فيلم عربي - ح1 «سيد المجهول» ووهم خُرافة الكرامات

كيف تصنع فنًّا يناقش قضايا مُجتمعه، وفي الوقت نفسه يحمل الرسالة الرئيسة للفن، وهي "الترفيه"؟

تبدو دائمًا تلك المُعادلة هي الأصعب في عالم صناعة السينما، فدائمًا ما يتخذ صانعو تلك النوعية من الأفلام التي تُناقش قضايا مُجتمعية، منحى يُحدث فجوة بينها وبين الغالبية العُظمى من المُتلقين، حتى باتت دائمًا توصف بأنها أفلام مهرجانات أو أفلام لفئة للمُثقفين فقط.

قد يعجبك أيضًا فيلم قصير ستاشر 16 .. تعرف على قصة الفيلم الحاصل على جائزة السعفة الذهبية

فيلم "سيد المجهول"

فيلم "سيد المجهول" مع أنه العمل الأول لكاتبه ومُخرجه المُخرج المغربي الشاب علاء الدين الجم، فإنه لا يحمل تلك النوعية من الأخطاء التي عادة ما نراها في العمل الأول لأي مُخرج، خاصةً أنه كان هو نفسه كاتب العمل.

فعادة ما يحاول المُخرج في عمله الأول تكديس كم من الأفكار والقضايا المُتشابكة التي تجمَّعت من خبراته الحياتية أو بفضل قراءاته على مدار عقود التي تحتاج عددًا كبيرًا من الأفلام لمُناقشتها، بجانب المشكلة الثانية وهي عدم التمكُّن التام من السيطرة على ممثليه الذين يشعرون غالبًا بالعلو على المُخرج الجديد.

لكن في فيلم "سيد المجهول" لم نشعر على الإطلاق بأيٍّ من هاتين المشكلتين، بالعكس تمامًا، كان علاء الدين الچم مسيطرًا تمامًا على كل أدواته، واستطاع بذكاء شديد بصفته كاتبًا للسيناريو.

دمج المشكلتين الرئيستين اللتين تناولهما العمل، بحيث تضافرتا في مشاهد النهاية معًا، في واحدة من أحلى النهايات السينمائية غير المُتوقعة، التي شاهدتها على مدار حياتي كُلها.

قد يعجبك أيضًا أفضل مائة فيلم في السينما المصرية (6).. قراءة في فيلم شباب امرأة

خرافة الكرامات

قضية الفيلم الأساسية هي الخُرافة المُرتبطة بالدين، والموجودة في جميع الأديان بلا استثناء، والأهم أنها موجودة في كافة المُجتمعات العربية. هذه الظاهرة تُمثل واحدة من أسوأ الظواهر التي لا تزال تُسيطر على العقل الجمعي في ثقافتنا حتى يومنا هذا.

والأكثر غرابة أنها غير مُرتبطة فقط بالمواطنين محدودي الثقافة، فمع هذه المُعتقدات يتساوى حامل الدكتوراة بأي شخص أُمي أو قليل الحظ من التعليم.

على مدار تاريخ السينما العربية عامة، ظهرت كثير من الأفلام التي ناقشت هذا النوع من الخرافات التي رُبطت بالدين، لعل من أهمها أفلام "قنديل أُم هاشم"، "البيضة والحجر"، "على معزة وإبراهيم"، الفيلم السوداني "ستموت في العشرين"، وفيلم "صاحب المقام"، المأخوذ عن فيلم إسرائيلي يحمل الفكر الخُرافي نفسه اسمه "مكتوب".

لكن كانت المرة الأولى لي، التي أُشاهد فيها هذا التناول شديد الذكاء الذي تناول به الكاتب والمُخرج علاء الدين الچم الفكرة، وبأسلوب يجمع ما بين الكوميديا والعُمق الفكري، لكنه بعيد كُل البُعد عن الجمل الخطابية والمواعظ المُباشرة.

في الوقت نفسه كان التناول في إطار كوميدي خفيف الظل، لقد تعامل علاء الدين الچم مع السيناريو بطريقة تُمكن أي إنسان من أي ثقافة في العالم من فهم العمل والتفاعُل معه، حتى لو كان غير مُلم بثقافة الشعب المغربي، وهذه واحدة من أهم نقاط القوة في هذا العمل.

