الفلسفة في مجتمعاتنا إما ممجوجة أو محتقرة أو مشكوك فيها أو مشيطنة...فتصبح مهانة أو مستهانة وأحيانا مجرمة...وهذه المواقف العدائية من الفلسفة قد تكون نابعة من إحساس داخلي من الخوف الشديد من الفلسفة.... .فما الذي آل بنا لهذا الوضع....؟؟!!...لإثبات صحة هذه المقولة؟! دعنا نتذكر كيف ومتى نستخدم كلمة فلسفة في أحاديثنا اليومية...؟ فنحن نستخدم هذه الكلمة كثيراً عندما نغصب من حديث شخص لا يروقنا حديثه كي نزجره ونوقفه عن الحديث... فنقول له بصيغة إستنكارية زاعقة: بطل فلسفة...أو..إنت هتتفلسف..أو مش عاوزين فلسفة...فكأننا نساوي بين الفلسفة والسفسطة أو غثاء القول...
والحقيقة ليست الفلسفة هي السفسطة أو الحذلقة... أو حرفة إستخدام الكلمات المنمقة...أو الشيطنة أو التباهي والتعالي....الفلسفة هي فقط لغة العقل الذي يبحث عن المعنى والأسباب وترابطها ويحاول أن يقرأ ما تحت السطورفيكتشف مدى صحة أو خطأ الأحداث ومن ثم يحاول الإنسان علاجها وتصويبها...وهذا هو الإسلوب الفطري الطبيعي لتطور الحياة والمجتمعات..
وتهدف الفلسفة إلى أن يفهم الإنسان نفسه ويفهم وبعرف العالم الذي يعيش فيه كما يفهم علاقاته مع الآخربن ويديرها بطريقة عادلة ومتكافئة مع الآخرين...ففي هذا الإطار ألسنا جميعاً بحاجة أن ندرس الفلسفة كي نفهم أنفسنا وعالمنا والآخرين....ومن ذا الذي يريد حرماننا من فهم أنفسنا ومعرفة عالمنا ومعرفة الآخرين بطريقة واعية فعالة...ومن هم هؤلاء الذين يرغبون في حرمان الناس من معرفة أنفسهم وعالمهم.. بل الأحرى من هم هؤلاء الذين يرتعدون خوفاً من أن يفهم الناس أنفسهم وعالمهم.... من هم هؤلاء الذين يعانون فوبيا الفسلفة لأسباب يعلمونها وينشرون هذا الخوف بين العامة مع الحرص على إخفاء أسباب خوفهم...
وحيث أن العقل هو المحرك الأساسي لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة للفلسفة، فإن الخطة الجهنمية لإستئصال الفلسفة من أي مجتمع هي إشاعة الجهل وتعظيم وتأصيل سلوكيات الطاعة العمياء وإرهاب الفكر وشيطنة الفسلفة وإشاعة الخوف منها.... رغم أن محاربة الفلسفة بمعنى حرمان الإنسان من أن يفهم نفسه والعالم والآخرين هو أكبر إعتداء على عظمة النفس البشرية التي كرمها الله بالعقل...
وهكذا فقد نشأنا في مجتمعات تربت على تهميش العقل وركنت لطاعة القوى وطاعة الموروث والإعتياد عليه فقوة الإعتياد وثقل الإرث الثقافي والإحساس بالأمان لما عرفناه والخوف مما لا نعرفه... ربما تجعلنا نخشى الفلسفة ذات السمعة السيئة ..... لأن الفلسفة قد تقوض بعض الصور الذهنية التي إعتدنا على وجودها فأصبحت بديهية لأتقبل الشك ومن ثم إرتبطت بمعنى كينونتا ووجودنا... فذلك الذي يستخدم عقله ليقول لنا أن الصور الذهنية التي تنام فيها عقولنا قد تحتاج إلى بعض الفحص والتحليل لابد أن يكون شريراً لأنه يريد أن يقض علينا نومنا وراحتنا... وهذا مما لاشك فيه توجه سيكولوجي سلبي يجعلنا لا نسعى أبداً لتغيير أو تطوير أنفسنا...
ويتسق مع هذا التوجه طريقة التربية المتوارثة التي تسعى لتنشئة البشر دائماً على مبدأ الطاعة والتقليد والإعتياد، والتي تغذيها سلوكيات الإعتماد على الثقافة العتيقة كمصدر أساسي للثقافة ومحاربة أي روافد ثقافية أخرى ووصمها بأنها غزو ثقافي أو عدوان على الطابع الوطني والقومي...أو مساس بالعقيدة والعرق ..
