الفن فعلًا هو القوة الناعمة والمؤثرة في حياة البشرية، خاصةً منذ بدايات القرن العشرين. وربما كانت السينما هي الأشد تأثيرًا من جميع الفنون الأخرى، فهي الفن الأضخم إنتاجًا، والأبقى في الذاكرة الجمعية. ولهذا، فقد استغلت السينما منذ الفيلم الناطق الأول، وهو الفيلم الأمريكي المُنتج عام 1927 "مُطرب الجاز"، في إرسال آلاف الرسائل المُبطنة، أو في توجيه العقل الجمعي لاتجاهٍ ما، أو حتى في التنبيه لأحداث ستحدث في المستقبل، لتظل السينما أحد أقوى وسائل التأثير على مدار ما يزيد على 98 سنة من السينما الناطقة، وعقودٍ سبقتها من السينما الصامتة.
كانت السودان من أوائل الدول التي ظهرت فيها السينما كفن وصناعة، فكان أول عرض سينمائي في السودان خلال عام 1910، وكان فيلمًا تسجيليًا للمخرج السويسري د. م. ديفيد، عن رحلة صيد قام بها في السودان. وبدءًا من عام 1910، تم تصوير عشرات الأفلام التسجيلية عن السودان، أغلبها بالطبع كان لمخرجين أوروبيين وأمريكيين.
السينما السودانية
خلال عام 1970، وبعد 14 عامًا من استقلال جمهورية السودان، أُنتج أول فيلم روائي سوداني طويل، وهو فيلم "آمال وأحلام" للمخرج السوداني إبراهيم ملاسي الذي استمر تصويره ثماني سنوات كاملة. وكان من إنتاج وسيناريو ومونتاج الرشيد مهدي، وبلغت مدة الفيلم ثلاث ساعات كاملة. واجه الفيلم عددًا من الصعوبات مع الرقابة، وتم قص مشاهده عدة، حتى خرج الفيلم أخيرًا سنة 1970 بصورته النهائية بعد جميع تعديلات الرقابة.
على مدار 50 سنة، وما بين عامي 1970 حتى عام 2019، أُنتج 7 أفلام سودانية طويلة فقط، حتى ظهر سنة 2019 الفيلم السوداني الأكثر شهرة في التاريخ "ستموت في العشرين" للمخرج أمجد أبو العلاء، وهو إنتاج مشترك سوداني-ألماني، ليُعلن عن عصر جديد للسينما السودانية بعد أن عرفت طريقها للإنتاج الأوروبي.
الفيلم عُرض في مهرجان فينيسيا الدولي في دورته الـ76 خلال عام 2019، ليحصل على جائزة أسد المستقبل لأفضل عمل أول، إضافة إلى ثلاث عشرة جائزة سينمائية أخرى، لينقل السينما السودانية إلى العالمية أول مرة في تاريخها الممتد عبر خمسين عامًا.
فيلم وداعاً چوليا
بعد أن مهَّد المخرج أمجد أبو العلاء الطريق للإنتاج المشترك، ظهر المخرج محمد كردفاني بعد 4 أعوام فقط من فيلم "ستموت في العشرين"، وتحديدًا عام 2023، برائعته "وداعًا جوليا" التي تُعد الأعظم في تاريخ السينما السودانية، وأحد أفضل الأفلام في السينما العربية في الألفية الجديدة، ليحصد بفيلمه 7 جوائز عالمية، أهمها جائزة "نظرة ما – جائزة الحرية" من مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ76 خلال عام 2023. وبالمناسبة، فإن أمجد أبو العلاء، مخرج فيلم "ستموت في العشرين"، شارك إنتاجيًّا في فيلم "وداعًا جوليا".
محمد كردفاني لم يتخرج من أي معهد سينمائي، فهو مهندس طيران يعيش في البحرين، لكن الفن لا يعترف إلا بالموهبة. محمد شارك في إنتاج فيلمه الأول "وداعًا جوليا" مع العديد من الجهات الإنتاجية الأوروبية التي لولاها لما خرج العمل بهذه الصورة، مما يُثبت مرة أخرى أهمية الإنتاج المشترك، خاصةً مع هذه النوعية من الأفلام التي يصعب -بل يستحيل- الحصول على منتج محلي لها.
كما ذكرت في مقالي السابق عن فيلم "سيدي المجهول" المغربي، فإن فيلم "وداعًا جوليا" يستحيل تصوره كونه عملًا أول لمخرجه وكاتبه، فالفيلم لا يحمل أي صورة من صور أخطاء العمل الأول، الفيلم شديد النضج على المستوى الفكري، شديد الحرفية على المستوى الإخراجي، وشديد الدقة في سرده الدرامي للأحداث.
قصة فيلم وداعاً چوليا
مع أنَّ الفيلم يُناقش -سواء بالصورة المباشرة أو غير المباشرة- قضية انفصال جنوب السودان عام 2011 التي كان قد مر عليها ما يقرب من 12 عامًا وقت تنفيذ الفيلم، لكنه يُمثل ما يُشبه الإنذار المبكر للقادم من الأحداث، وهو ما تعامل معه محمد كردفاني بمنتهى الحرفية والذكاء. فالفيلم يتناول مدة زمنية تقرب من 6 أعوام، بدايةً من عام 2005 حتى عام 2011.