الخطوط الدرامية

الفيلم يُناقش ثلاث قضايا ذات أهمية بالغة، تتشارك فيها كل الدول العربية، وليست فقط قضيتنا الأساسية المُتعلقة بالخرافة، لكن المميز جدًا في الفيلم هو ربط القضيتين الأُخريين مع قضيتنا الرئيسة على نحو ذكي جدًا، بحيث تتلاقى سويًا كل الخطوط الدرامية في الفيلم.

اتبع علاء الدين الچم كاتب ومخرج الفيلم أسلوبين متناقضين تمامًا في التناول الدرامي للعمل.

الأول هو الأسلوب الكوميدي الساخر الذي ميز الفيلم من بدايته لمشهد النهاية، وتناوله من زاوية كوميديا الموقف، وليست كوميديا الفارس التي تعتمد على الأفيهات اللفظية.

وهذا ما يؤكده الأسلوب الثاني الذي سار عليه تناول الفيلم، وهو أن مساحة الكلام كانت قليلة جدًا على نحو ملحوظ.

وأعتقد أن الفترات الزمنية للحوار في العمل ككل، لا تتعدى 15% من إجمالي زمن الفيلم، لأن الفيلم اعتمد على نحو كبير جدًا على الصورة، وأنت تتابع الفيلم وتفهمه بواسطة الصورة المرئية، أكثر بكثير من فهمه بواسطة حوارات، وهذا يُمثل نموذجًا رائعًا للفيلم السينمائي، الذي تُغني فيه الصورة عن الكلام.

الفيلم من إنتاج 2019، وهو إنتاج مشترك ما بين فرنسا والمغرب وقطر، وهو ما يوضح أهمية الإنتاج المشترك؛ لأنه يُتيح للمخرجين المُبدعين أصحاب الأفكار والرؤى خارج الصندوق التي قد لا تُشجع مُنتجًا محليًّا لكونها أفكارًا غير تُجارية، من وجود جهات إنتاجية تُنتج لهم أعمالهم، وهذا يحدُث دائمًا في دول المغرب العربي؛ لأن أغلب المخرجين هُناك لديهم القُدرة على التواصل مع كثير من الجهات الإنتاجية في أوروبا.

قد يعجبك أيضًا أفضل مائة فيلم في السينما المصرية (13).. قراءة في فيلم رد قلبي

قصة الفيلم

الفيلم تم ترشيحة لجوائز Academy Awards بوصفه أفضل فيلم أجنبي، لكن لم يتم اختياره في الـ Short List النهائية. الفيلم من بطولة يونس بواب، أنس الباز وبوشعيب سماك.

وكما ذكرت قبلًا، هو العمل الأول لمُخرجه وكاتبه علاء الدين الچم، والفيلم موجود على بعض شبكات الأفلام باسم مُعجزة القديس المُجهول.

الفيلم يبدأ بعدد من اللقطات لبطل الفيلم الرئيس الذي لن نعرف اسمه حتى نهاية الفيلم، كالغالبية العظمى من شخصيات الفيلم الأُخرى، لنُشاهده وهو يقود سيارة قديمة مُتهالكة على مدق في قلب الصحراء.

تتابع اللقطات من الواسع جدًا للضيق، حتى نصل له داخل السيارة. يبدو للمُشاهد أن البطل يجري بسيارته هربًا من مُطاردة ما، حتى تتوقف سيارته تمامًا في وسط الصحراء رافضةً إكمال السير.

بعد حالة من الغضب، يقرر البطل سريعًا إنجاز مُهمة قبل الاستسلام لمُطارديه، فيأخذ حقيبة يد كبيرة كانت داخل السيارة، ويصعد بها لأعلى هضبة صغيرة، ويحفر حُفرة صغيرة يخبئ داخلها الحقيبة، ثم يردم عليها، ويغطي فوقها ببعض الأحجار الكبيرة، كي تكون دليلًا للمكان عندما يُعاود زيارته.

