حلت أمس في 18 يناير هذا العام الذكرى الـ 162 لوفاة رابع أبناء محمد علي باشا الوالي محمد سعيد باشا، ذلك الوالي الذي لم يتفق عليه المؤرخون، فتارة يرونه صديق الفلاحين وواحدًا من المصريين، وتارة أخرى يرونه شيطانًا متهورًا شرهًا خرَّب مصر وباعها بطبق مكرونة.
لذا نقدم هنا بعض المعلومات عن محمد سعيد باشا، ثالث ولاة مصر من الأسرة العلوية. فتعالَ لنقف على بعض التفاصيل والنقاط في حياته وسيرته، ونعرف قصة سعيد باشا والمكرونة، وهل ضحى بمصر فعلًا من أجل طبق مكرونة؟
نشأة محمد سعيد باشا
وُلد محمد سعيد باشا في 17 مارس عام 1822 في الإسكندرية، وهو رابع أبناء محمد علي باشا بعد إبراهيم محمد علي باشا، وطوسون باشا، وإسماعيل كامل باشا. أمه "عين حياة قادين" إحدى مستولدات محمد علي، ونشأ في حياة مرفهة، وتعلم في مدارس باريس، ولكن ذلك الوضع لم يدم طويلًا.
في وقت لاحق في حياته ألحقه والده بالبحرية، ودائمًا ما حرص على تلقي أبنائه التعليم الجيد وإلحاقهم بالجيش، وكانت تعليمات محمد علي لابنه محمد سعيد باشا أن ينسى كونه ابن الوالي، ويعاملُ كأي فرد على طاقم السفينة، لدرجة أنه أمره بألا يجلس إلا بإذن قائده في حال وجوده في الأسطول، ويطيع أوامره تمام الطاعة، ويلقي عليه التعظيمات "التحية العسكرية" عندما يمر من أمامه، وفي البداية كانت الأمور على ما يرام إلى أن ساء الوضع قليلًا.
بعد التحاق محمد سعيد باشا بالبحرية أخذ في التراخي والخمول والنهم في تناول الأطعمة؛ ما زاد وزنه على نحو كبير، لدرجة أن محمد علي باشا أرسل إليه يوبخه ويأمره بأن يمارس الجري وأن يتسلق سارية سفينة راسية على ضفاف النيل، وبعد ذلك يقفز في المياه ويسبح حتى يصل للسفينة، ومن ثم يقوم بالعدو حول أسوار المدينة، وأمر ألا يأكل من الطعام إلا قليله.
وفي جزء من رسالة محمد علي لابنه التالي: "وبمنه تعالى سأحضر للإسكندرية لامتحانك أمام أحد المدرسين، فإذا ظهر عدم الالتفات للدروس وعدم إزالة ثقل جسمك، فرحمةً بحالك أجري تأديبك. بناءً عليه يلزم أن تترك تلك الأدوار والسير على مقتضى هذا على الدوام على الحركة وإتعاب جسمك وعدم الاجتماع على عادمي الأدب والاقتداء بسير فارس أفندي المدرِّس والتطبع بأخلاقه لاتصافه بحسنها، وعدم تناول الطعام معه لاستنكافه بدعة استعمال الشوكة والسكين لأنه صوفي".
ماذا فعل محمد سعيد باشا؟
تولى محمد سعيد باشا العرش في 24 يوليو من عام 1854، وقام بأحداث عدة مهمة سنتطرق إليها في مميزاته وعيوبه.
مميزات حكم محمد سعيد باشا
- إنشاء البنك المصري، وكان ذلك في عام 1854.
- تطهير ترعة المحمودية التي كادت أن تطمر وتندثر، واحتاج لتطهيرها نحو 115 ألف عامل.
- تعديلات في نظام التجنيد، قام بإصلاحات عدة عظيمة في قطاع الجيش، ومنها: جعل التجنيد إجباريًّا على كل المصريين، ولا فرق بين أبناء الفلاحين أو أبناء الأعيان والأغنياء، وتقليل مدة التجنيد، فقد جعل مدة التجنيد لا تزيد على عام، والاهتمام بأوضاع الجنود، فقد وجَّه بالعناية بكل ما يحتاج إليه الجنود من طعام أو شراب أو ملابس أو غيره، ووصل عدد الجنود في الجيش إلى 64 ألف جندي في عام 1864.
- وضع حجر الأساس لما يعرف بـ"لائحة المعاشات" فقد كان أول مرة تُصرف المعاشات لموظفي الدولة المتقاعدين.
- فرض الضرائب على الأعيان، كان قبل عهده لا تُفرض الضرائب على الأعيان والأغنياء من أصحاب الأبعاديات أو الأراضي الزراعية الكبيرة، ففرض ضريبة عليهم تُقدر بعشر حاصلاتهم من الأرض.
- ترقية المصريين، قبل عهد محمد سعيد باشا كان من النادر ترقية المصريين بالجيش، ولكن هذا الوضع تغير في عهده، وترقَّى المصريون إلى مناصب عليا، بل وكان مشهورًا عنه حبه لأبناء مصر وكرهه للأتراك.
