«عليك أن تغادر المكان، عليك أن تغادر الذين طالما ألفتهم.. كرسيك الذي جلست فيه.. مهد أمك التي رأتك فيه مثل نجمة الزمان.. ونسرك الذي تحب أن تكون مثله.. عليك أن تذوب في المدى كنقطة الدخان.. وأن تغيب في البحار لا صدى ولا تعود».
قبل موته بأيام كتب الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين تلك الكلمات على صفحته الخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنه قد استشعر قرب الرحيل بحساسية الشاعر الرقيق والإنسان الشجاع والفارس النبيل الذي ترجل عن جواده في آخر الطريق!
إنه شاعر الجنوب اللبناني الحزين صاحب الأسئلة الوجودية والطرح المختلف والقصيدة الشفافة القادرة على تجاوز الزمان والمكان، فكيف كانت حياته، وما هي أهم محطاته الشخصية والإبداعية، وماذا قال عنه الأدباء والنقود الكبار؟
أسئلة نجيب عنها في هذه الرحلة السريعة داخل عالم محمد علي شمس الدين في السطور التالية.
اقرأ أيضًا: الأديب العالمي "نجيب محفوظ" وأهم أعماله
مولد محمد علي شمس الدين والنشأة
ولد محمد علي شمس الدين في بلدة بيت ياحون اللبنانية المتاخمة للحدود الجنوبية بين لبنان وفلسطين عام 1942، وعاش طفولته في بلدة عربصاليم بالقرب من النبطية، حيث تلقى تعليمه الأولي في ريف الجنوب، وحمل كثيرًا من صفاته، فكان ذلك الشخص الواضح الهادئ المتزن الواثق من نفسه إلى حد بعيد.
أكمل محمد علي شمس الدين دراسته حتى حصل على دكتوراه في التاريخ من الجامعة اللبنانية وإجازة في الحقوق، إضافة إلى انشغاله الكبير بالأدب، حيث تربى على الأدب العربي وشعرائه الكبار، فكان متابعًا لكل المدارس الشعرية القديمة والحديثة، وبدأ في كتابة الشعر منذ سن صغيرة، وهي الرحلة التي رافقته طوال حياته، حتى عندما كان موظفًا حكوميًّا في مصلحة الضمان الاجتماعي، حيث عمل هناك مديرًا في قسم التفتيش والمراقبة، ثم أصبح رئيسًا للمفتشين بعد ذلك.
اقرأ أيضًا: في ذكرى رحيله.. الشاعر خالد نصرة صوت فلسطين ووجع الأمة العربية
حياة محمد علي شمس الدين
عاش الدكتور محمد علي شمس الدين معظم حياته في بلدته التي انتقلت إليها أسرته في إقليم التفاح، وتزوج هناك بابنة عمه السيدة خديجة شمس الدين، وأنجب منها ولدًا وأربعة بنات، وكان عاشقًا للطبيعة والأمكنة الخلابة والهادئة، وعمل الرجل في تدريس تاريخ الفن مدة محدودة في الجامعة اللبنانية قبل أن يعمل في مركز الضمان الاجتماعي، وكان عضوًا في اتحاد الكتاب اللبنانيين، إضافة إلى عضويته الشرفية في اتحاد الكتاب الأردنيين.
عُرِفَ محمد علي شمس الدين كأحد شعراء الجنوب الذين ذاع صيتهم في السبعينيات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي نشط فيها اليسار اللبناني كثيرًا، وكان داعمًا كبيرًا للقضية الفلسطينية، إضافة إلى قضايا التحرر الوطني، وهو ما حمله الرجل في أفكاره وكتاباته التي لم تنفصل أبدًا عن همومه السياسية والاجتماعية والوطنية، وساعده على ذلك حضوره الواسع في كافة الأنشطة الأدبية والثقافية، بالإضافة إلى نشاطه الكبير في نشر أشعاره في المجلات الخليجية واللبنانية.
عُرِف عن الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين أنه كان واسع الثقافة يهتم كثيرًا بالفلسفة بجانب دراسته للتاريخ، وكان قارئًا نهمًا في كل المجالات، وهو ما جعله أقرب للفيلسوف منه إلى المثقف العادي، وبذلك فكان محطَّ أنظار كثير من دور النشر والإصدارات الأجنبية التي ترجمت عددًا من أعماله إلى عدة لغات مثل الفرنسية والإنجليزية والإسبانية.
