على الرغم من ظهوره في ظروف سياسية واجتماعية تتساقط فيها المشروعات القديمة، وتبدأ مشروعات أيديولوجية جديدة في النهوض والسيطرة على أفكار وأحلام وطموحات الأمة العربية، فإن عمر أبو ريشة استطاع الخروج من هذا النفق والتحليق بتجربته الشعرية فوق صخور الأيديولوجيا منحازًا للمعرفة وليس للأفكار الثابتة، وهو ما جعله يصنع مشروعًا شعريًا خاصًّا يختلف شكلًا ومضمونًا عن زحام المشروعات المعاصرة، ليصبح أحد أعلام الكتابة العربية في النصف الثاني من القرن الـ20، وهو ما ساعده عليه نشأته في أسرة ذات تركيبة خاصة ورحلته التي خاضها في العمل والتعليم.
وفي هذا المقال نبحر معًا في عالم عمر أبو ريشة الشاعر السوري الكبير، لنتعرف على ملامح هذا العالم، وأهم المحطات التي مر بها عمر أبو ريشة.
اقرأ أيضًا في ذكرى رحيله.. أنطون تشيخوف عملاق المسرح ورائد القصة القصيرة
عمر أبو ريشة.. المولد والنشأة
مع أن معظم المصادر البحثية تؤكد أن عمر أبو ريشة ولد في يوم ١٠ أبريل عام 1910 بمدينة حلب في سوريا، فإن الشاعر نفسه قد أكَّد في أحد اللقاءات أنه ولد في مدينة عكا، حيث كانت والدته تقيم عند أهلها بعد أحداث نفي والده إلى تركيا.
ولد عمر أبو ريشة في أسرة سورية فلسطينية، فكان الأب ينحدر من عائلة ذات شأن كبير في سوريا، ويعود نسبها إلى فضل بن ربيعة، وكان أبوه هو شافع أبو ريشة الذي عاش حياة مملوءة بالأحداث والزخم الكبير، فقد ترقى حتى أصبح قائم مقام في كل من منبج والخليل، في حين تعرض للنفي والترحال سنوات طويلة، ثم عاد من المنفى ليتولى منصب قائم مقام طرابلس قبل أن يتفرغ للعمل بالزراعة حتى موته، وكان الأب شاعرًا كبيرًا يُمارس الكتابة والسياسة في الوقت نفسه.
بينما كانت والدته السيدة خيرة الله إبراهيم علي اليشرطي، وهي فلسطينية من مدينة عكا، وكانت أيضًا من أسرة ذات شأن كبير، فقد كان أبوها أحد شيوخ الطرق الصوفية في فلسطين، وهو ما أثَّر عليها كثيرًا، فكانت تكتب الشعر الصوفي وتقرأ بنهم عن الشعراء المتصوفين، وبذلك كانت الأم مصدرًا للمعرفة والإلهام والوعي لأبنائها الذين تشبعوا بالشعر منذ حداثة أعمارهم.
وعن إخوته، فقد كان لعمر أبو ريشة أخ واحد وهو ظافر أبو ريشة الذي كان له نصيب في الكتابة، فطبع له ديوانين من الشعر، وأختين إحداهما تكتب الشعر وهي زينب أبو ريشة التي نالت قدرًا كبيرًا من الشهرة والانتشار، والأخت الكبرى سارة أبو ريشة التي لا يُذكر عنها أنها مارست الكتابة أو النشر.
وهكذا يمكننا أن نرى أن ظروف النشأة للشاعر عمر أبو ريشة ساعدته كثيرًا على أن يُلم بالثقافة والكتابة والوعي مع سنواته الأولى، فكان البيت مكتبة ضخمة سواء بتلك الكتب الموجودة على الأرفف، أو ما تحويه عقول وقلوب أفراد الأسرة، أضف على ذلك النزعة الصوفية لدى الأم، والثورة والقوة والحماس الشديد في تجربة الأب؛ لذا فقد كان المناخ مناسبًا تمامًا لانطلاق تجربة استثنائية خاصة مع ما سيأتي من أحداث في حياة الشاعر عمر أبو ريشة.