- الاهتمام بالنقل، ففي 1854 أنشأ شركة للنقل النيلي، وبعدها بثلاث سنوات أنشأ شركة للنقل البحري، واستكمل بناء السكك الحديدية والتلغراف، وأوصل التلغراف بين القاهرة والإسكندرية.
ما العلاقة بين سعيد باشا وأحوال الفلاح المصري؟
كانت العلاقة بين سعيد باشا والفلاحين في مصر من أفضل ما يكون، فقام بنهضة في القطاع الزراعي كانت على النحو التالي:
- إصدار قانون في 5 أغسطس من عام 1858 يعطي الفلاحين الحق بتملك الأراضي الزراعية أول مرة منذ تاريخ الأسرة العلوية.
- إلغاء نظام الاحتكار. عُرف عهد محمد علي بأنه المزارع الوحيد والصانع الوحيد، أي إن الفلاح كان مجبرًا على بيع محصوله للدولة بالثمن التي تحدده هي، والدولة هي من تبيع المحصول في الأسواق بالثمن الذي تحدده، فألغى محمد سعيد باشا ذلك النظام وأعطى الفلاح حق التصرف في محصوله، بل ووجه اهتمام الفلاحين بدفع الضرائب بالنقود بدلًا من دفعها باقتطاع جزء من المحاصيل.
- إسقاط الضرائب من على الفلاحين. ألغى محمد سعيد باشا ضريبة كانت تعرف بـ"الدخولية" وهي ضريبة كانت تُفرض على المزارعين والتجار، وتنازل عن نحو ثمانمائة ألف جنيه من الضرائب المتأخرة على الفلاحين.
عيوب حكم محمد سعيد باشا
على الرغم من كون عهد محمد سعيد باشا ممتلئًا بالمميزات والإصلاحات، فإنه شهد كثيرًا من العيوب التي يمكن وصفها بالكوارث، ومنها أنه:
ألغى المدارس
أغلق محمد سعيد باشا المدارس في مصر؛ متعللًا بقوله إن أمة جاهلة أسلس قيادةً من أمة متعلمة. ويذكر أيضًا "علي مبارك" ذلك الأمر في كتابه "حياتي" قائلًا: "فإنه لما تولى المرحوم سعيد باشا ولاية مصر، ورمى عنده المدارس بعض المفسدين بلسان الحسد والفتنة، ووصفوها بما ليس له نصيب من الصحة، واختلقوا لها معايب لم تكن فيها كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدًا وبغضا إنه لدميم" فحتى وإن كانت إدارة المدارس سيئة.
فالحل في ذلك إصلاح الخلل والعيوب لا غلقها، وقرار خطير مثل ذلك لا يؤخذ بنصيحة أو رأي من آراء الحاشية، بل ولم يكتفِ محمد سعيد باشا بذلك وحسب، فباع متعلقات المدارس من آلات وكتب ثمينة وغيره بأبخس الأثمان.
فيصف علي مبارك الوضع المزري في كتابه قائلًا: "وكان يومئذ قد صدر الأمر ببيع بعض أشياء من متعلقات الحكومة، زائدة عن الحاجة من عقارات وغيره، وكان المأمور بذلك المرحوم إسماعيل باشا الفريق، وكان لي من المحبين، وكنت جاره في السكنى، فاستصحبني معه إلى بولاق وغيرها من محلات البيع.
فلما حضرت المزادات رأيت الأشياء تُباع بأبخس الأثمان، ورأيت ما كان لمدرسة المهندسخانة من اللوازم والأشياء الثمينة العظيمة، وفي جملتها الكتب التي كنت طبعتها وغيرها تباع بتراب الفلوس؛ وكذا أشياء كثيرة من نحو آلات الحديد والنحاس والرصاص والعقارات والفضيات والمرايا والساعات والمفروشات وغير ذلك، وليتها كانت تُباع بالنقد الحال بل كانت الأثمان تؤجل بالآجال البعيدة، وبعضها بأوراق المرتبات، ونحو ذلك من أنواع التسهيل على المشتري، فكان التجار يربحون فيها أرباحًا جمة".
بداية الاقتراض من الخارج
المشهور في تاريخ الأسرة العلوية أن القروض الخارجية عرفت في عهد الخديوي إسماعيل، ولكن ذلك ليس دقيقًا، فقد بدأ الاقتراض في عهد محمد سعيد باشا، وتم أخذ أول قرض في عام 1862 من بنك "فروهلنج وجوشن" وكان صافي القرض مليونين وأربعمائة ألف جنيه، يُسدد على 30 عامًا بفوائد ضخمة تصل إلى 7 ملايين و920 ألف جنيه، بل ولم يكتفِ بذلك القرض الضخم الذي كانت تدفع مصر عليه كل عام قسطًا سنويًا قدره 264000 جنيه على 30 عامًا، بل وصلت حاصلة استدانته عند وفاته إلى 7 ملايين و868 ألف جنيه مصري.