اقرأ أيضًا: أيمن العتوم السهل الممتنع والمحارب المسالم
أدب محمد علي شمس الدين
على مستوى الكتابة فقد كانت أشعار محمد علي شمس الدين تُشبه كثيرًا شخصيته في الحياة، فكانت بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، انتقل فيها ما بين الشكل العمودي وشعر التفعيلة، وكان يهتم كثيرًا بالموسيقى واللغة والغنائية العالية، وهو ما صنع مزيجًا خاصًّا أو قل بصمة خاصة لذلك الشاعر الاستثنائي.
كان شمس الدين يكتب بغزارة ولم يعانِ أبدًا في حياته من أزمات الكتاب والشعراء التي تتسبب في توقفهم عن الكتابة مدة التي يمكن أن نُسميها (أزمة الصمت)، أو كما يُسميها البعض (الورقة البيضاء)، فكان دائمًا نابضًا بالشعر والنثر والمقالات والخواطر؛ لذلك فقد ترك الشاعر الكبير أكثر من 20 ديوانًا شعريًّا ينبض بالجمال والأسئلة الوجودية والقضايا الفلسفية العميقة التي طرحت ببساطة عبقرية تخص محمد علي شمس الدين.
كان الديوان الأول لمحمد شمس الدين بعنوان (قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا) الذي صدر عام 1964 بوابة الشاعر للدخول إلى المشهد الشعري العربي، فقد لاقى كثيرًا من القبول في أوساط الأدب والنقد العربي في ذلك الوقت، وجعله أحد أبطال تيار شعراء الجنوب الذي ضم كثير من الشعراء الكبار المتميزين، مثل حسن العبدالله وشوقي بزيع وإلياس لحود وجودة فخر الدين، وكان الديوان رائعًا جدًّا، بحيث تميَّز بالوجدانية والطابع الوجودي، بالإضافة إلى التراجيديا التي تُعبِّر عن حال الجنوب الذي تعرض للتخريب والقصف والنزوح في ذلك الوقت.
ولعلَّ أبرز ما ميَّز تجربة محمد علي شمس الدين الشعرية إخلاصه الشديد للموسيقى والأوزان والتفاعيل، إضافة إلى قاموسه الخاص الذي اتَّسع ليشمل ملامح جغرافيا الجنوب، مثل الشجر والماء والطين والسماء والحقول والسنابل والنسائم والعواصف، إضافة إلى مفردات الحداثة والعالمية الاشتراكية؛ نتيجة القراءات الواسعة والانفتاح الكبير على الثقافة العالمية في ذلك الوقت، أضف على ذلك المعجم الصوفي والتراثي وتلك الرموز العميقة التي تُعبر عن وعي كبير وهضم واعي للثقافات المخنلفة التي تشكلت منها قريحة الشاعر الكبير.
ومع هذا الانفتاح الثقافي الكبير والوعي الشديد والثقافة الهائلة للشاعر محمد شمس الدين، فقد كان يرفض تمامًا قصيدة النثر، ويعدها تغريبًا للقصيدة، إذ كان يرى ابتعاد الشعر عن الموسيقى والوزن إفقارًا للشعر، وكان يرى أن التجديد لا يتطلب أبدًا التخلي عن الوزن والموسيقى والقافية، وإنما تتجلى عبقرية الشاعر في أن يتعامل مع هذه القيود ويُقدم الجديد في كل مرة وحقيقة، فقد كان الرجل يفعل ما يقول في قصائده ودواوينه المتتابعة.
قالوا عن محمد علي شمس الدين
(تتجلى شعرية شمس الدين المتميزة والفريدة وموهبته العالية جدًّا في حساسية كبيرة تجاه اللغة والإيقاع، فهو شاعر المرئيات وشاعر الصورة، حيث يبدأ النص بالوزن والإيقاع ويتفرع إلى العين والبصريات وجميع الحواس حيث قام هذا الشاعر الاستثنائي باستثمار وجوده ليقوم بتحويله إلى شعر خالص) - الشاعر اللبناني شوقي بزيع.
(لقد انبثقت قصائد شمس الدين من قاع ثقافي عميق، حيث الفلسفة والتاريخ والعلم، وهو ما جعل الشاعر يقف في منتصف الميزان بين الجديد والقديم، ورغم تمسكه بالشعر العمودي لم يكن ذلك يقيده عن التجديد والحرية) - الباحث والناقد الأدبي علي نسر.
