عند تأمل اللوحة الفنية والألوان التي تنبض بالحياة والخيوط التي تتمايل معًا وتنسج قصة تهمس بسر من أسرار الزمن، وتبقى خالدة على مر العصور ليس فقط لكونها مجرد جمالية بصرية. كل ضربة فرشاة تحمل في طياتها رسالة تظهر الزمن والمجتمع الذي خرجت منه لتنبض روحًا وفكرًا فلسفيًّا وحالة إنسانية من الإلهام الإبداعي... لنستكمل معًا الغوص في فلسفة اللوحات الفنية وفك شفرات الفن والزمن والإنسان.
لوحة العروس المترددة لـ "أوجوست تولموش" 1866م
شابة أرستقراطية محاطة بجو من الترف المادي، يظهر ذلك ويمكن ملاحظته من تفاصيل الملابس الفاخرة والستائر المزخرفة وديكور الغرفة الذي يظهر نمط الحياة الأرستقراطية في فرنسا في القرن التاسع عشر. تعبير وجه العروس هو النقطة المحورية في الصورة؛ نظرة عينيها وملامحها تُعبِّر عن مزيج من الحزن والحيرة. وقد اعتمد الفنان الفرنسي على تسليط الضوء عليها لإظهار حالتها النفسية، أما تفاصيل الألوان الخافتة والكثير من الفراغ في مساحة اللوحة يظهر شعور العزلة على الرغم من إحاطة الوصيفات بها.
وضعية جسد العروس تظهر انغلاقها الداخلي وتبرز بوضوح تناقضه مع الترف الخارجي. ويحيط بها ثلاث من الوصيفات، لنتأملهن لوهلة: وصيفة تقبل جبهة العروس دعمًا وطمأنينة، والأخرى تجلس تحت قدميها وتربت على يديها لترمز للقلق البالغ والشفقة، أما الأخيرة فتتأمل جمالها في المرآة، وهي الوحيدة بينهن السعيدة والمتألقة والبعيدة عن العروس.
بالعودة إلى السياق الاجتماعي والتاريخي للقرن التاسع عشر، كانت المرأة في فرنسا تعيش في مجتمع تحكمه القيم الذكورية، إذ كان الزواج بالنسبة للنساء واجبًا اجتماعيًّا مفروضًا عليهن وليس قرارًا قائمًا على الحب أو القبول، والريشة التي أبدعت تلك التحفة الفنية الفلسفية هي ريشة فنان فرنسي من أنصار الحركة الرومانسية السائدة في ذلك الوقت، والتي ركزت على استكشاف المشاعر الداخلية للإنسان وتصويرها بصدق وعمق، فعبَّر "أوجوست تولموش" عن التوتر الذي تعيشه تلك المرأة بين الالتزام بتوقعات وثقافة مجتمعها السائدة ورغبتها في اتباع قلبها، وقد عُرضت تلك اللوحة تحت عنوان (زواج المصلحة) في باريس عام 1866 في صالون أكاديمية الفنون الجميلة.
ولكن، هل لوحة (العروس المترددة) تسعى فقط لطرح قضية الضغط المجتمعي وزواج النساء فيما مضى؟
هل حصر تلك اللوحة في تلك القضية فقط يجردها من فلسفتها الإنسانية العميقة التي لا تنحاز لجنس أو طبقة محددة، والمتمثلة في الصراع الداخلي والتردد كحالة إنسانية شاملة؟
تأملات في اللوحة
من وجهة نظري، اللوحة تمنح متأملها أثرًا على تجاربه الشخصية مع القرارات المصيرية التي تحمل مشاعر متناقضة، وتبرز من القرن التاسع عشر حتى الآن قضية الحريات الشخصية والعوائق التي تواجهها.
جسَّد الفنان الفرنسي الملهم الروح البشرية في صورة عروس ترتدي الأبيض النقي الفطري، أما الوصيفات المحيطات بها فتمثل ضغوط المجتمع أو مشاعرها المضطربة، إحداهن تقبلها من الجبين أملًا في غد أفضل لا حول ولا قوة لهن به، والأخرى تربت على يدها قلقًا من مصير مجهول، أما الثالثة هي الوحيدة بينهن التي تزدهر بسعادة بالغة بنفسها، وهي الوحيدة خارج الدائرة المحيطة بالروح الإنسانية كما صورها "تولموش" بعروس نقية مترددة.
وذلك منطقي وواقعي، فلا حرية تقترن ببؤس وخوف وقلق... دائمًا تغرد منفردة خارج القطيع.
لوحة (العروس المترددة)، سواء نظرت إليها من زاوية فنية، اجتماعية، أو نفسية، ستجدها تحمل رسالة عميقة حول الحرية والهوية والصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان في مواجهة التوقعات.
رائع جدا
أحسنت الوصف
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.