لا شكَّ أن القاص والروائي والأديب المصري الكبير يوسف إدريس هو أحد أعمدة الكتابة العربية على الإطلاق في العصر الحديث، إضافة إلى كونه عراب القصة القصيرة الذي فتح الباب أمام أجيال من الكُتاب والمبدعين لدخول عالم جديد أكثر رحابة واتصالًا بالواقع، فإن حياة هذا المبدع الكبير كانت زاخرة بالأحداث المتتالية والمتناقضات والتقلُّبات، لا سيما أنه عايش إحدى أهم وأغرب المراحل التاريخية والسياسية في حياة الشعب المصري؛ ما أعطى تجربته بُعدًا آخر وثراء كبيرًا وخصوصية شديدة لم تتوافر لكثيرٍ من الكتاب كما توافرت ليوسف إدريس.
وفي هذا المقال ندعوك إلى جولة ممتعة وثرية في عالم يوسف إدريس الإبداعي والثقافي، إضافة إلى المرور بأهم محطاته التي وصلت به إلى أن يكون أحد رموز وأعمدة الكتابة العربية الحديثة، ويمتد تأثيره من المحيط إلى الخليج على كل الأجيال التي لها صلة بالثقافة والإبداع والكتابة منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن.
اقرأ أيضًا في ذكرى رحيله.. بشارة الخوري (الأخطل الصغير) شاعر الحب والهوى
مولد يوسف إدريس والنشأة والوظائف
ولد (يوسف إدريس علي) في إحدى القرى التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية يوم 19 مايو عام 1927، وكان أبوه يعمل في استصلاح الأراضي، وهي المهنة التي جعلته يتنقل كثيرًا بأسرته؛ ما جعله يترك ابنه الأكبر يوسف ليعيش مع الجدة في القرية.
كان الفتى يوسف إدريس يميل إلى العلوم والكيمياء في دراسته الإعدادية والثانوية؛ ما يجعله يرغب في دخول كلية الطب، وفعلًا كان يوسف إدريس متفوقًا في المرحلة الثانوية، وكان دخوله إلى كلية الطب أمرًا طبيعيًّا، لكنه أنه تخرَّج من كلية الطب ليجد أنه لا يُفضِّل ممارسة مهنة الطب؛ ما دفعه بعد مدة من العمل طبيبًا إلى مغادرة الطب بغير رجعة مُتجهًا إلى الأدب والصحافة.
تنقَّل يوسف إدريس في عدد من الوظائف، منها العمل صحفيًّا في صحيفة الجمهورية، والعمل كاتبًا في صحيفة الأهرام، والعمل في المؤتمر الإسلامي، حتى إن الرئيس السادات كان قد توسَّط له للعمل في وزارة الإرشاد القومي قبل أن يُصبح رئيسًا للبلاد.
حياة يوسف إدريس
تُعدُّ حياة يوسف إدريس رواية طويلة من أجزاء عدة، تختلط فيها الأحداث وتتطور فيها الأمور، وتصل إلى حدود متطرفة، وذلك على نحو درامي يعود في الأساس إلى طبيعة يوسف إدريس الثائرة والقلقة التي بدأت تتضح في أثناء دراسته في كلية الطب، إذ كان يشترك في المظاهرات ضد الاستعمار البريطاني من ناحية، وضد الملك فاروق من ناحية أخرى، وكان يكتب المجلات والمقالات الثورية؛ ما أدى به إلى السجن والابتعاد عن الدراسة أشهر عدة.
كانت علاقة يوسف إدريس بالسادات علاقة مُتقلبة، إذ كان السادات يُحبُّ يوسف إدريس ويستعين به في كتابة المقالات التي يضع عليها اسمه، وكذلك في الكتب التي يصدرها ويوقع عليها باسمه، فقد كان مُقتنعًا بموهبة يوسف إدريس إلى أقصى درجة؛ ما جعله يوفر له فرصة عمل في المؤتمر الإسلامي، ومن بعدها في وزارة الإرشاد، لكن مجيء السادات إلى السلطة ليصبح رئيسًا للجمهورية قلب الأوضاع كلها رأسًا على عقب، إذ انقلب السادات على مجموعة كبيرة من الكُتاب ومنهم يوسف إدريس.
