قابوس بن وشمكير.. أديب المعامع وصنديد الصناعتين

الكتابة عملية تواصلية بين المبدع والقارئ، وهي كذلك مغامرة وتسامٍ بالرغبات والتطلعات إلى عالم الفن الواسع، فالكاتب قبل كل شيء إنسان ذو شخصية متميزة بجوهرها وأبعادها وإمكاناتها، وهو حين يفكر في الكتابة يفكر فعلًا في التعبير عن نفسه ومواقفه، والتعبير عما يختلج في صدره من معاناة وآلام وأفكار. وعليه، فإن الكتابة تصبح جوهر ذاته وتعبيرًا عن إرادته وقناعاته، فالكاتب لا يستعير من غيره، ولا يختلق ولا يقلد، وإنما تكون كتابته نتاج تجاربه ووعيه، وفيضًا تلقائيًّا من ذاته.

كمال البلاغة رسائل شمس المعالي قابوس بن وشمكير

وتصبح لكل كاتب تجربته الخاصة في الكتابة يتميز بها عن غيره، سواء من حيث الصياغة اللغوية الأسلوبية، أو من حيث البنية الدلالية وطريقة اختيار المعاني وعرضها على القراء. ويأتي هذا العمل الذي يسعى إلى اطلاع جمهور القراء على تجربة إبداعية، انطلاقًا من هذه القراءة التي ستسلط الضوء على كتاب: "كمال البلاغة"؛ وهو كتاب ثرائي مؤطَّر لأنموذج من الكتابة النثرية التي قامت عليها الكتابة النثرية في القرن الرابع من الهجرة، ذلك القرن الذي عرف ازدهار النثر الفني، إذ ظهرت نجوم لامعة تُعنى بالكتابة والترسُّل مثل: الصاحب بن عباد، وأبي الفضل ابن العميد، وغيرهما... على أن تقديم تجربة إبداعية وعرضها على الأنظار، ليس بالأمر الهين، فهذا العمل يتطلب المعرفة بالموضوع، والإدراك الشامل لخصوصيات الكتابة لدى الكاتب.

إن قراءة هذا الكتاب لا تُعد قراءة نهائية يتيمة، بل هي مجرد محاولة متواضعة ضمن قراءات أخرى ممكنة. صدر هذا الديوان النثري عن المكتبة العربية ببيروت، موسومًا باسم جامعه: عبدالرحمن بن علي الزيدادي، لينضم إلى قائمة الكتب التراثية التي تختزن أدبًا رائعًا، ولغة فصيحة، وأساليب آية في البراعة، فالناشر عندما أقدم على إخراج هذا المؤلف إلى حيز الوجود، لم يكن همه إضافة كتاب جديد إلى الخزانة العربية فحسب، وإنما كان الهدف من ورائه هو إحياء تراث أدبي من شأنه أن يُسهم في بناء المشروع النهضوي الإحيائي العربي الكبير.

وسيحاول هذا المقال تقريب المتلقي من طبيعة هذا الكتاب، ونوعية فحواه، والدور الذي اضطلع به، بالتركيز على ثلاث بنيات أساسية، من دونما الدخول في التفاصيل التي لا يتسع المجال لبسطها في هذه الإطلالة، وهذه البنيات المختصرة هي:

  • غلاف الكتاب (المستوى البصري).
  • عنوان الكتاب (المستوى اللفظي).
  • محتوى الكتاب (المستوى النصي).

إن تناول هذه البنيات من شأنه أن يساعد على بلورة معرفة بالكتاب، وإدراك طبيعته، وإبراز خصوصياته، لا سيما إذا علمنا أن الكتاب ينتمي زمنيًّا إلى مرحلة ما يُسمى بعصر الطفر الأدبي، وهو العصر الذي دُشِّن لتجربة إبداعية سرعان ما اكتملت وحددت أسسها ومقاييسها الفنية والجمالية.

قابوس

قراءة في الغلاف (المستوى البصري)

إن الغلاف ليس من إنتاج الجامع، ولا من صنع الكاتب - بل هو اقتراح من الناشر مقترَح - فإننا مع ذلك نعده علامة دالة، وبنية كبرى موازية للكتاب؛ لأنه يقدم للقارئ بعض عناصر الفرضيات القرائية.