تدهور أحوال البحرية
يمكن ألا نعد ذلك من مساوئه؛ لأن ذلك الأمر كان بإجبار السلطان العثماني، وذلك بعد طلب من إنجلترا، فأمره الوالي العثماني بعدم إصلاح أو إنشاء أي سفينة إلا بعد الرجوع إليه، فلما ارتأى محمد سعيد باشا أن كل السفن لن تنفع في القتال إلا بعد الترميم، سرَّح أغلب الأسطول البحري وفكك السفن وباع أخشابها.
هدر دماء المصريين في حروب لا تخصهم
في عهده شاركت مصر في حرب القرم مع الدولة العثمانية ضد الروس، وإن كنا سنتغاضى عن تلك الحرب لأن مصر في ذلك الوقت كانت تابعة للدولة العثمانية، فإننا لن نتغاضى عن إشراك مصر بجانب فرنسا في حرب المكسيك؛ لأنها حرب استعمارية لا تخص مصر ولا علاقة لها بها، فأرسل ملك فرنسا "نابليون الثالث" إلى محمد سعيد باشا يرجوه بإرسال الجنود للدعم، خاصة وأجواء إفريقيا تشبه أجواء المكسيك، وأن الأوربيين لن يتحملوا تلك الأجواء، وفعلًا نفذ سعيد باشا الأمر وأرسل عددًا من الجنود يتراوح عددهم بين 453 إلى 1200 جندي أغلبهم من أهل السودان، وبعد انتهاء الحرب لم يتبقَّ منهم إلا ثلاثمائة جندي، فالباقي إما مات في الحرب وإما مات من المرض، ومنهم من مات في الطريق إلى المكسيك أصلًا.
قناة السويس
ولا تتعجب فالجميع يعي أهمية قناة السويس في الملاحة العالمية، ولكن أغلبنا لا يعي شروطها المجحفة لمصر ومنها:
- التزام مصر بتوريد 80% من العمال المصريين للحفر في القناة بالسخرة وبالإجبار، وبمرتب ضئيل قدره قرش في اليوم وظروف غير آدمية بالمرة من ضرب وإهانة وتجويع وتعطيش وحفر بآلات بدائية أدت في النهاية لموت 120 ألف عامل مصري.
- أن تتنازل مصر عن الأراضي التي يقام عليها المشروع.
- حصة مصر من أرباح القناة كانت 15% فقط، وذلك طوال مدة الامتياز التي كانت 99 سنة من تاريخ افتتاح القناة.
قصة سعيد باشا والمكرونة
انتشرت شائعة أن سعيد باشا باع قناة السويس مقابل طبق من المكرونة "المقرونة الإزباجت كما كانت تسمى قديمًا" وأخذت هذه الشائعة في الانتشار على نحو كبير حتى إنك إذا سألت أي أحد من باع مصر بطبق مكرونة؟ سيخبرك بلا تفكير أنه محمد سعيد باشا.
وللحق أن تلك القصة بها قدر ضئيل من الصحة، فيذكر المؤرخون أن "ماتيو دليسيبس" والد "فريدناند دليسيبس" كان صديقًا لمحمد علي، وكذلك الأمر للأبناء. فتُروى قصة طريفة أنه في أثناء النظام الغذائي الصارم الذي طبقه محمد علي على ابنه سعيد، كان الشخص الذي يظهر بمظهر البطل هو "فريدناند دليسيبس" وبطولته تجلت في تمرير أطباق من المكرونة في السر من وراء محمد علي باشا.
ويبدو أن محمد سعيد باشا كان يحفظ الجميل "على حساب المصريين" فظل صديقًا لدليسيبس. وحين اعتلائه عرش مصر، أرسل دليسيبس له برقية تهنئة، وأنه قادم لتهنئته بنفسه، فرد عليه سعيد باشا مرحبًا به، بل واستقبله بنفسه في الإسكندرية وأقاما فيها مدة، وبعد مدة من الوقت شرح له دليسيبس فكرة القناة، مبرزًا له عظيم الفوائد منها، فوافق على الفور، ويذكر الكاتب الكبير "عباس العقاد" أنه لولا طبق المكرونة هذا لما استطاع دليسيبس الحصول على موافقة الوالي سعيد باشا.
هل محمد سعيد مصري؟
الإجابة على ذلك السؤال تتلخص في أن محمد سعيد باشا مصري المولد والروح، بل وهو أيضًا عدَّ نفسه مصريًّا. ونختم بقوله الذي قاله عن مصر "إني نظرت في أحوال الشعب المصري من حيث التاريخ فوجدته مظلومًا مستعبدًا من أمم الأرض، فقد تعاقبت عليه دول ظالمة كثيرة، وحيث إنني أعد نفسي مصريًّا، فوجب أن أربي هذا الشعب وأهذبه تهذيبًا حتى أجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة نافعة ويستغني بنفسه عن الأجانب".
👍👍
💛💛
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.