(محمد علي شمس الدين الاسم الأكبر والأكثر وعدا في الشعر اللبناني الحديث، وبشعره ما يبعث على المجرد المطلق والمتحد الجوهر، وقلة من الشعراء هم من ينتصرون في مغامرة التخيل، ويتجاوزون إطار العام والعادي رغم أنهم يعرفون أنها مجازفة كبرى إلا أنهم يتقدمون في طريقها) - المستشرق الإسباني بيدرو مونتابيس
أعمال محمد علي شمس الدين
تنوعت أعمال الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين بين الشعر والنثر والقصص والكتابات النقدية، بالإضافة إلى المقالات التي كانت تنشر في لبنان وخارج لبنان، كما تُرجِمَت عدد من القصائد إلى اللغة الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، ومن أهم أعماله المنشورة ما يلي:
قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا
غيم لأحلام الملك المخلوع
أناديك يا ملكي وحبيبي
الشوكة البنفسجية
الطيور إلى الشمس المرة
أما آن للرقص أن ينتهي؟
أميرال الطيور
مماليك عالية
النازلون على الريح
اليأس من الوردة
كرسي على الزبد
يحرث في آبار
منازل النرد
رياح حجرية
الغيوم التي في الضواحي
شيرازيات
العودة إلى المنزل
عندما تهب العاصفة
ينام على الشجر الأخضر الطير
نجوم في المجرة
ويكون سيفك للبنفسج مائلا
للصبابة للبلبل و للملكوت
كتاب الطواف
الإصلاح الهادئ
غنوا غنوا
قصة ملونة
الكشف والبرهان ونقيضه (نظرات في الشعر والرسم والنحت)
مقتطفات من أشعار محمد علي شمس الدين
- أنا الخاسر الأبدي فلماذا إذن أشتري بالمواعيد هذه الحياة ؟
قلت تأتين في الثامنة وهذان عقربان يدوران حولي ولا يقفان
عقربان يدوران في معصمي يلدغان دمي ولا يقفان
كأن لم تكن ثامنة في الزمان
- أفتح في جسدي بابا يفضي للبحر
أفتح في البحر طريقا لا يرجعني
أفتح في بيتي حانة أقداري أفتح نحو السرطان مداري
أفتح في الطيبة شمسا سوداء أفتح خمس مدائن في الصحراء
أفتح نحو سمرقند النايات أفتح بابا مجهولا خلف الأبواب
أفتح في الكوفة باب المحراب أفتح في المحراب طريقا يصعد نحو الجنة
- يا حادي العيس أنا خوف الخائف
وبهاء القلب العاري في الموت وجمال رجاء المحرومين
سأضم دمي في آخر هذا الليل وأسأله ماذا أفعل؟
عربات يهوذا تنزل من صوب التوراة وتجرف آخر أطفالي
ستمر على صدري أقدام الجند وأحذية البدو الرحل ويباع ردائي
- ينحني القلب على الوجه الجميل ينحني حتى انكسارات الجسد
أنت أقفلت المدى قبل الرحيل افتح الباب قليلا يا ولد
ينحني القلب على الوجه الجميل كي يرى الموت يغطي ساعديك
أقفل الباب على نصف الرحيل نصف عينيك وأطراف يديك
- ينكسر قلبي في حضرة وجهك يا مولاتي
كالكوكب كوكب طبشور أو عصفور متعب مرمي تحت سماء الله
وجهك يا مولاتي ذي الأبواب السبعة والأقفال
وأنا أحمل مفتاحي بيميني وأنقله بين العين وبين القلب
وفاة محمد علي شمس الدين
توفي الشاعر والأديب والفيلسوف اللبناني الكبير الدكتور محمد علي شمس الدين يوم 11 سبتمبر عام 2022 وهو في عامه الـ80 بعد مدة قضاها في المستشفى، ودفن في بلدته عربصاليم، وكتبت له ابنته رباب قائلة:
"لم تعلمني كيف تكفن القصيدة وقد غسلناها بدمع المحاجر
ولم تعلمني كيف يدفن الشعر ولم تخبرني أن للشعر مقابر".
وهكذا رحل الشاعر الكبير تاركًا خلفه أعماله نابضة بالحياة والجمال في تجربة ثرية ينهل منها العابرون على طريق الكتابة والوعي والثقافة.
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في عالم الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين، نرجو أن نكون قدَّمنا لك المتعة والإضافة والحماس لقراءة أشعار شمس الدين، والاستمتاع بسحرها وروعتها.
ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.