يحكي الفيلم -على الصعيد الإنساني- بواسطة مجموعة من اختيارات شديدة العشوائية ووليدة اللحظة لبطلته الأولى منى، كيف تؤثر كثير من قراراتنا المتسرعة وغير المدروسة على تغيير مسار حياتنا بالكامل، بل وحياة الآخرين أحيانًا كثيرة، وكيف أدت هذه القرارات إلى علاقة صداقة غريبة الأطوار بينها وبين بطلتنا الثانية جوليا، وكيف أدى الاحتماء بالكذب من كلا الطرفين إلى استمرار تلك الصداقة الغريبة مدة 6 سنوات كاملة، على خلفية كثير من الأحداث السياسية التي مرت بها السودان خلال تلك المدّة.
يدلنا الفيلم في البداية على تاريخ بداية أحداثه، وهو شهر أغسطس 2005. ليبدأ الفيلم بعدها بمشهدين تعريفيين شديدي الأهمية يختصران عددًا من التفاصيل التوضيحية عن طبيعة كل شخصية من بطلتينا. المشهد الأول لمنى -بطلتنا الأولى-، التي أدت دورها الممثلة السودانية إيمان يوسف، في مطبخها تُجهز طعام الإفطار الذي ستتناوله مع زوجها أكرم الذي أدى دوره الممثل السوداني نزار جمعة. في أثناء تجهيزها للطعام، تتصل منى بجهة ما للاستعلام عن حفل غنائي لإحدى الفرق.
في هذا المشهد الصغير داخل المنزل نكتشف تفصيلتين في غاية الأهمية: الأولى هي منهجية منى في الكذب لحل أي مشكلة تصادفها، حتى لو كانت مشكلة صغيرة. الثانية هي حدث مهم نعرفه من شاشة التلفزيون، يؤجج مشاعر الجنوبيين، فيخرجون في مظاهرات بشوارع العاصمة الخرطوم.
المشهد الثاني لجوليا -بطلتنا الثانية- التي أدت دورها الممثلة الجنوب سودانية سيران رياك، وهي أيضًا في مطبخها، ولكن في منزل شديد التواضع، على العكس تمامًا من منزل منى. ونتعرف على أسرتها المكونة من زوجها سانتينو وابنها دانيال.
صاحب المنزل يطلب منهما إخلاءه على أثر المظاهرات التي قام بها الجنوبيون، على الرغم من كون سانتينو وجوليا بعيدين كل البعد عن جميع أشكال المظاهرات، ويعيشان كأي مواطن سوداني آخر، ليصبح سانتينو وجوليا مطالبين بترك المنزل والبحث عن مأوى آخر، ليضطرا إلى الإقامة مع إحدى القريبات العجائز في منزل من الصفيح، أسوأ حالًا بكثير من منزلهما السابق.
جوليا -كما سيكتشف المشاهد لاحقًا- هي جنوبية، لكنها عاشت حياتها كاملةً في الخرطوم، متطبعة بكل طباع أهل الشمال، لا تعرف شيئًا عن الجنوب، وتُعدُّ نفسها سودانية لا أكثر، بسيطة التعليم، وترفض بإصرار طلب سانتينو الدائم بالهجرة من السودان.
منى تحضر حفلات تلك الفرقة الموسيقية وهي متخفية تمامًا خلف نقاب حتى لا يراها أحد، وبالطبع، حتى أكرم زوجها لا يعلم بحضور منى لتلك الحفلات التي تقام في أحد المقاهي، ليكتشف المشاهد فيما بعد أن منى كانت المطربة الرئيسة لتلك الفرقة، لكن تحت ضغط من أكرم، وتخيير منى بين استمرار الزواج أو الغناء، وبعد طلاق سابق بسبب الغناء، تُجبر منى -بغير رضاها- على ترك الفرقة، لكنها تحضر متخفية كلما سمحت لها الظروف حفلات الفرقة في هذا المقهى.
تأتي الذروة الدرامية للفيلم بعد 11 دقيقة فقط من بدايته، عندما تضطر منى لتغيير مسار عودتها من المقهى نتيجة للمظاهرات التي أغلقت العديد من الشوارع. وفي أثناء انشغالها بخلع النقاب وهي تقود سيارتها، تصطدم سيارتها بدانيال -ابن جوليا البالغ من العمر 5 سنوات- في أحد الأزقة أمام المنزل الذي يقيمون به.
مع نزول منى من سيارتها لتطمئن على الطفل، وخروج سانتينو الأب من المنزل على صوت التصادم، تحدث مشادة بين الاثنين، تهرب على إثرها منى. ليتابعها سانتينو بدراجته البخارية بعد أن اطمأن على دانيال، لتتصل منى بأكرم -المتعصب- في أثناء المطاردة وتخبره بمطاردة أحد الجنوبيين لها، دون طبعًا سرد القصة الحقيقية.
