خاطرة «قناع الصمت».. خاطرة حب

ليتها لم تتحدث في ذاك اللقاء؛ الذي اتسم بالصمت لساعاتٍ تلو الأخرى. ينظر إليها ولا تبالي.

تسبح في سماء هذا العالم بواسطة  النافذة المجاورة لهما، وكأنها تلوم السماء على شيء بداخلها.

تجمعت شجاعتها بتلك التنهيدة العميقة، فكَّت أسر كلماتها الحبيسة بشفتيها؛ ناظرةً إليه نظرة لم يعهدها من قبل.

اقرأ أيضًا: «حبٌّ تحت ضوء الشمس ونور القمر».. قصة قصيرة

قالت كلمة واحدة، كلمة جعلته يستغيث كالغريق في أمواج متلاطمة.

كلمة واحدة أطلقت سراحها بعدما شقَّت الحروف طريقها من الحلق إلى مخاض ولادتها عبر الشفاة: ألا وهي: الفراق.

وبالرغم من تلك الأجواء الصيفية شعر ببرد الشتاء القطبي يتسلل إلى أعماقه.

تماسك ثم تساءل في هدوء: فراق من؟

نظرت إلى النافذة دون إجابة؛ قطع الصمت من جديد متسائلًا: فراق من؟

نظر إليها وإذا بدمع عينيها يغرق الكلمات فتحتبس بفمها وتخرُّ باكية.

تركت يده حين حاول أن يشعرها بالهدوء والأمان، حتى إنه لم يستطع أن يفسر تلك الهمهمة النابتة من شفتيها.

عاد من جديد يسألها: فراق من؟

قالت في يأس وضعف يملأ نظرتها: فراقنا.

قال: وما الذي يجبرنا على الفراق؟

قالت باكيةً: وما الذي يجبرنا على الاستمرار؟

قال: حبنا. أليس سببًا كافيًا؟ هذا الرباط الأبدي؛ رباط المودة والرحمة والألفة والعشرة. 

نظرت إليه بعدما تمالكت كلماتها، وبيدها مسحت دموعها سائلةً: وماذا بعد الحب؟ ماذا بعد مرور العمر؟ ماذا بعد هذا الشيب الذي غزا ربوع رؤوسنا؟

غدًا سيموت الحب ونبكي على أطلاله ولا يبقى منه سوى ذكرياتٍ باليةٍ حبيسة الأدراج.

قال: الحب ليس أوراقًا أو صورة أو خطابات، الحب أنت حين أراك؛ الحب أنت حين تختبئين بين الجموع، الحب...

قاطعته بإشارة من يديها: كل هذا لا يفيد. من أنت؟ ومن تكون؟ ألم تفكر ولو لثوانٍ قليلة لمَ تلك النساء عبثت بك وتركتك؟ لأنك رجل بلا طريق. بداية بلا نقطة انطلاق، ونهاية قمتها تحت قدميك، جميعهن عبثن بك وهربن فرارًا. جعلتهن بقايا نساء، أنت أصلًا قد خاب فيك رجائي، أما الآن فالفراق هو ملاذي الأخير.

قامت بكل هدوء ورحلت، سكبت عليه أطنانًا من العتاب واللوم، صدمته بواقعه الذي طالما حاول الهروب منه، متشبثًا بأمل بقائها بجواره حتى يحيا. استمع إليها في صمت متخذًا من الابتسام الصامت قناعًا؛ يواري خلفه نزيف الجرح بداخله. 

نظر إلى النافذة المجاورة وأطلق سراح العبرات الحبيسة بجفنيه.

الآن وقد رحلت هكذا قال: تركتني أحتسي كأس أوجاعي، وألملم من الماضي جراحي، ماتت كل أحلامي، وغير العشق لا أملك.

تركتني خرقة بالية رغم حبي لها. ورغم حبي لها أنتفض أيضًا لكرامتي.