لم ينلْ يوسف إدريس في حياته الاهتمام والتقدير الكافي من النُقاد والمبدعين مع أنه كان كاتبًا مميزًا ومترجمًا رائعًا ومثقفًا كبيرًا، وكان يُطلق عليه "فتى القصة القصيرة المدلل"، لكن الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تعيشها البلاد في ذلك الوقت لم تمنح ليوسف إدريس المكانة اللائقة؛ كأحد أهم رموز الكتابة العربية على الإطلاق، أضف على ذلك مشكلاته مع أجهزة الأمن من ناحية، واليساريين من ناحية أخرى.
كان يوسف إدريس مبدعًا ومثقفًا مراوغًا؛ يصعب ترويضه ويصعب توقع ردة فعله، فهو في عام 1961 يُشارك في نضال الجزائريين بين الجبال والمعارك الضارية، حتى يُصاب بجراح جعلته يعود إلى مصر مرة أخرى، وهو نفسه يزور الاتحاد السوفيتي عام 1964، فعاد ليهاجم روسيا والروح السائدة هناك، كما هاجم الأفكار التي بني عليها الاتحاد السوفيتي مجال الكفاءة والمناخ الذي يمتلئ بالخوف والخنوع، وهو نفسه يهاجم نظام جمال عبد الناصر حتى تُمنع مسرحياته ويختفي عن الساحة العامة؛ نتيجة دفاعه عن آرائه وعدم ركونه إلى الهدوء والمسالمة.
مبادئ ومعارك في حياة يوسف إدريس
ومن المواقف المهمة التي مرَّ بها يوسف إدريس أن اليسار المصري هاجمه عندما فاز بجائزة مجلة حوار، ودعاه إلى رفض الجائزة، وذلك بحجة أن المخابرات المركزية الأمريكية تمول المجلة؛ ما دفعه إلى رفض الجائزة على مضض، فعوضه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1966، بمنحه وسامًا رسميًّا وإعطائه قيمة الجائزة.
وموقف آخر لا يُمكن أن يُنسى في حياة يوسف إدريس هو عندما تقدَّم لنيل جائزة الدولة التشجيعية عام 1963، ورفضت اللجنة أن ترشحه من الأساس؛ لأنه كان يستخدم بعض الحوارات العامية داخل قصصه ورواياته؛ ما دفع يوسف إدريس إلى الاكتئاب والتفكير في الانتحار.
أما في الثمانينيات، فقد تعرَّض يوسف إدريس لكثير من المعارك والهجمات الشرسة التي كانت أحدها مع الشيخ الشعراوي، وأحدها مع وزير الثقافة محمد عبد الحميد رضوان، إضافة إلى محاكمته من المجلس الأعلى للثقافة بسبب كتابه (البحث عن السادات).
زواج يوسف إدريس
وعلى المستوى الشخصي فإن يوسف إدريس قد تزوج من السيدة (رجاء الرفاعي)، وأنجب منها (سامح وبهاء ونسمة)، لكن المتابع لسيرة يوسف إدريس يرى أن هذا المبدع الكبير لم يكن سعيدًا في حياته بقدر ما كان قلقًا وحزينًا في أوقات كثيرة، فهو يقول بنفسه: «الحياة كادت تتوقف في سبعينيات القرن الماضي، وبدأت أمرض بمجموعة من الأمراض المتوالية، وكأنها مرض واحد متصل، وأصبحت وحيدًا بعد موت، وهجرة وغياب كثير من المثقفين، حتى جمهوري الذي يتابعني ويقرأ لي غاب في سلسلة من المتغيرات شديدة الخطر التي كانت تقع يوميًّا، فكان ما يحدث في البلاد أشبه بالطوفان».