يعود بطلنا مرة أُخرى لسيارته في حالة من الانتظار القسري لمطارديه، ليكتشف المُشاهد أنهم قوة من الشرطة، وليفهم المشاهد من هذا المشهد الصامت أن بطلنا لص سرق، وأن تلك الحقيبة ما كانت إلا حقيبة المسروقات، وفي الأغلب هي تحوي نقودًا.

تقوم قوة الشرطة بالقبض عليه، وهو في حالة من الاستسلام التام، ومع هذه اللقطة ينتهي الـ avant titre، ليظهر التتر الذي لا يضُم سوى اسم الفيلم واسم المخرج فقط لا غير.

قد يعجبك أيضًا أفلام شهيرة صوِّرت في مكان واحد.. اكتشف أماكن التصوير المذهلة الآن

ضريح "سيد المجهول"

يعود الفيلم بعد التترات بخروج بطلنا من السجن، الفيلم لا يُحدد لنا مُدة سجنه، لكن من الواضح من تغير مظهر البطل أنها مدة لا تتعدى بضع سنوات.

وأول ما قام به بطلنا بعد خروجه من بوابة السجن، كان ركوب تاكسي بالنفر، والتوجه مُباشرة للموضع الذي ترك فيه الحقيبة.

في أثناء رحلته للمكان، يكتشف بطلنا أن طريقًا يُشق داخل الصحراء، وكانت تلك أول نقطة تسترعي انتباهه.

عندما يصل بطلنا للهضبة، يُفاجأ أولًا أن الهضبة شُقَّ فيها سُلم يصعد لقمة الهضبة، وثانيًا، وجود مقام لولي بُني على قمة الهضبة، وثالثًا، وجود مجموعات صغيرة من البشر عند المقام.

بعد صعوده قمة الهضبة، يكتشف الاكتشاف الرابع، وهو أن الضريح أُقيم فوق موضع الحقيبة مُباشرةً، وبجوار باب الضريح لافتة كُتب عليها "سيد المجهول"، وأمامه نافورة مياه صغيرة يُلقي فيها رواد الضريح العُملات المعدنية طلبًا لتحقيق الأُمنيات.

يبدو لنا أن بركات سيد المجهول هي بركات علاجية، وأن أغلب مُريديه من المرضى. على الجانب الخلفي من الهضبة تظهر للمُشاهد قرية صغيرة بُنيت لخدمة رواد الضريح، تضُم نُزُلًا صغيرًا للرواد المُقيمين.

بالطبع كانت محاولة الحصول على الحقيبة -إن كانت ما زالت موجودة- في أثناء النهار عملية شبه مُستحيلة، فيقرر بطلنا الإقامة في النُّزُل، بهدف مُحاولة دخول الضريح ليلًا والحصول على الحقيبة.

وبما أنها كانت الليلة الأولى بعد الخروج من السجن، فلم يكُن معه ما يكفي من المال للإقامة، فحاول أن يطلُب من صاحب النُّزُل دفع جزء فقط من مصروفات الإقامة، ودفع الباقي في اليوم التالي، لكن يُقابل بالرفض التام من صاحب النُّزُل.

لكن يأبى القدر إلا أن يُساعده، فيحضر هذا النقاش نزيل آخر، ويُصر على دفع باقي أُجرة الغرفة لهذا اليوم، بعَدِّه يُساعد مُريدًا آخر من مُريدي سيد المجهول، لا يملك القدر الكافي من المال.

عندما يسأل هذا النزيل بطلنا -بعد مُساعدته في دفع أُجرة الغرفة- هل جاء للتبرك ببركات سيد المجهول، ينفي بطلنا ويخبر النزيل أنه جاء لدراسة المنطقة، فيعتقد النزيل أن بطلنا عالم چيولوچيا، وهو ما لم ينفه بطلنا، وهنا ينشُر هذا النزيل في القرية أن بطلنا عالم چيولوچيا جاء لدراسة صخور وتربة المنطقة.