اختار الناشر للغلاف لونًا ورديًّا، وهو لون مرتبط في المخيلة العربية بالصفاء والجمال والإثارة وجلب الأنظار، والشعراء قديمًا يعتمدونه لونًا مميزًا للتعبير عن المرأة ووصف جمالها. ويشتمل الغلاف على زخرفة مذهبة، من شكل التاج قريبة، وهي خيوط هندسية، وأشكال متداخلة يحكمها تناسق رائع، فهذه الزخرفة المثيرة، واللون الجذاب ليس الهدف منهما إضفاء جمالية على الغلاف فحسب، وإنما هما مؤشران يُحيلان على العالم الداخلي للكتاب، ولا سيما الرسائل التي يشتمل عليها؛ تلك الرسائل التي لا يمكن إلا أن نتوقع جمالها.

يقول الكاتب: "هذا كلام قد بلغ النهاية في البداعة والبراعة والفصاحة والعذوبة، بل هو أبدع وأبرع من كل ما وصِفَت به من فقر هذه الرسائل".

إن الخيط الرابط بين غلاف الكتاب ومحتواه هو هذه "البراعة" المتحدث عنها؛ الشيء الذي يُشي بأن الغلاف يقدم للقارئ معرفة أولية بالكتاب.

قراءة في العنوان (المستوى اللفظي)

يُعد العنوان مستوى ثانيًّا مساعدًا على تحديد البنيات التي تقرب محتوى الكتاب؛ فهو يضطلع بأهمية كبرى على خلفية كونه بنية دلالية مركزية، مرتبطة بالمحتوى بحبل سري فعَّال.

تُقرأ على ظهر الغلاف عبارة: "كمال البلاغة"، وهي مكتوبة بخط أزرق بارز وانسيابي رشيق، وإلى الأسفل منها مباشرة كُتبت عبارة، وهي: "وهو رسائل شمس المعالي قابوس بن وشمكير". إن كلمة "كمال" هي كلمة مشتقة من فعل كَمُلَ الشيء بمعنى توافرت فيه شرائط الكمال والتمام جماءً وبهاءً.

قال الشاعر العباسي البصري صالح بن عبد القدوس:

متى يبلغ البنيان تمامه

إذا كنت تبني وغيرك يهدم

فالكمال هو التمام، تمام الأجزاء والصفات، أما كلمة "بلاغة" فهي من فعل بَلَغَ، بمعنى فَصُحَ وحَسُنَ بيانه، لذا فإن "كمال البلاغة" عبارة تعني بوجه عام تمام الفصاحة والبيان، واكتمال الأجزاء والصفات، فكمال البلاغة عنوان يقصد به رسائل قابوس بن وشمكير، وهي رسائل يُفترض فيها أنها بلغت حدًا من الكمال والتمام والفصاحة.

قراءة في المحتوى (المستوى النصي)

ينشطر السفر إلى فصلين:

الفصل الأول مدخل تأطيري، والفصل الثاني هو الذي عُرِض فيه المؤلف رسائل قابوس.

الفصل الأول:

يضم مقدمة للناشر الذي أخرج الكتاب إلى حيز التداول الجماهيري، ثم مقدمة بقلم المؤلف عبد الرحمن بن علي اليزدادي. في المقدمة الأولى تحدَّث الناشر عن دواعي نشر الكتاب والأهداف المتوخاة من ذلك التي تتلخص في الوعي بأهمية الكتب التراثية وتهذيب أذواق الناشئة.

وبعد أن أبان الناشر عن أهداف نشر هذا الكتاب وأهميته بالنسبة للأجيال الصاعدة، وقدَّم نبذة تاريخية عن حياة صاحب هذه الرسائل: شمس المعالي قابوس بن وشمكير؛ أشار عن طريقها إلى العصر الذي عاش فيه الكاتب، ومكانته العلمية والاجتماعية وموهبته الثرة، إلى درجة أن خلفاء الدولة العباسية لقبوه بشمس المعالي.

وقد أدرك (قابوس)، وعلمته التجارب أن طلب المعالي رهين بسهر الليالي، فكان ميوله إلى الإبداع والكتابة صنو اهتماماته السياسية، يقول فيه ابن العتبي: "لم يُسمع في شيوخ الملك بأشرف منه قيمة... وأكرم شَميّةً وأوفر عقلًا وتحصيلًا".