فمن ذا الذي يقف وراء هذه الأليات الثقافية... هل هي فقط قوة الإعتياد وإستسهال المحاكاة أم أن هناك قوى مجتمعية يمكن أن تستفيد من هذا الوضع... لا شك أن قوة الإعتياد والتفضيل الفطري للراحة عن الكد والدأب في غالبية الناس قد يكون عاملاً كبيراً مؤثراً، ولكن هذا العامل في الغالب هو عامل سلبي تلقائي يمكن تحجيمه بقليل من الجهد.... لكن هناك قوى مجتمعية تستفيد من هذا التوجه لتحقيق مصالح دنيوية كبيرة فتغذيه وتشحنه بإستمرار لمصلحتها... وهذه القوى من مصلحتها أن يتربى الناس علي مبدأ الطاعة العمياء حتى يكيلون لأنفسهم ما يريدون دون أن يراه الناس.. فمن مصلحتها أن ينشأ أناساً لا يبصرون وإذا أبصروا لا يسألون ..وإذا ظلموا لا يعترضون ..
فالذي شوه صورة الفلسفة والذي جرم عمل العقل والذي صور الثقافة العالمية أنها غزو ثقافي ليس قوة الإعتياد ولا الكسل، لكنها هي القوى المستفيدة من تميزها المجتمعي ومن سيطرتها على كثير من المكاسب المجتمعية ولا تريد أن يزاحمها أحد فتشل العقل عن أو التفكير والتنظير أو تخنقه أو تنفيه أو حتى تقتله إذا تهددت مصالحها... فالعقل بالنسبة لهم قد يكون هو الشيطان الذي يهدد ملكوتهم بينما الطاعة العمياء هي الملاك الذي يضمن جنتهم...
المعركة قائمة وطويلة وهي ليست فقط ضد الجهل والخوف وقوة الإعتياد والكسل الفطري ولكنها أيضا ضد القوى المستفيدة من غياب العمل والتي تستخدم كل الأسلحة والوسائل لإخفاء أهدافها الحقيقية تحت واجهات مزيفة ينخدع بها كثير من الناس.... وهم سيستميتون في الدفاع عن لافتاتهم المزيفة بل قد يتهمون من يحاول كشفهم بشتى التهم ويلصقون بهم الأكاذيب والتهم...ىلأن هذه اللافتات تخفي حقيقتهم وأنانيتهم..... ولا أحد يعرف ماذا سيفعلون إذا اكتشف الناس زيف وكذب هذه اللافتات التي يحاربون بها عمل العقل....
هذه القوى الأنانية لا تظهر إلا في المجتمعات المغلقة فقيرة الثقافة التي ينفصل فيها الناس إلى طبقات شديدة الغنى وطبقا شديدة الفقر.... ومن مصلحة الطبقات شديدة الغنى أن يظل الأخرون فقراء حتي يضمنوا جاههم وعزتهم، ولا وسلية لذلك إلا سلبهم عقولهم أو إطفاءها أو وأدها...وحتى تكون الجريمة كاملة ويظل الفاعل مجهولًا يتم استخدام أكثر الوسائل إيهاماً وتأثيراً...فيتم اللعب على العواطف العقائدية أو الوطنية أو العرقية حتى يتم وصم كل من يطالب بالتعليم والثقافة بالخيانة والعمالة... وتنجح اللعبة كثيراً في المجتعات مشبوبة العواطف.... وهذه مسؤولية المثقفين والمتعلمين فلا يوجد أي ذريعة في العالم يمكن أن تبرر نشر الجهل والخوف من الثقافة والخوف من الفكر الحر إلا إذا كانت ذريعة زائفة ...
من حق البشر أن يتعلموا ويفكروا ويقرروا مصيرهم بعقولهم ووعيهم وإحساسهم لا بعقول الطبقات الطفيلية التي تريد إستمرارية هيمنتها على المجتمعات الطيبة الهشة، بأساليبهم التي لن تصمد أمام إنتشار فرص التعلم وإنفتاح سماوات الثقافة ولو كان الأمر بإيدهم لقفلوا علينا السماء كما يقفلون الأرض...
أ.د. محمود سطوحي
11 يناير 2021
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
تسجيل دخول إنشاء حساب جديد
أهدي هذا المقال لكل من نالته الإهانة أو الأذي لمجردأنه حاول أن يتسخدم عقله في إكتشاف نفسه والتعامل مع العالم ولكل من رأي أن من حقه أن يعتز بكرامته الإنسانية فآمن بالعقل كوسيلة للوصول للحقيقة...وأيضا لكل من تم إضهاده أو نفيه أو عزله من المجتمع لمجرد أنه حاول أن يفتح عيون عقله ويجهر بما رأي..
الفلسفة ترف فكرى بالنسبة لانسان يواجه مشاكل ضاغطة ربما بعد توافر ظروف أفضل يكون هناك متسع للأعمال العقلية المجردة استيراد النتج الفلسفى الجاهز هو المتاح حاليا
"فمن مصلحتها أن ينشأ أناساً لا يبصرون وإذا أبصروا لا يسألون ..وإذا ظلموا لا يعترضون"
الجملة تخبر الكثير إن لم يكن كل شيء
مقالك جميل ورائع اتمنى تقرا مقالى
رغم أن محاربة الفلسفة بمعنى حرمان الإنسان من أن يفهم نفسه والعالم والآخرين هو أكبر إعتداء على عظمة النفس البشرية التي كرمها الله بالعقل...
مقال رائع و عميق ونظرة فريدة لحل أزمة باتت متأصلة في مجتمعنا.