عمر أبو ريشة.. التعليم والوظائف
يُذكر أن الشاعر عمر أبو ريشة تلقى تعليمه الابتدائي في مدينة حلب السورية، ثم اتجه في المرحلة الثانوية إلى الكلية البروتستانتية التي نطلق عليها الآن الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث بدأ الفتى ينشعل بالكتابة ويهتم بالشعر، ثم كانت النقلة الكبيرة في حياة عمر أبو ريشة عندما أرسله والده لكي يتعلم في إنجلترا عام ١٩٢٩؛ ليبعده عن كتابة الشعر على أمل أن يتعلم صناعة النسيج، فدرس تخصص الكيمياء الصناعية في جامعة مانشستر، لكن الفتى الشاعر لم يحصل على شهادة في الكيمياء الصناعية، إذ عاد بعد ثلاث سنوات إلى حلب دون إكمال دراسته الجامعية، فإن تجربته في إنجلترا زادته زخمًا واطلاعًا وارتباطًا بالمعرفة والعلم، وهو ما كان يحتاج إليه في تلك الظروف التي تمر بها الأمة العربية.
·تولى عمر أبو ريشة مجموعة كبيرة من الوظائف ذات المكانة العالية، إذ كان أديبًا ودبلوماسيًّا بجدارة، وكان دائمًا ينال ثقة الحكومات المتتابعة في سوريا؛ ما وضعه على قمة العمل السياسي، فقد تميز بالوعي الكبير والقدرة على إدارة الأمور؛ نظرًا لما يمتلك من ثقافة هائلة ومعرفة متطورة، أضف على ذلك لغته الأدبية التي جعلت منه دبلوماسيًّا هادئًا وقويًّا، حتى إنهم أطلقوا عليه "وجه سوريا الجميل".
المناصب التي تولاها عمر أبو ريشة
- مديرًا لدار الكتب الوطنية في مدينة حلب.
- ملحقًا ثقافيًّا لسوريا في الجامعة العربية.
- وزير لسوريا مفوضًا في الأرجنتين وتشيلي.
- سفيرًا لسوريا في الهند.
- سفيرًا لسوريا في النمسا.
- سفيرًا لسوريا في الولايات المتحدة.
اقرأ أيضًا محمد البساطي.. كاتب المهمشين الذي رفض جوائز الدولة
أدب عمر أبو ريشة
عند الدخول إلى عالم عمر أبو ريشة الأدبي، لا بد أن تفهم الظروف السياسية التي نشأ فيها الشاعر الكبير كانت تشهد على سقوط مشروع النهضة العربية، الذي تحدث عنه رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني وغيرهم، وهو ما توازى مع ظهور مجموعة من الأيديولوجيات الجديدة التي سيطرت على فكر وعقول الكتاب والمفكرين العرب، وجعلت كل منهم ينحاز إلى أحد هذه الأيديولوجيات، ويرتبط به على مستوى التفكير والكتابة، وهي ظهور المشروع الإسلامي على يد سيد قطب، والثورة البلشفية في روسيا، وظهور حركة القومية العربية، ويكاد المشهد لا يخلو من شاعر أو كاتب أو مفكر أو أديب قد تأثر في إحدى هذه الأيديولوجيات الثلاثة التي كانت بالطبع قيدًا كبيرًا في تطور التجارب الشعرية.
ومن ذلك يأتي تميز عمر أبو ريشة في قدرته على التحليق بالشعر فوق أحجار الأيديولوجيا التي كانت جاثمة على صدر الأمة العربية ومفكريها وكتابها، فقد انحاز إلى المعرفة، وهو ما ساعده عليه ثقافته الكبيرة ووعيه المتطور، إضافة إلى اختلاطه بالثقافة الغربية؛ نظرًا لتلقيه تعليمه بإنجلترا، والمناصب التي عمل بها التي وضعته دائمًا في أطر معرفية مختلفة، وبذلك كان عمر أبو ريشة صوتًا منفردًا يغرد خارج السرب على مستوى الكتابة والتفكير والآراء، لذلك نعتقد أن عالم عمر أبو ريشة الأدبي عالم مختلف وسط عشرات العوالم المتشابهة.