أتوقف عند هذه النقطة لعدم حرق الخط الدرامي الرئيس والمُثير للعمل، وهو محاولات بطلنا المُستمرة لدخول الضريح والحصول على الحقيبة -إن كانت ما زالت موجودة-، فهل سينجح بطلنا، خاصةً مع وجود حارس ليلي يُرافقه كلب كبير يحرُسان الضريح؟

قد يعجبك أيضًا باب الحديد .... فيلم يتحدى الزمن

الخط الدرامي الثاني والثالث

الخط الثاني من الفيلم، يحكي قصة حسن، البطل الثاني في الفيلم، لكن حجم أدوار كلا البطلين -الثاني والثالث- أقل نوعًا ما من حجم دور بطلنا الرئيس، لكن جميع الخطوط تتقابل وتتشابك في بعض التقاطعات على مدار الفيلم، خاصةً في مشاهد النهاية.

حسن شاب في العشرينيات، يعيش مع والده إبراهيم وحدهما بعد وفاة الأم، في قرية صغيرة تقع بالقُرب من موقع الهضبة والمقام. السماء لم تُمطر على هذه القرية منذ أكثر من 10 سنوات، فبالطبع الزراعة -التي تُمثل النشاط الرئيس لسكان القرية- توقفت تمامًا، لتصبح القرية مُجرد صحراء جرداء.

جميع ساكني هذه القرية وجدوا في المقام الإنقاذ الوحيد لهم، فجميعهم ترك القرية، وتوجهوا تجاه المقام لكي يبنوا تلك القرية الجديدة التي كان كل مصدر دخلها من زوار المقام. لم يتبق في القرية الرئيسة سوى أسرتين، من بينهما الأسرة المكونة من حسن وإبراهيم.

وفي أثناء الفيلم نرى رحيل الأسرة الثانية التي صمدت، لكنها لم تُكمل للنهاية، ونرى أيضًا محاولة حسن إقناع إبراهيم بترك القرية كغيرهم، لكن لمكان آخر أفضل وليس قرية سيد المجهول، ليتمكنوا من بدء حياة جديدة.

مع الرفض التام لإبراهيم، وإصراره على البقاء في قريته، مع عدِّ فكرة ترك أرضه وقريته هي نوع من الخيانة. فإبراهيم كان يأمل طوال الوقت في رحمة الله، فاستمر يحاول طوال الوقت، وأخيرًا اعتقد أنه وصل للحل الأمثل، عن طريق صلاة الاستسقاء.

لكن هل تنجح محاولات إبراهيم، خاصةً بعد رحيل آخر أسرة من القرية، فلم يتبقَّ فيها غيره وحسن فقط؟ وهل تنجح محاولته في هدم ضريح سيد المجهول، الذي عدَّه السبب الرئيس لكُل الخراب الذي أصاب قريتهم؟

الخط الثالث في الفيلم هو خط ساخر جدًا، لكنه شديد الواقعية، وهو الخط الخاص بالطبيب الذي عُيِّن بالوحدة الصحية الحكومية التي بُنيت بالقرية الجديدة، بعد اعتراف الحكومة بالقرية الجديدة المُرتبطة بالضريح، فأنشأت بها وحدة صحية. مشكلة الطبيب الرئيسة في أن جميع سُكان القرية يؤمنون ببركة سيد المجهول في الشفاء، فلا أحد يلجأ للوحدة الصحية على الإطلاق، عدا مجموعة من النساء العجائز يترددن على الوحدة، لأنها تُمثل النُزهة الوحيدة في القرية، لأنه لا يوجد أي وسيلة ترفيه أُخرى لهم، سوى يوم حمام السيدات.

الصيدلية الموجودة داخل عيادة القرية، لا تحتوي سوى على صنف واحد من الدواء، يُعطى أيًّا كانت شكوى المريض، وهكذا نرى أن جميع شكاوى المُتمارضات الآتيات للتنزه ورؤية الطبيب الشاب، تجاب بعُلبة الدواء نفسها.

أحداث الفيلم شديدة التشابُك، لربط الخطوط الثلاثة بعضهما ببعض، مع خط رابع جانبي لقصة حارس المقام، كلها تخدُم في النهاية الفكرة الرئيسة للفيلم، والخاصة بالإيمان بالخُرافة في مُجتمعاتنا العربية، في أحد أجمل الأفلام العربية في العقد الأخير التي تُناقش قضايا مُجتمعية مهمة، لكن بأسلوب ساخر رصين ومؤثر.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة