إلى تلك التي تمسح رؤوسنا الصغيرة ليذهب عنها الكابوس ويحلَّ مكانه الأحلام، إلى تلك التي تنظر إليها لتجد حزنك في عينيها، وتطوف في معالم وجنتيها لتستشعر فرحها بك، عبر ابتسامة وضاء أو نضارة برَّاقة.
إلى التي تشعل الموقد من حطب الدنيا وتصنع الطعام ببركة يديها، إليها أرفع كل آيات الشكر والامتنان، وأعاود أيامي معها كي أمد نفسي بطاقة من العطف والحنان.
هي التي علَّمتني كيف أكون قوية عند المصائب، وكيف أصبر عند الملمات، وفتحت أمامي أبواب العلم والعلماء وحفزت موهبتي عن طريق امدادي بالكتب ومعرفة الأدباء.
لا تريد من الحياة الدنيا إلا رضى الأبناء، وهي التي لم تنهِ الشهادة الابتدائية، ولكنها جعلت منَّا متعلمين مثقفين رائدين في مجالات شتى.
ولو سودت سطورًا بمليارات من الكلمات.. لا، ولن أفيها ولو جزءًا من تضحياتها، ولن أقدم لها ولو يسيرًا من الوفاء، هي أمي بكل فخر واعتزاز.
كانت لنا حصنًا ورجاء وفي كل خطواتنا آراؤها كانت بمثابة السداد والرشاد وحتى التفوق والنجاح.
وكل ما وصلنا إليه اليوم بفضل من الله وكرمه لأنه وهبنا أمًّا كانت رمزًا وقدوة ومثالاً ولم تزل، وليس للأبناء وإنّما لكل من حولها ولكل من عرفها.
هل أخبركم عن أسرارها هي التي صنعت من الضعف قوة، وحاكت من شعاعات الشّمس رداء ساحرًا تضفيها علينا كي نحيا، وفي الظلمات بأنوار ساطعة وفي كل الأحوال.
هي الرجاء، وهي الأمنيات، وهي الأمل، وهي كل الإيثار، هي أمي التي مشت فوق الجمر وتمسكت بالنار لنعيش نحن أبناؤها بسعادة وأنوار.
اليوم وكل يوم وبعيدًا عن الابتداع، الأم هي عيد يتجدد على مرِّ الأيام وفي كل اللحظات، وهنيئًا لمن يحيا في ظلالها الوارفة حتى الآن.
تشبث بها، بفرحها، بسلامها، بخبرتها، بحكمتها، بروعتها، بكل ما فيها وبتفاصيلها قبل فوات الأوان، وقبل أن تعض على النواجذ وتندم وتذرف الدموع على فقدانها.. لا، بل فقدان صمام الأمان ودرع الحنان وأيقونة الحياة.
ومني إليها حب جارف كأنه زمزم الأرض وكوثر الجنان، ولك يا قبلتي الثالثة دعوات في الصباح وفي المساء وفي لحظات التجلي وفي عمق الليالي.
يا رب امنحها النور، المرأة التي أحرقت ذاتها لتنير دروبنا واكفها شرور الفزع والخوف وآمنها، وأدخلها مع الذين يوفون أجورهم بغير حساب وهي الصبر الجميل وكل الاحتمال.
يقيني أنَّكِ تشعرين؛ فالجسد يفنى والروح إلى الخلود، ويا جنتي ويا حسناتي، ويا بري الذي لا ينضب ولا يجف بفضل دعائك وحسن تربيتك وتوجيهاتك التي لم تزل تحيطنا من كل حدب وصوب وفي أعمالنا وأقوالنا.
لو تدرين كم تركتِ وراءك في نفسي فراغًا.. لن يملؤه أبناء آدم كلهم منذ بدء الحياة وإلى يوم الدين.. ولكن لا أخفيك لقد حلَّ في النفس الإيمان واستبدلت الأحزان ولا أقول بالفرح وإنّما بكل ما يمت للعيش بصلات وروابط وميثاق.
وها نحن اليوم كل واحدٍ من أبنائك العشرة حدائق مزهرة ومورقة ومثمرة على مدار الفصول، وفي الأعوام كلها ومدى الحياة الدنيا والآخرة بإذن الله .
أنتِ يا سيدتي مباركة مثل مريم وخديجة وهاجر وعائشة، وأنت يا حبيبة منتجة للمها وللفداء وللسهر وللطافة والحسن والحمد والجهاد والزيادة والابتسام وللتوأم الجميل، الذي كان ولم يزل أمنية محمودة..
يا صانعة الأجيال، وجامعة الترغيب والترهيب، ومربية لعشرة من الأفراد ستة من الرجال وأربعة من المؤنسات الرائعات الرائدات.
وفي الختام أقبل روحك الطاهرة، وأعيشُ على أمل اللقاء وأن أكون لك ولوالدي تاج الوقار.
دعواتك مستجابة يا سيدة النساء، لقد صرتُ أنا وأخواتي أمنيتك التي تحققت، التي فرغتِ إليها طيلة حياتك ومنحتها رضاءك وصار العشرة كمثلك منارات عدة وإيجابيات عدّة وإبداع عظيم بفضل الخالق العظيم.
ولا أتصور الأرض عامرة بلا أمي، ولن يكون على الأرض حياة دون جميع الأمهات.
أمي وأم عشرة من الطيبين العاملين الساعين إلى الخير وإلى إعمار وبناء الأرض والإنسان، وأنت يا رائعتي ورائعتنا ورائعة وجودنا تعليماتك وتعاليمك تنمو في الأبناء ومنهم إلى الأحفاد.
ارقدي يا غالية بسلام وسأجج أشواقي وأبقي نفسي على أهبة الرحيل إلى حين اللقاء هناك، لنرتوي من كفي الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسَّلام، الذي قال: أمك أمك أمك ثم أباك... ونِعمَ القائل الجنة تحت أقدام الأمهات، ربي اجعلهن لنا حسنات كثيرة وصالحات أعمال واجعلهن لنا خير الدنيا والآخرة.
أمي كما عودتني على الصراط أستقيم، ومن معين حبك أقتات، ومن ينبوع حنانك أرتوي، ولم يمنعني عنك موت، ولن ينسيني ذكراك زلزال ولا بركان ولا ارتجاج ولا انهيار ولا دمار، كما وعدتك أنا وأخوتي باقون على العهد..
مقاومون للهدم بناؤون وغارسي أشجار، ومانحي تفاؤل وناشري استقرار، وناثري أزكى العطور من المسك والبخور، طالما بقينا هنا كي نبقي على أثارك، ونكون على مستوى تسليم الأمانة للأجيال، يا أم كل الناس الموسومين بالجود وبالجودة، ومع علامات السكون والحركات كأنهن الحروف لطيبات الكلمات.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.