مع سقوط آلاف اللغات المنطوقة، ومع توقعات من منظمة اليونسكو بأن تختفي نصف لغات العالم في نهاية القرن الحالي، فإن اللغة العربية بقيت صامدة وشامخة وقادرة على الانتشار والتمدد ومقاومة كل عوامل الانحسار والسقوط؛ لأسباب عدة منحتها القوة والثبات على مر السنوات.
وعلى الرغم من الظروف التاريخية الصعبة والهجمات العنيفة على الثقافة العربية ومحاولات محو الهوية التي تعرض لها العرب في أوقات متفرقة.
ها نحن اليوم نتحدث عن اللغة العربية بكل فخر؛ فقد أصبحت اللغة الرابعة على مستوى العالم حسب عدد المتحدثين بها الذي وصل إلى نحو نصف مليار شخص يتحدثها بصفتها لغة أولى أو ثانية.
وعلى الرغم من أن الحضارة والتقدم التكنولوجي يتركز في الغرب؛ فإن اللغة العربية استطاعت أن تحتل هذه المكانة الكبيرة بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية، ومتفوقة على لغات قديمة وقوية ومنتشرة وذات شأن كبير على مستوى العالم مثل اللغة البرتغالية واللغة الألمانية واللغة الإيطالية واللغة الهندية.
عوامل انتشار اللغة العربية
ويعود تفوق اللغة العربية وثباتها وقدرتها على الانتشار لعوامل عدة قد لا تتوفر لأي لغة أخرى، ومنها على سبيل المثال:
اللغة العربية هي لغة القرآن
مما رفع شأن اللغة العربية، ومنحها كثيرًا من التنظيم والثبات والقوة، هو ارتباطها بالقرآن الكريم منذ أكثر من 1400 عام، إضافة إلى أهمية اللغة العربية في إقامة الشعائر الإسلامية والعبادات والتعامل مع النصوص الدينية.
لذا أصبحت كل علوم الدين الإسلامي مرتبطة باللغة العربية؛ وهو ما منحها أهمية خاصة عند المسلمين؛ وعلى هذا فقد اكتسبت أهمية كبرى لدى غير العرب الذين يدينون بالإسلام، وبالطبع المسلمين الجدد الذين ينضمون إلى المجتمع الإسلامي، ويلجؤون إلى تعلم اللغة العربية.
النظام الصوتي للغة العربية
تتميز اللغة العربية عن باقي اللغات الأخرى بأن لها نظامًا صوتيًّا غنيًّا يحتوي كثيرًا من الأصوات التي لا توجد في أي لغة أخرى مثل حروف (ض - ع - ق)؛ وهو ما أكسبها كثيرًا من التميز والقوة.
وإضافة إلى التنوع الصوتي المميز فإن قدرة اللغة العربية على التعبير تتخطى قدرة أي لغة أخرى؛ وهو ما منحها كثيرًا من العمق والثبات الذي جعل منها تجربة فنية ممتعة، بجانب كونها لغة للتواصل.
قواعد اللغة العربية
من الأمور التي حفظت اللغة العربية وميزتها عن باقي اللغات هي القواعد التي تحكمها، وتعطيها بنية صارمة على مستوى التنظيم والتعبير، مثل القواعد النحوية والإعراب والتشكيل.
لذا فإن اللغة العربية تتميز بشيء من التعقيد الذي لا يجعلها صعبة بقدر ما يجعلها مرنة ومحببة للأشخاص الذين يتعلمون القواعد في بداية تعرفهم على اللغة العربية؛ وهو ما يجعلهم أكثر انضباطًا وقدرة على استكشاف جمال اللغة وكنوزها الهائلة.
تطور اللغة العربية
من الأمور المهمة في رحلة اللغة العربية عبر التاريخ أنها استطاعت أن تتطور على الرغم من كونها لغة قديمة، لكنها تكيفت مع الاحتياجات البشرية على طول الزمان، فكانت قادرة على احتواء واستيعاب المفردات والكلمات الجديدة التي تتناسب مع متطلبات الحياة اليومية نتيجة الاحتكاك مع الثقافات والحضارات الأخرى؛ وهو ما جعلها باقية حتى الآن رغم سقوط كثير من اللغات التي احتكت باللغة العربية.
ويمكنك ببساطة العثور على كثير من الكلمات التي تنتمي إلى ثقافات أخرى التي تم تعريبها مع الوقت، إضافة إلى أسماء المخترعات والمبتكرات والمصطلحات الطبية والتكنولوجية الجديدة التي وجدت مكانًا لها في نطاق التعاملات العربية بمرونة وبساطة مدهشة.
المنجز الإبداعي
لم تتوقف اللغة العربية أبدًا عند كونها لغة للتواصل فقط، وإنما تجاوزت الأمر كثيرًا بكونها لغة القرآن، وبكونها أيضًا وعاءً لمنجز إبداعي ضخم يضم تراكمات هائلة من الأدب والفنون العربية، وعلى رأسها الشعر العربي بدايةً من العصر الجاهلي ومرورًا بالعصور الأدبية المختلفة ووصولًا إلى العصر الحديث.