اقرأ أيضًا في ذكرى رحيله.. ميخائيل ليرمنتوف شاعر القوقاز الذي رحل مبكراً
أدب يوسف إدريس
كان الأديب المصري الراحل يوسف إدريس مدرسة في كتابة القصة القصيرة، ومع أن إبداعه وإنتاجه الأدبي تميَّز بالتنوع والتجريب، فإن القصة القصيرة كانت لها وضع خاص لدى يوسف إدريس، إذ أصبحت مجموعاته القصصية أشبه بالفتوحات في مجال كتابة القصة العربية التي سار على دربها كثير من الكتاب والمبدعين بعد ذلك، مثل مجموعة (أرخص ليال) ومجموعة (قاع المدينة) ومجموعة (بيت من لحم).
ـ قال طه حسين في حديثه عن يوسف إدريس: «أنا لم أجد المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراءة الأداء مثلما وجدت في كتاب يوسف إدريس»، فكان يوسف إدريس يُقدِّم طرحًا جديدًا للقصة القصيرة وذلك بمزجه الواقعية بالأداء الفني الرائع، وكان يوسف إدريس يهتم كثيرًا بالمهمشين من طبقات المجتمع المصري، ويستخدم لغة سهلة تتناسب مع طبيعة أبطال القصص التي يُقدمها، كما كان يلجأ أحيانًا إلى اللغة العامية في الحوارات؛ ما أكسبه مصداقية كبيرة لدى القارئ.
كانت معايشة يوسف إدريس للشارع المصري وإحساسه بالمسؤولية في الحديث عن هؤلاء الناس الذين يصارعون من أجل لقمة العيش؛ سببًا كبيرًا في ظهور قصة يوسف إدريس بهذا الالتصاق مع الواقع المصري في تلك المرحلة، إذ خرج تمامًا عن عباءة الأدب الكلاسيكي الذي كان يكتبه من قبل (محمود جوهر ومحمد تيمور)؛ ما أضاف لأدب يوسف إدريس كثيرًا من الحيوية والقدرة على الانتشار والتوغل في الثقافة الجديدة.
أطلق على يوسف إدريس أبو القصة المصرية القصيرة مع أنه لم يضع حجر الأساس للقصة القصيرة، فقد سبقه من قبل (شحاتة عبيد والأخوين عيسى ويحيى حقي وطاهر لاشين ثم جاء من بعدهم محمد تيمور)، لكن قصة يوسف إدريس استطاعت أن تضع نموذج للقصة العربية التي تُعبِّر عن واقع الحياة، وتُقدِّم بانوراما ضخمة لفئات المجتمع العامل والفلاح والموظف والطالب والطبيب والمقاتل والنساء والرجال، ليصبح لهم وجود في الأدب.. فعلى سبيل المثال الفلاح المصري لم يكن موجودًا في الأدب الكلاسيكي قبل حضور قصة يوسف إدريس.
الوعي الشديد الذي جعل يوسف إدريس يتخلَّص من سطوة الرومانتيكية والغنائية؛ كان سببًا كبيرًا في قدرة يوسف إدريس على الوصول إلى أعماق الشخصيات التي يُقدمها في قصصه دون أن يتعاطف معها، وهي آفة الكتاب الكلاسيكيين.
أضف على ذلك، الجرأة الشديدة التي يتمتَّع بها الكاتب في طرح الهم الشخصي لأبطال قصصه، ومناقشته دون مواربة أو تجميل، مع امتلاك الكاتب أيضًا لمجموعة من الأدوات والتقنيات الفنية العالية، فكان من الطبيعي أن يكون أدب يوسف إدريس مختلفًا وراقيًا إلى هذه الدرجة.