كان عمر أبو ريشة صوتًا رشيقًا بسيطًا محملًا وبالأحاسيس والمشاعر الهامسة، وهو ما استدعى منه أن ينقلب على التراكيب الإيقاعية القديمة في القصيدة العربية؛ ليخرج من حدود المصطلحات والمعاني الثقيلة إلى اللغة البسيطة اليومية التي يعيشها ويعرفها الناس، وهو ما أعده كثير من الكتاب والمفكرين ثورة على الشكل القديم، لا سيما أن الناس تعودوا في هذه المرحلة على الاستماع إلى شعراء يحافظون على الشكل الكلاسيكي، مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم، وهو ما أعطى أدب وشعر عمر أبو ريشة بُعدًا آخر، حيث تجمع حوله القُراء والمستمعين من كل مكان باختلاف ثقافتهم ومستوى وعيهم، ليضم جمهورًا جديدًا إلى عالم الشعر، ويحظى أيضًا بمحبة واهتمام الجمهور القديم.
وحين نتحدَّث عن قدرة عمر أبو ريشة على الخروج من عباءة المدرسة القديمة في الشعر، وتطوير أدوات الكتابة للوصول إلى هذه المرحلة من الرشاقة والأناقة في التعامل مع اللغة على مستوى الشكل والمضمون، فإننا يجب أن نُشير أيضًا إلى تأثر الشاعر عمر أبو ريشة بالشعر الغربي، ولا سيما بالكُتاب الإنجليز؛ نظرًا لطبيعة دراسته في إنجلترا، فقد تأثر كثيرًا بقدرة الكتاب الغربيين على الاستفادة من الثقافات المختلفة، وهو ما جعله يُصدر ديوانَا بالإنجليزية عام 1957، وأسماه (تطواف) وهي تجربة غريبة أيضًا على شاعر عربي تُضاف إلى ملامح الكتابة عند عمر أبو ريشة.
ولعلَّ أكثر ما يُمكن أن تختبره في أدب عمر أبو ريشة هو الآنية والمعاصرة، لأننا الآن في عشرينيات القرن الـ٢١ نستطيع أن نقرأ قصيدة لعمر أبو ريشة، ونتعايش معها، ونتفاعل على المستوى الذهني والشعوري والمعرفي أيضًا، وكأنها كُتبت بالأمس، وهذا ما يُميز الأدب الجيد عامة، ويميز أدب عمر أبو ريشة خاصة.
اقرأ أيضًا في ذكرى رحيله.. الشاعر خالد نصرة صوت فلسطين ووجع الأمة العربية
الأعمال والمؤلفات
- ديوان بيت وبيان
- ديوان نساء
- ديوان كاجوارد
- مسرحية تاج محل
- مسرحية سميراميس
- مسرحية محكمة الشعراء
- ديوان غنيت في مأتمي
- ديوان أمرك يا رب
- مسرحية علي
- مسرحية الحسين
- مسرحية رايات ذي قار
- مسرحية الطوفان
- ديوان باللغة الإنجليزية (تطواف )
وغير ذلك العديد من الكتابات والأعمال الشعرية التي لم تُجمع في كتب أو دواوين.
وفاة عمر أبو ريشة
توفي الشاعر الكبير عمر أبو ريشة يوم 15 يوليو عام 1990 بعد صراعه مع المرض؛ نتيجة للإصابة بجلطة دماغية، فقد وافته المنية في أحد مستشفيات العاصمة السعودية الرياض، ونُقِل جثمانه إلى مدينة حلب مسقط رأسه، ودُفِن بها الشاعر الكبير.
وهكذا رحل الشاعر والمناضل والدبلوماسي والمثقف العربي الكبير عمر أبو ريشة عن عالمنا تاركًا أعماله تُحلِّق في سماء الشعر، وتعبر حدود المكان والزمان والأيديولوجيا، وتُعطي الكثيرين ممن لم يعاصروا هذا الشاعر الكبير الفرصة في التعرُّف على ملامح عالمه الخاص، والاستمتاع بأدبه وشاعريته، والتعلم من مدرسته وأدواته كأحد أهرام الكتابة العربية في القرن الـ20.
وفي الأخير نرجو أن تكون هذه الرحلة في عالم عمر أبو ريشة قد منحتك المتعة والإضافة، ويسعدنا أن تشاركنا رأيك في التعليقات ومشاركة المقال على مواقع التواصل؛ لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.