لذا فإن الشخص الذي يتعلم اللغة العربية يستطيع أن يستمتع بهذا المنجز الإبداعي الكبير، ويتلمس فيه جمال اللغة العربية وإبداعها وفرادتها وقدرتها على التعبير والوصول إلى مناطق قد يستعصي على لغة أخرى الوصول إليها.
تاريخ اللغة العربية
ومع هذا التميز الكبير والشعور بالفخر للانتماء إلى الأمة العربية والوقوف على هذا الكنز الكبير الذي يتجاوز كونه مجموعة من الحروف والأصوات، فإننا نعود إلى تاريخ اللغة العربية التي بدأت بصفتها إحدى اللغات السامية التي تضم كثيرًا من اللغات القديمة على غرار الآرامية والفينيقية والعبرية والكنعانية واليمنية والبابلية التي يُطلق عليها في بحوث أخرى (اللغات الشرقية القديمة) التي يختلف العلماء والباحثون في مكانها الأول؛ فمنهم من يقول إنها بدأت في بلاد الحبشة، ومنهم من يشير إلى شمال إفريقيا بكونها الموطن الأول للساميين.
وتشير بعض الدراسات إلى قدومهم من جنوب العراق أو بلاد كنعان أو شبه الجزيرة العربية وبالتحديد من جنوبها حيث هضبة نجد وبلاد اليمن.
وكثير من الباحثين العرب رفض تسمية الشعوب التي تعود إليها هذه اللغات باسم الشعوب السامية، ومنهم الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد الذي استبدل بهذا المصطلح اسم (الشعوب العربية أو الشعوب العروبية) الذي رجح في كتاباته على أنها تعود إلى شبه الجزيرة العربية.
كانت المرحلة الأولى في تاريخ اللغة العربية تضم كثيرًا من اللغات الأخرى في الحيز الزمني والجغرافي نفسه الذي لا يمكن تحديده بسهولة، فتشير بعض الدراسات إلى القرن الـ 20 قبل الميلاد، وبعضها تتحدث عن القرن الـ 12 قبل الميلاد، لكن الكتابات العربية المعروفة والثابتة لدى الباحثين تقول إنها تعود إلى منطقة شبه الجزيرة العربية في القرن الأول قبل الميلاد.
أما المرحلة الثانية في تاريخ اللغة العربية فهي مرحلة اللهجات المختلفة التي تكلمت بها القبائل المنتشرة في شبه الجزيرة العربية، وبالتحديد في المناطق الشمالية، واختلطت هذه اللهجات كثيرًا باللغة الآرامية القديمة، وهو ما ظهر في النقوش الثمودية والنقوش الصفوية ونقوش حوران.
وهو ما عثر عليه المستكشفون والمستشرقون في رحلاتهم في صحاري شبه الجزيرة العربية، وحصلوا على مئات الصور لهذه النقوش والآثار والمخطوطات التي أشارت إلى وجود ممالك عربية قديمة انتشرت في الطريق القديم بين الهند والصين وبلاد الروم، واستخدمت اللغة العربية بلهجات عدة.
أما المرحلة الثالثة في تاريخ اللغة العربية فهي اللغة العربية الفصحى التي انتشرت من مدن نجد والحجاز إلى باقي شبه الجزيرة العربية التي كتب من خلالها العرب الأدب الجاهلي والأشعار التي وصلت إلينا بعد ذلك.
وفي هذه المرحلة بدأت قبيلة قريش تكتسب أهمية كبيرة حيث كان العرب يأتون في موسم الحج من كل مكان في عرس ثقافي كبير يعرضون فيه آدابهم، ويتنافسون في الشعر والخطابة، لذا كانت قريش أشبه بمجمع اللغة العربية وميزان البلاغة والفصاحة عند العرب.
وتأتي المرحلة الرابعة في تاريخ اللغة العربية، وهي مرحلة التنظيم والوحدة، والتي ظهرت بعد نزول القرآن الكريم الذي جاء بلهجة أهل قريش، وحاز إعجاب العرب وأدهشهم بروعته وقوة بيانه وعظمة برهانه، لذا بدأ العرب جميعًا يحاولون التحدث بتلك اللهجة ويقتربون منها كثيرًا، حتى إن مَن لم يدخل منهم في الإسلام فإنه سلَّم بروعة اللغة والصياغة والأداء، وعلى هذا بدأت اللغة العربية تأخذ شكلًا واحدًا، وأصبح لها تقاليد موحدة، ومع الوقت ظهرت علوم اللغة التي قامت بضبط تداول اللغة على مستوى القراءة والكتابة.
وفي المرحلة الخامسة ومع الفتوحات الإسلامية بدأ كثير من الناس يدخلون الإسلام من غير العرب، ومن أطراف شبه الجزيرة العربية من أصحاب الثقافات واللغات القديمة، مثل الفارسية والقبطية والأمازيغية واللاتينية والفارسية والسريانية، وهو ما وضع اللغة العربية في مواجهة هذه اللغات، لكنها استطاعت أن تنتشر بصورة كبيرة، وفي غضون 100 عام سادت اللغة العربية في كل الأقطار التي يحكمها المسلمون، وظهرت كثير من أشكال الفنون والآداب الخاصة باللغة، والتي زادت قيمتها وساعدت في انتشارها أكثر وأكثر.
