يُعد فيلم «على من نطلق الرصاص؟» علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية، وتحفة فنية جمعت بين الإثارة البوليسية والعمق السياسي ببراعة، محتلًا مكانة متقدمة في قائمة أفضل 100 فيلم مصري في تاريخ السينما المصرية، من إخراج كمال الشيخ وبطولة كوكبة من النجوم على رأسهم سعاد حسني ومحمود ياسين، يطرح الفيلم أسئلة جريئة حول الفساد المستشري والعدالة الغائبة والمسؤولية الفردية والمجتمعية.
يتناول هذا المقال بعمق تفاصيل هذه الدراما السياسية البوليسية التي عُرضت عام 1975، مستكشفًا الحبكة المعقدة والشخصيات المؤثرة والقضايا الاجتماعية والسياسية المهمة التي طرحها الفيلم، ونحلل كيف استطاع المخرج كمال الشيخ ببراعة دمج عناصر التشويق والإثارة مع النقد الاجتماعي والسياسي، ليقدم عملًا سينمائيًا لا يزال يثير النقاش والتأمل حتى اليوم، انضم إلينا في رحلة لاستكشاف أسرار هذا الفيلم الخالد وأبعاده الفنية والفكرية.
قصة فيلم على من نطلق الرصاص
جريمة تكشف عن شبكة فساد معقدة، تبدأ أحداث الفيلم بمصطفى حسين (محمود ياسين) الذي يذهب إلى مكتب رشدي عبدالباقي (جميل راتب)، رئيس مجلس إدارة الشركة العصرية للمقاولات، ويطلق عليه الرصاص، وفي أثناء محاولته الهروب، تصدمه سيارة، فيُصاب هو ورشدي ويُنْقَلَان معًا إلى المستشفى في سيارة إسعاف واحدة، مما يُضفي عنصر الصدفة الدراميّة ويُعزّز تعاطف المشاهد مع الضحيتين معًا، لنكتشف بعد ذلك أن رشدي عبدالباقي كان قد تولى إدارة عدة مؤسسات، منها مؤسسة الدواجن ومؤسسة الصناعات الإلكترونية، قبل أن يدير شركة المقاولات، وخلال إدارته، تعاون مع المدير المالي ومدير المشتريات في التلاعب بمواد البناء، وتحقيق ثروات كبيرة جدًّا من هذا الفساد وبيع المواد في السوق السوداء.
أما مصطفى حسين، فكان موظفًا بسيطًا ومثقفًا ذا ميول يسارية تعرّض للاعتقال المتكرر منذ أن كان طالبًا جامعيًا بسبب نشاطه السياسي، وكان صديقًا للمهندس سامي (مجدي وهبة)، الذي كان يعمل بالشركة العصرية وخطيب تهاني. وقد انهارت بعض المساكن التي أنشأتها الشركة، وتحمَّل سامي المسؤولية على الرغم من أنه لم يشرف على الأساسات، وزُوِّرَت توقيعاته، وعندما هدَّد سامي بفضح الفساد، قُتِل بالسم في السجن بتدبير من قاسم (أحمد توفيق) بمساعدة السجَّان.
بعد ثلاث سنوات من الحادثة، تزوَّج رشدي عبدالباقي بتهاني، ما صدم مصطفى حين علم بالأمر بعد خروجه من السجن، فالتقى مصطفى بتهاني وأخبرها بحقيقة موت سامي، مؤكدًا أن رشدي وشركاءه هم من قتلوه، واستدل بشهادة السجين رزق (علي الشريف) الذي كان زميل سامي في الزنزانة.
واجهت تهاني زوجها رشدي وهو في المستشفى، لكنه أنكر كل شيء، وتم طرد تهاني من بيت رشدي على يد شقيقته وزوجها وشقيقه، ما دفعها للإصرار على كشف الحقائق، تمكنت تهاني من العثور على السجين رزق الذي اعترف بكل ما حدث، وقدَّمت شهادته لوكيل النيابة، فأصبح رشدي عبدالباقي مجرمًا رسميًّا وهو راقد في المستشفى، وقد فارق مصطفى حسين الحياة متأثرًا بجراحه.
أبطال فيلم (على من نطلق الرصاص)
أدى بطولة فيلم (على من نطلق الرصاص) كوكبة من أبرز النجوم وهم الفنانة سعاد حسني في دور تهاني والفنان محمود ياسين في دور مصطفى حسين، والفنان عزت العلايلي في دور وكيل النيابة المحقق، والفنان مجدي وهبة في دور سامي عبد الرؤوف، وجميل راتب في دور رشدي عبد الباقي، وأحمد توفيق في دور قاسم، والفنان حسن عابدين في دور محامي رشدي، والفنانة فردوس عبد الحميد في دور بدرية، إضافة إلى كوكبة من أبرز النجوم: نبيل دسوقي، وعدلي كاسب، وداد حمدي، وقدرية قدري، وحسن حسين، وناجي أنجلو، وجليلة محمود، وهدى زكي.
رؤية كمال الشيخ وصناع فيلم (على من نطلق الرصاص)
فيلم (على من نطلق الرصاص) من إخراج كمال الشيخ (المعروف بلقب «هيتشكوك السينما المصرية» لبراعته في أفلام التشويق والجريمة)، وساعده على الإخراج عبد اللطيف زكي وأحمد النحاس، وأعد الأسكريبت، ونفذ المونتاج حسن حلمي، والديكور لماهر عبد النور، والفيلم من إنتاج استوديو 13، وأشرف على التصوير محسن نصر، وكتب القصة والسيناريو والحوار رأفت الميهي، وألَّف الموسيقى التصويرية فؤاد الظاهري.