يصل كلا من منى وسانتينو إلى شارع منزل أكرم ومنى، فيطلق أكرم -المنتظر أمام المنزل- الرصاص على سانتينو ويقتله في الشارع أمام المنزل بعد إجبار منى على الدخول، ليتصل بالشرطة بكري جار أكرم -عضو اللجنة الشعبية-، ويتمكن من إخراج أكرم من التهمة بعلاقاته بمنتهى السهولة، لأن هذا الجنوبي حاول التعدي على زوجة أكرم، بعد أن أخفى أكرم بإخفاء الدراجة البخارية، وتم في القسم إخفاء محفظة القتيل، ليصبح القتيل مجهول الهوية.
تتقدم جوليا ببلاغ في قسم الشرطة المجاور باختفاء زوجها، ليظل بلاغها على مدار 6 سنوات كاملة بلا أي إجابة، وتستمر في البحث عن زوجها المفقود على مدار هذه السنوات الست، فجريمة القتل التي وقعت أمام منزل أكرم ومنى كانت لجنوبي مجهول، بعد ما تم في القسم من إخفاء أي أوراق هوية سانتينو.
تبدأ رحلة منى في الندم ومحاولة التطهر من ذنبها، ومسؤوليتها في قتل هذا الأب الذي لا ذنب له، بقرارها الشخصي السري بتقديم الدية لأسرة هذا الرجل.
تبدأ منى رحلتها من قسم الشرطة، لتكتشف أن عملية تعتيم تمت لإخفاء هوية القتيل، لكن بمبلغ مالي، تتمكن منى من الحصول سرًّا على تقرير الشرطة الذي يتضمن هوية القتيل، وعلى المحفظة الخاصة به، لتبدأ منى الجزء الثاني من رحلتها للتطهر.
تصل منى إلى العنوان الجديد لأسرة سانتينو، وهو نفس المكان الذي وقع به الحادث، لكن منى -التي لا تجرؤ على المواجهة- تتردد في التواصل مع جوليا زوجة سانتينو، حتى تُتاح لها الفرصة على نحو غير مباشر، عندما تتبع منى جوليا، وتذهب عن قصد للشراء منها -بعد أن أصبحت بعد اختفاء سانتينو بائعة في أحد الشوارع-. بعد الشراء منها، تعرض منى على چوليا بطريقة غير مباشرة العمل لديها في منزلها، وتوافق چوليا مرحبةً، تحت ضغط الاحتياج المادي.
تبدأ چوليا عملها في منزل منى، في البداية على مدار اليوم فقط، لتتحول للإقامة التامة في منزل أكرم ومنى بعد ظروف وقعت للقريبة التي تقيم معها، مع اعتراض أكرم التام لهذا الوضع الذي بالطبع لا يعلم علاقة چوليا بالقتيل.
وفي المقابل، إصرار تام من منى، لتبدأ علاقة إنسانية بين الزوجتين الشابتين تستمر مدة 6 سنوات كاملة، تعدت حدود سيدة صاحبة منزل وسيدة تعمل معها، لتصبح صداقة بين سيدتين -بالرغم من اختلاف البيئات-.
قررت منى -بما أنها لم تستطع إعطاء مبلغ الدية مباشرة- أن تعطيه على نحو غير مباشر، وذلك بالتكفل الكامل بتعليم دانيال في مدرسة باهظة التكلفة، وهي إلى ذلك ساعدت چوليا على إكمال تعليمها في الكنيسة، على الرغم من جميع اعتراضات أكرم وعدم فهمه لأسباب هذه الصداقة الغريبة. فأكرم -المتعصب- يرى في چوليا شخصًا مختلفًا اجتماعيًّا وعقائديًّا وطبقيًّا، لكنه دائمًا ما يخفق في جميع محاولاته لثني منى عن صداقتها بجوليا. لكنه في الوقت نفسه، وبحكم عدم الإنجاب، يتعامل مع دانيال بود، لدرجة السماح لدانيال بمساعدته في عمله في مصنع الأثاث الصغير الذي يملكه أكرم.
في النهاية، هل فعلًا نجحت منى في التطهر من ذنبها؟ وهل نجح أكرم في إخفاء جريمته؟ وهل رضيت چوليا بالأمر الواقع؟ وكيف أثرت أحداث 2011 في السودان على العلاقة بين منى وچوليا؟
عدد من الأسئلة التي يُجيب عليها هذا الفيلم الرائع الذي أخذنا في رحلة شديدة الإنسانية في العلاقة بين سيدتين من بيئات شديدة الاختلاف، ورمزية تلك الصداقة وعلاقتها بأحداث السودان في المدّة ما بين عامي 2005 إلى 2011، في فيلم يحمل عشرات الرمزيات الإنسانية على كافة المستويات.
فيلم "وداعًا چوليا" لا يتكلم فقط عن الماضي، لكنه يحمل إنذارات شديدة الخطورة للمستقبل، وهو فعلًا يُعدُّ أحد أعظم الأفلام الناطقة باللغة العربية في الألفية الجديدة، والفيلم الأعظم في تاريخ السينما السودانية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.