أعمال يوسف إدريس
كان إنتاج الكاتب والمبدع الكبير يوسف إدريس غزيرًا ومتنوعًا، فقد كتب في القصة القصيرة والرواية والمسرحية، إضافة إلى الكتب والمقالات الأدبية التي أسهمت في تشكيل المشهد الثقافي المصري سنوات طويلة، ومن أهم أعماله ما يلي:
في مجال القصة:
- أرخص ليال عام 1954
- جمهورية فرحات عام 1957
- البطل عام 1957
- حادثة شرف عام 1958
- أليس كذلك؟ عام 1958
- آخر الدنيا عام 1961
- العسكري الأسود عام 1962
- قاع المدينة عام 1964
- لغة الآي آي عام 1965
- النداهة عام 1969
- بيت من لحم عام 1971
- ليلة صيف
- أنا سلطان قانون الوجود عام 1980
- اقتلها عام 1982
- العتب على النظر عام 1987
- قصة مصرية جدا عام 2008
في مجال الرواية:
- رواية قصة حب عام 1957
- رواية العيب عام 1962
- رواية العسكري الأسود عام 1962
- رواية رجال وثيران عام 1964
- رواية البيضاء عام 1970
- رواية فيينا 60 عام 1977
- رواية نظرة حارة في القاهرة
- رواية نيويورك 80 عام 1980
- رواية أكان لا بد يا ليلي أن تضيء النور؟
في مجال المسرح:
- مسرحية ملك القطن عام 1957
- مسرحية جمهورية فرحات عام 1957
- مسرحية اللحظة الحرجة عام 1958
- مسرحية الفرافير عام 1964
- مسرحية المهزلة الأرضية عام 1966
- مسرحية المخططين عام 1969
- مسرحية الجنس الثالث عام 1971
- مسرحية البهلوان عام 1983
- مسرحية أصابعنا التي تحترق
في مجال الكتب والمقالات الأدبية:
- بصراحة غير مطلقة عام 1968
- مفكرة يوسف إدريس عام 1971
- اكتشاف قارة عام 1972
- الإرادة عام 1977
- عن عمد اسمع تسمع عام 1980
- شاهد عصره عام 1982
- جبرتي الستينات عام 1983
- البحث عن السادات عام 1984
- أهمية أن نتثقف عام 1985
- فقر الفكر وفكر الفقر عام 1985
- خلو البال عام 1986
- انطباعات مستفزة عام 1986
- الأب الغائب عام 1987
- عزف منفرد عام 1987
- الإسلام بلا ضفاف عام 1989
- مدينة الملائكة عام 1989
- الإيدز العربي عام 1989
- على فوهة بركان عام 1991
- ذكريات يوسف إدريس عام 1991
وفاة يوسف إدريس
توفي الروائي والقاص والأديب المصري الكبير يوسف إدريس يوم 1 أغسطس عام 1991، وذلك بمستشفى (رويال ساري) في مدينة لندن الإنجليزية، ونُقِل جثمانه إلى مصر ليُدفن في مقابر العائلة في قرية (البيروم) - مركز فاقوس بمحافظة الشرقية.
وقد توفي المبدع الكبير إثر تعرضه لهبوط حاد في القلب، وذلك بعد رحلة علاج في لندن امتدت لثلاثة شهور، ليرحل يوسف إدريس تاركًا خلفه عالمًا من الإبداع والكتابة والشخصيات، التي رسمها وخطَّ ملامحها بيده، ودربًا ممهدًا للسائرين خلفه من المبدعين والمثقفين والكُتاب من المحيط إلى الخليج.
وإلى هنا تنتهي جولتنا السريعة في عالم الروائي والقاص والكاتب المصري الكبير يوسف إدريس الذي أطلق عليه "تشيكوف العرب" و"عراب القصة القصيرة"، وأطلق عليه أيضًا "سيد القصة العربية"، وفي الأخير نتمنى أن نكون قدَّمنا لك المتعة والإضافة والحماس الكبير لقراءة أعمال يوسف إدريس.
ويُسعدنا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات ومقترحاتك عن مقالات أخرى ترغب في قراءتها على جوك.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.