السياسة خلف ستار الجريمة.. تمرير فيلم جريء
فيلم (على من نطلق الرصاص) هو فيلم سياسي من الدرجة الأولى، وعلى الرغم من هذا فالرقابة لم تقف عائقًا في الموافقة عليه، وذلك بسبب الحبكة الدرامية البوليسية التي اختارها المخرج كمال الشيخ، الذي جعل الفيلم ينتمي إلى أفلام الجريمة الدرامية على الرغم من احتوائه عددًا من الرسائل السياسية وقضايا الفساد لا سيما في الستينيات.
ثنائية كمال الشيخ وسعاد حسني تعاون مثمر
يعد فيلم (على من نطلق الرصاص) هو التعاون الثالث بين كمال الشيخ وسعاد حسني بعد فيلمي (شروق وغروب) عام 1970 و(بئر الحرمان) عام 1969، وقد أظهر هذا التعاون قدرة الشيخ على توظيف طاقات سعاد حسني في أدوار مركبة وجادة بعيدًا عن الصورة النمطية للفتاة الشقية.
أسئلة الفيلم الجوهرية.. الرصاص والحقيقة المرة
لم يكن عنوان الفيلم وحده هو الذي تضمّن تساؤلًا «على من نطلق الرصاص؟»، بل إن نهاية الفيلم أيضًا أثارت سؤالًا آخر، عبرت عنه بطلة العمل الفنانة سعاد حسني (في دور تهاني) بقولها: «إذا ماكانتش القضية أرض عمارات، الناس كلها ماتت ليه؟» وهي هنا تشير إلى تفشي الفساد إلى حد بعيد في الوطن، وتبحث عن تفسير لما يحدث.
(على من نطلق الرصاص) لمن يوجه الاتهام؟
اختار المخرج كمال الشيخ عنوان الفيلم بعناية ليعبر عن حالة الحرب على الفساد: هل نطلق الرصاص على كبار الفاسدين في البلد؟ أم نطلقه على أنفسنا لأننا صمتنا وشجعنا فسادهم من دون كلمة اعتراض؟
استخدام الفلاش باك في فيلم (على من نطلق الرصاص)
اعتمد فيلم (على من نطلق الرصاص) على تقنية الفلاش باك (Flashback)، فبعد وقوع الحادثة في بداية الفيلم، نجد الجاني والمجني عليه معًا في سيارة واحدة في طريقهما إلى المستشفى، ثم تبدأ استرجاعات الماضي التي توضح أحداث القصة، متخللة بمشاهد للمحقق الذي يؤدي دوره الفنان عزت العلايلي، وعلى الرغم من استخدام الفلاش باك، فإنه لم يُربك الأحداث، بل كان وسيلة ممتازة أغنت حبكة الفيلم وقوَّت قصته بدرجة كبيرة.
جدل التصنيف وكمال الشيخ يرفض التصنيف السياسي
على الرغم من أن كثيرين من النقاد والجمهور صنفوا الفيلم عملًا سياسيًّا يناقش قضايا الفساد، فإن المخرج كمال الشيخ أصر على تصنيفه فيلمًا بوليسيًّا فقط، ورفض تصنيفه فيلمًا سياسيًّا.
رؤية رأفت الميهي كسر التقاليد وفضح الفساد
قال رأفت الميهي مؤلف قصة وسيناريو وحوار الفيلم عن الفيلم: «(على من نطلق الرصاص) محاولة جادة لكسر الموضوعات التقليدية التي تسير عليها السينما المصرية، الفيلم يلق الضوء على جانب من جوانب الفساد الداخلي بعرض مجموعة من العلاقات المستحيلة بين ثلاثة يمثلون جيلًا ضائعًا ممزقًا، تدور أحداث فيلم (على من نطلق الرصاص) في مجتمع سادَه الفساد والمحسوبية، فمن خلال التحقيقات التي يجريها وكيل النيابة (عزت العلايلي) تظهر خفايا فساد كانت مخفية وأكاذيب متوارية وراء حقائق، وتتوالى الأحداث للرد على سؤال: لماذا أطلق الرصاص على هذا الرجل الذي تؤكد الدلائل أنه رجل ثري وخير وعرف بالورع والطيبة، ويبني أكثر من مسجد من ماله الخاص».
يبقى فيلم على من نطلق الرصاص واحدًا من أبرز الأعمال في مسيرة كمال الشيخ والسينما المصرية كلها، نموذجًا للسينما الجادة التي تجمع بين المتعة الفنية والعمق الفكري. بنجاحه في تقديم قصة بوليسية مشوقة تحمل في طياتها نقدًا سياسيًا واجتماعيًا لاذعًا، وباستخدامه المتقن لتقنيات السرد، وبأداءات قوية من نجومه، يظل الفيلم محتفظًا بقوته وتأثيره، الأسئلة التي يطرحها حول الفساد والمسؤولية والعدالة لا تزال ذات صلة بواقعنا، ما يجعله أكثر من مجرد فيلم؛ إنه وثيقة سينمائية تستحق المشاهدة والتأمل مرارًا وتكرارًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.