والمرحلة الأخيرة في تطور اللغة العربية كانت متعلقة بالتدوين والكتابة. فقد تعوَّد العرب على مدار تاريخهم الطويل على نقل الآداب والروايات عن طريق الحفظ والحكي الشفوي، وهو ما كان أمرًا طبيعيًّا في ذلك الوقت، حيث كانت كل قبيلة تعتز كثيرًا بشعرائها وخطبائها.
وكان أفراد القبيلة يحفظون الخطب والقصائد التي كانت تصل في بعض الأحيان إلى دواوين ومعلقات، لكن اتساع الدولة الإسلامية وتغيُّر طبيعة الحياة فرض على المسلمين والعرب جمع اللغة وصناعة المعاجم من أجل الحفاظ على كيان اللغة، وكذلك الحفاظ على الصورة التي نزل بها القرآن، إضافة إلى المشكلات التي واجهت المسلمين الجدد في ذلك الوقت بسبب النطق الخاطئ واللحن والتأثر بلغاتهم الأصلية عند قراءة القرآن، لذا كان الجمع والتدوين تطورًا طبيعيًّا للغة العربية.
يمكنك معرفة المزيد عن تاريخ اللغة العربية عن طريق مشاهدة هذا الفيديو من هنا
اليوم العالمي للغة العربية
وكما تكلمنا باختصار عن الرحلة الطويلة التي خاضتها اللغة العربية حتى تصل إلينا بهذا الشكل الذي نعرفه، فإننا أيضًا نشير إلى قصة اليوم العالمي للغة العربية الذي يحتفل به العالم ممثلًا في منظمة الأمم المتحدة في 18 من ديسمبر من كل عام، وهو ما يجب أن يعده العرب في كل مكان في العالم انتصارًا كبيرًا للعروبة وللغة العربية، فلم يكن يوجد يوم للغة العربية قبل عام 1973، فلم تكن اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة.
وعلى الرغم من عدد الناطقين باللغة العربية، لكن الأمم المتحدة منذ نشأتها عام 1945 لم تتخذ اللغة العربية لغة رسمية، وإنما سمحت عام 1954 بترجمة عدد من الصفحات إلى اللغة العربية على حساب الدولة التي تطلب الترجمة، ووضعت مجموعة من الشروط لاستخدام الأوراق المترجمة باللغة العربية ضمن نطاق الأمم المتحدة، وهو ما كان أشبه بتجاهل كبير للكيان العربي على مستوى الدول والأفراد.
وقد تطور الأمر قليلًا عام 1960 حينما سمحت الأمم المتحدة باستخدام اللغة العربية في بعض المؤتمرات التي تُقام في دول تتحدث اللغة العربية عن طريق توزيع المنشورات أو ترجمة الوثائق، وهو ما تطور كثيرًا عام 1966، فسمحت منظمة اليونسكو باستخدام اللغة العربية على مستوى الترجمة الفورية قبل أن تستعمل اللغة العربية عام 1968 على نحو أكبر بعد ضغط كبير من الدول العربية التي كانت تسعى لأن تكون اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية المعمول بها في الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من رضوخ الجمعية العامة للأمم المتحدة لضغوط الدول العربية في سبتمبر عام 1973، والسماح باستخدام اللغة العربية في المعاملات الشفوية في أثناء انعقاد المؤتمرات والدورات، لكن الأمر لم يكن كافيًا أبدًا؛ فاضطرت الأمم المتحدة يوم 18 ديسمبر عام 1973 أن تصدر قرارها رقم 3190 الذي قررت فيه اعتبار اللغة العربية لغة رسمية بين اللغات الرسمية الست للمنظمة الدولية وجميع الهيئات التابعة لها.
الجميل في الأمر أن الأمم المتحدة قررت في عام 2008 إنشاء مجلس دولي للغة العربية عن طريق منظمة اليونسكو، وهو المجلس الذي أُنشئ فعلًا في العاصمة اللبنانية بيروت، وأقيم به المؤتمر الدولي الأول عام 2012.
أما عن موضوع اليوم العالمي للغة العربية فقد وُضع ضمن جدول العناصر الأساسية لمنظمة اليونسكو منذ عام 2013 بناء على قرار الهيئة الاستشارية للخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية؛ لذا فقد قررت منظمة اليونسكو في عام 2023 إقامة احتفال خاص باللغة العربية؛ وذلك لمرور 50 عامًا على إعلانها لغة رسمية للأمم المتحدة في اليوم نفسه من عام 1973.
وعلى هذا فإننا نحتفل يوم 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية، ونحتفل أيضًا بقدرة اللغة العربية على البقاء والانتشار والصمود والثبات أمام المواقف والظروف المتتالية.
وفي نهاية هذا المقال الذي تضمن جولة سريعة في تاريخ اللغة العربية، والمراحل التاريخية التي مرَّت بها، نرجو أن نكون قدَّمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل؛ لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.