وأدرج الناشر في هذه المقدمة نماذج من شعره ليؤكد بواسطتها أن اهتمامات "قابوس" لا تقتصر على موضوع الرسائل أو الكتابة النثرية، بل له ميول إلى النظم، وهاكم أنموذجًا من تلك المقاطع القريضية التي أوردها الناشر:

قل للذي بصروف الدهر عيّرنا
هل حارب الدهر إلا من له خطر

أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأقصى قعره الدرر

فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا
ونالنا من تمادي بأسه الضرر

ففي السماء نجوم ما لها عدد
وليس يكسف إلا الشمس والقمر

وقسَّم المؤلف الكتاب إلى أنواع، ثم جعل لكل نوع اسمًا خاصًّا معتمدًا في ذلك على نوعية الأسجاع وطبيعة الجناسات، فجعلها تبعًا لذلك أربعة عشر نوعًا وهي: المجنح، والمتزاوج، والممثل، والمبالغة، وإبداع القرائن، والمجانس، والمتضاد، والمتوأم، والمخلخل، والمردد، والمتشابه، ومشابهة الصورة، والمعكوس، وذو نوعين.

الفصل الثاني من الكتاب:

عرض المؤلف المادة التي اشتغل عليها، وتتكوَّن من ثلاث وثلاثين رسالة، إضافة إلى تسع رسائل جوابية للصاحب بن عباد، وهي رسائل تختلف باختلاف الموضوعات التي تتناولها والأشخاص الموجهة إليهم.

الرسائل الشخصية

يصل عددها إلى ثمانٍ وعشرين رسالة بعث بها الكاتب إلى بعض رجالات عصره، ولعلَّ ما تمتاز به هذه الرسائل، جودة الصياغة وبراعة الألفاظ وشرف المعاني، وقد كان قسط الصاحب بن عباد الأغزر في تلك الرسائل.

وممَّا جاء في رسالة له إلى ابن عباد المذكور، في موضوع الشكر قوله: "الشكر ذكر المحسن بإحسانه، والخروج من حقه بإذاعته وإعلانه". ونظرًا لتنوع هذه الرسائل، وكون المجال لا يتسع لعرضها؛ فإن الاكتفاء بهذا المقطع ضرورة منهجية. إضافة إلى الرسائل الموجهة إلى ابن عباد، يشتمل الكتاب على سبع رسائل إلى ابن العميد، مثل: التعزية والمواساة، والإشادة بخصال ابن العميد.

يقول في رسالة يمدح فيها نثر ابن العميد ونظمه: "عرض علي - أطال الله بقاء الأستاذ - من عقود سحره، ومحسود نثره، فصل تضيء النواظر برؤيته، وتخطر الخواطر لروايته".

كما يحتضن الكتاب رسائل بعث بها قابوس إلى ابن العتبي، وعددها خمس رسائل تتناول: العتاب، والنصح، والثناء، والشفاعة، يقول: "الرسائل - أطال الله بقاء الشيخ - أقدام ذوي الحاجات، والشفاعات مفاتيح الطلبات. والأيام تحوج الناس إلى الناس، ومن نابته نوبة التغير، وأصابته صدمة المقادير، يرد كيد الزمان بعزه. وهذا الحر -أدام الله عز الشيخ- منهم قد خانه الدهر فأخنى على حاله، وعانه يعينه، فهوى نجم إقباله".

الرسائل العلمية والفلسفية

رسالته الغريبة في التكنية: في هذه الرسالة نكتشف الاهتمام اللغوي للكاتب، فقد خصَّص هذه الرسالة للحديث عن الكنية، مُبديًا موقفه منها، وزاعمًا أنها مصطلح دخيل لا عهد للعرب به.

إن نشر هذا الكتاب، وتعريف القراء به، لا يهدف إلى إحصاء رسائل قابوس وكشف خصوصياتها الأسلوبية والجمالية، وإنما الهدف هو اطلاع القارئ العربي الشغوف بلغته، والمتعطش لأساليبها الجميلة.

فلا مندوحة أن يسعى كل قارئ طامح إلى صقل طبعه، وتهذيب ذوقه، والرقي بأسلوبه إلى الأوبة إلى مثل هذه الرسائل، وارتشاف اللغة الفصيحة من ينابيعها الصافيات. إن وضعية اللغة العربية اليوم قد دفعتنا إلى القول بأن هذا الكتاب يحظى بقيمة كبيرة.

بقي التنويه في الأخير إلى أن الكاتب لا يستطيع أن يدافع عن تجربته إلى الأبد، بل يغادر ولا يُخلِّف وراءه سوى الأعمال التي جادت بها قريحته الإبداعية، وهي التي تضمن للكاتب الاستمرارية، غير أن حياتها هي الأخرى لا تكون ممكنة، إلا بفعل القراءة التي تُقرِّب نصوص الكُتَّاب من القراء.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.