عاد يحدث مقعدها الذي تركته: من تكوني حتى تجعلي مني مسخًا لهواك. أحببتك دون قيد. دللتك كالأطفال. جننتُ بك عشقًا على مرأى ومسامع العاشقين. جعلتك بمقدار ألف امرأة عبثت بي. فتحت لك أبوابي الخفية تعبثين كما عبثت من قبلك النساء. في كل عشق أتذوق مرارة الألم. وفي كل مرة ما يزداد ألمي إلا ألمًا. 

أما الآن فقد اعتزلت النساء. وسأصبح الآن رجلًا بلا قلب يعشق.

لن أنجرف بعد اليوم وراء تلك النظرات وسذاجة الكلمات وسخافة البسمات.

من الآن لن أكون أنا؛ بل سأكون أنا آخر؛ ولادته كانت على يديك بشق رحم الزمان بلا رحمة تداويه.

خر باكيًا ثم نظر إلى النافذة قائلًا: ولكني أهواك. هل تعودين؟ في كل شجار أعلم أنك تعودين إليَّ؛ ولكن تلك النبرة القاسية القاتلة تقول لي هذا فراق. نعم فراق أبدي.

قام من مجلسه يتحسس دفء مقعدها. جلس على ركبتيه، احتضنه بشدة ليزداد خفقان قلبه ويجري الدمع سيلًا يناشدها: 

نساء الأرض قد عبثت 

بجرحي فزدن أوجاعي 

فجئت إليك سيدتي 

بجرح القلب تبتاعي 

أنت شفاء للألم 

وعشقي دون أطماعِ

عودي إليَّ سيدتي

فقد أحسست بضياعي 

تسير هي فى متاهة الطريق لا تعلم أين تذهب ولا تعلم أين هي.

توقفت وكأنها تسمع كلماته ونداءه عليها؛ أفاقت لوعيها، أحست بتلك الطعنات القاسية. وهي تعلم مدى عشقه لها. توقفت عن السير ولم يتوقف دمعها. لم تجد هواء تتنفسه، أحست باختناق شديد  وغصة بالقلب. تجمع الجمع حولها. نظرت إليهم تبحث عنه في وجوههم؛ تبحث عن الكلمات التي اختنقت بالحلق. صرخت قائلة: هو... نعم هو، هو دائي ودوائي. هو الدار والمأوى. هو القلب وما أهوى. نظرت إلى الخلف. عادت تجمع خطواتها لتلحق بما بقي منه ومنها. عادت إليه ووقفت أمامه وهو يحتضن دفء مقعدها، جرت إليه لتجلس على ركبتيها بجواره لتستنشق أنفاسه التي اعتادت عليها. احتضنته بشدة من الخلف.

صرخت صرخة هزت الأركان تناديه

قتيلي أنت وأنا الجاني 

جريح مع أنك الحاني

أنت الريح لو عصفت 

بين يديك عنواني

أنت الدنيا إذا غنت 

ووتري وكل ألحاني 

قلبي كوكب العشق

وأنت فيه سكاني 

ضمته ثانية لتستشعر دفء جسده ثم عادت تحدثه:

عدت إليك حدثني  

عشق في أحلام تجمعنا

ولا أحلام في عشق بلا معنى

أليست تلك كلماتك؟

ألم تعلمني الحب في مدرستك؟

ألم تعلمني أن الحب تضحية؟ 

قتلتك حين فارقتك أفي الآلام تتركني؟ 

هيا حبيبي جاوبني. النار لقلبي تقتات.

صرخت صرخةً أخرى لأن الوقت قد فات.

قد شرب السم من فمها، وبدفء المقعد قد مات.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

لآ أجد ما أقوله إلا نك مبدع
صح قلمك
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا جزيلا وتحياتي لشخصكم الجميل
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

اكتر من رائع
صاحب القلم الذهبي
بجد
اسطوره
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

الله على التعبير الجميل. شكرا لكم
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

اجمل ما في الموضوع انا مش بقرأ انا بتخيل انك بتقول القصه بصوتك وده شئ بالنسبه ليا بيخلي الكلمات تلمس قلبي
كالعاده بارع
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة