فكر الجاحظ.. كيف واجه الثقافات الأجنبية بعلم الكلام؟

لم يكن الجاحظ أديبًا موسوعيًّا أو كاتبًا ساخرًا، بل كان عقلًا فلسفيًا تشرّب من ينابيع متعددة؛ من الثقافة اليونانية، إلى الطب والفلك، ومن الجدل الكلامي إلى الأصول الاعتزالية، لقد تبلورت في فكره رؤية معرفية جريئة تجاوزت النقل إلى التأصيل والجدل، وعبَّر عن انشغاله العميق بمباحث المعرفة والوجود في رسائله المتنوعة، مكرّسًا بذلك موقعه في تاريخ الفكر العربي كواحد من أبرز دُعاة العقل في زمنٍ يضطرب بين الظن والوحي.

في هذا المقال، نتأمّل ملامح المشروع الفكري للجاحظ، ونرصد كيف جسَّد الجاحظ الرؤية الاعتزالية بأدوات أدبية وفلسفية فريدة.

حين نتحدث عن موسوعية الثقافة الجاحظية، لا بدّ لنا من التطرُّق إلى نصيب الجاحظ من الثقافات الأجنبية التي كانت رائجة يومئذ، بفعل النشاط الكبير لحركة النقل والترجمة التي نقلت إلى اللغة العربية مختلف ضروب العلم والمعرفة من فارس واليونان والهند وغيرها.

وجمع الجاحظ في مؤلفاته، ومنها الرسائل، حصيلة ما استطاع أن يتلقفه من الكتب المترجمة، خاصة الكتب اليونانية في الفلسفة، والطب، والفلك، والرياضيات.

إنَّ الاستدلال الكلامي، سليل الاستدلال الأصولي، كان كفيلًا بتزويد الجاحظ بآلية عقلية لإنتاج المعرفة ومعايرتها، فأسهم، ضمن المجهود المعتزلي العام، في تنصيب العقلانية العربية في ذلك العصر، فكان من أعلامها البارزين الذين مثّلوا الفكر الاعتزالي ورفعوا لواءه في مجال الأدب والفكر على السواء.

علم الكلام والوصاية على المعرفة.. رؤية الجاحظ

تناول الجاحظ مباحث المعرفة بعمق وشمول، ولا يغفل الجاحظ عن الخصوصية التي يتميّز بها مبحث المعرفة، ففي رسالته «المسائل والجوابات عن المعرفة» يتطرّق للقضايا الأولية في نظرية المعرفة.

الجاحظ والمعرفة

ويقول: «إنّ صناعة الكلام عِلق نفيس... وهو العيار على كل صناعة، والزمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يُستبان نقصان كل شيء ورجحانه، والراووق الذي يُعرف صفاء كل شيء وكدره...».

«وأيّ شيء أعظم من شيء لولا مكانه لم يثبت للربّ ربوبية، ولا لنبي حجة، ولم يُفصل بين حجة وشبهة، وبين دليل وما يُتخيل في صورة الدليل. وبه يُعرف الجماعة من الفرقة، والسنة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة».

انشغال الجاحظ بقضايا المعرفة

إنّ انشغال الجاحظ بقضايا المعرفة أمر طبيعي، يُبرّره اتصالها الوثيق بالأصول الخمسة للمعتزلة، خاصة العدل الإلهي، كما يُبرّره المنهج الذي اعتمدوه منذ نشأتهم التي يُقرن بها الكثير من الباحثين نشأة علم الكلام.

لم يُساير الجاحظ الرأي السائد لدى المعتزلة في المعرفة، فخالف أستاذه النظام، ومعمر بن عباد السلمي، وبشر بن المعتمر وهم من معاصريه، وقد تعرّض لنقد من قِبل من جاؤوا بعده من المتأخرين، مثل الجبائي، والقاضي عبد الجبار، ولم يوافقه إلا قلّة منهم نذكر منهم العلاف والبلخي.

ويتلخّص رأي الجاحظ في المعرفة في أنه يقول إنّ كل المعارف اضطرارية، وأنها تحصل بالضرورة، ويجعل المعرفة الحسية والمعرفة العقلية في منزلة واحدة، ومنها معرفة الله تعالى.

الجاحظ وتقسيم المعرفة

ويُقرّ الجاحظ بعجز العقل الإنساني عن معرفة الله، والتمييز بين الخير والشر دون الاستعانة بالرسل.

توظيف المعرفة العلمية.. الجاحظ والتطبيق العملي

تعاطي الجاحظ مع المعرفة العلمية المتاحة في عصره تعاطيًا دلّ على إلمامه الجيد بها، وتمكّنه من مناهجها وأصولها.

ويُفيدنا هنا الإشارة إلى القيمة التوثيقية التي تنطوي عليها رسالة «التربيع والتدوير»، فهي تكشف عن جملة من المجالات التي برز فيها اهتمام الجاحظ بالمعرفة العلمية.

أما حسب المضامين، فعلى الرغم من أن الجاحظ لم يكن هدفه من الرسالة إلا استعراض العناوين، والدلالة على عموميات هذه المعارف، والتلميح إلى جوانب معيّنة فيها تتصل بالمشكل من قضاياها ومسائلها، فإنها تكشف عن وعيه العلمي وتنوع اهتماماته.

مثّل الجاحظ علامة فارقة في تاريخ العقلانية العربية، إذ تجاوز دور الأديب إلى دور الفيلسوف الجدلي، ونجح في الربط بين تراث الترجمة الإغريقية والروح النقدية الإسلامية الناشئة، لم يكن استغراقه في علم الكلام مجرد انتماء مذهبي، بل كان سعيًا إلى تأسيس وعي جديد يعيد الاعتبار للعقل في زمنٍ كان الوحي وحده هو الناطق الرسمي بالمعرفة، وبين رسائله، تتجلّى صورة المفكّر الذي لم يخشَ مخالفة شيوخه، وعبّر عن رؤى في المعرفة والحسّ العقلي ما زالت تُدهش الدارسين إلى اليوم.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.