هذه الصور ولا نعرف سوى مؤخرات الحمير؟". سؤال مربك ومخيف بعض الشيء؛ لأن هذا الكبت يفتح بابًا آخر من التأويل، وهو أن قصة الكاتب ليست سوى انعكاس شعور دفين يؤرق عددًا هائلًا من أولئك الذين يعيشون في أقاصي الأرض وفي مناطق لم ترَ نور الحضارة بعد.

على الرغم من أن الرواية تدور أحداثها في زمن غابر، لكنها تتخطى الوقت وتخترق آفاق البعد الزمني لتصل بعد إنهاك شديد لنظرية الوجود المقنن بحقيقة العيش بانفعال مقيد. طول هذه الرحلة الأدبية، لا يمكن بأي شكل من الأشكال الاستدلال بكل القضايا والموضوعات التي انتقاها الكاتب؛ لأنه في الأخير، قلم صويلح لا يكتب فقط بل يطرز فكرًا ويخيط ثوبًا من الواقعية التي ظلت لزمن طويل غير مدرجة في الأدب بحجة عدم أهميتها، أو بحجة أنها يجب ألا تناقش في مجتمع يزيد انفكاكه شيئًا فشيئًا، تتوه في دهاليز مظلمة من الشك والريبة، تنتظر الخلاص من هذه الوحدة، تحت قلم كاتب كخليل صويلح الذي لا ينقل فقط الواقع في سرد متناسق، بل يمسك عقل القارئ بين يديه ويداعبه كيفما شاء، بعبارات تكون أقرب لسحر من بيان لذيذ.

المكان والأصل وتقنين الوجود

بالرجوع إلى المكان، وبالتدقيق فيه كونه عنصرًا تُبنى عليه الرواية، فإن هذه البيئة التي قست عليها الطبيعة وحمَّّلتها من المآسي ما كتب بالدم عبر التاريخ المؤرق، لا ينفك منها خليل صويلح ولا تنفك منه، فهي كلٌّ في جزء، وهو جزءٌ في كل. الصحراء بتضاريسها المفترسة وعجاجها الكثيف ورملها الثقيل وشمسها القائضة، تدفعه على جرف من ماضٍ غابر، أين يطل يحذر على أحداث عنوانها السيف والدم والعويل، وبهذا يقول بشهقة حزن مكتومة: "ومعارك خاضها الأجداد ببسالة على حد السيف، في صحاري ووهاد ورمال مترعة بالدماء". إن التاريخ الماضي لدى أي كاتب، هو وقود حركته الأدبية، ونصه المكتوب بحبر وخبر قديم، إذ يختزل مأساته في روايته، وإنما في المجمل كما قال فرانتز كافكا: "الكتابة انفتاح جرح ما".

ولد الكاتب خليل الصويلح في الحسكة عام 1959 وصدر له عدد من المؤلفات الأدبية

وفي وسط تراكمات الذاكرة، يورد منطقًا آخر يجول في هذه المزرعة السردية ويسير حذوها، فالرواية ليست فقط نصًّا عن تاريخ أحد بدوي يروي روتينه الممل، بل هي بحث في أصل هذا الإنسان ومنبع وجوده، وهو ينفض الغبار عن حقيقته، فهو يتساءل بجزع وفضول: "إلى أي سلالة سأنتمي؟ تدقُّ في رأسي سنابك خيل.. بابليين وآكاديين وأموريين وسومريين، وآشوريين، وفرس، وإغريق ورومان وعثمانيين وإنكليز، هل أتت سلالتي مع خيول تيمورلنك من الشرق في القرن الثالث عشر… هل كنت أسيرًا في قبيلة تغلب! أم كنت محاربًا لدى قبيلة قيس؟ هل قذفتني ريح عاتية من ديار بكر، أم من سهوب الحجاز؟". وسياق هذا نظرية فرويد في الأنا العليا "غير موجود منذ الولادة إنما يتطور مع مرورو الزمن" (د. ثائر حيدر، كلية الطب البشري دمشق).

إن الأنا العليا وإبرازها لا يحتاج لإزميل لنحتها في جدار الوجود، أو الصراخ بصوت قوي في وجه العالم، لكنها كشبكة الصياد الذي يخيطها بعناية لتتكامل وتتناسق لتغدو فيما بعد أداة فعالة لصيد السمك، وفي حالة خليل صويلح لصيد المجد وتحقيق الرغبة، رغبة تفوح منها رائحة القلق وتغلي تحتها نار الخوف والتردد، وبين هذه التناقضات ينسج لنا المبدع السوري نصًّا نقرأه بحزن على زمن غابر وبفرح على رواية تستحق أن توضع في رفوف المكتبات الأكثر رقيًّا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة