عودة صفوت إسماعيل (ج5)

الآن تراه.. ما كنت تتفانى في تكذيبه طوال الوقت.. ما كنت تثق في أنه مجرد أكذوبة دسَّها بعض المغرضين في أدبيات الحضارات البائدة.. الآن ترى الأكاذيب رأي العين.. كيف لي أن أثق في عقلي بعد اليوم؟

كل ما كنت تعتقده حقيقة ملموسة تحول إلى سراب، وكل ما كنت تعتقده سرابًا بات أقوى من الشمس! ها هو أقوى الأكاذيب يُحلِّق أمام ناظريك في السماء.. يفرد جناحيه ويتوارى للحظة خلف الغيوم، ومن ثم يظهر من جديد تحت أشعة القمر الباهتة..

هل أنا أحلم؟ هل تحولت أساطير القدامى إلى حقيقة؟ كم من أسطورة أخرى أثق بأنها مجرد أكذوبة حقيرة سوف تتحدى كل ما تعلمته في الحياة!

كانت كل تلك الأفكار السوداوية تحلق في ذهني بالطريقة نفسها التي يحلق بها "المونتيكور" في السماء.. يفرد جناحيه ولا يجتهد في زيادة سرعته أو الانقضاض الفجائي، وكأنما يثق هو الآخر بأنه وجد وجبة دسمة لا فرار لها من بين أنيابه الحادة ومخالبه القاتلة.. هكذا شأن المنتصرين دائمًا، الذين وصلوا لمرحلة من النصر لا تسمح لأندادهم بمجرد المنافسة.

كان القدوم إلى مجرى النهر ومحاولة عبوره للظفر بالمونتيكور فكرتي أنا وحدي، وكان عليَّ وحدي تدبير طريقة الخروج من هذا المأزق، ولذلك تطلع الجميع نحوي في صمت ورعب؛ منتظرين فكرتي الجهنمية العبقرية للفكاك من هذا الوحش القاتل الذي اكتفى مؤقتًا بمجرد التطلع إلينا في أثناء طيرانه على مقربة نسبية..

كانوا يهمون في التجديف وهم ينظرون في رهبة للمونتيكور الذي بادلهم بنظرات ثاقبة وكأنه يعرفهم فردًا فردًا، ولم يخف عني أنه - من بين فنية وأخرى - راح يتطلع نحوي أنا الآخر، ولم يكن صعبًا -على الرغْم من المسافة الفاصلة وجمود نظراته- أن ألحظ نبرة السخرية التي راح يتطلع بها نحو ملامحي المذهولة من أثر المفاجأة، وبنيتي الضعيفة التي أسهم التدخين الشرس في إخفاء أبرز معالمها.

"كيف ذلك؟!" 

كانت هذه هي العبارة التي استطعت أن أفلتها من بين شفتيَّ.. في الواقع لم أشعر بالرعب الذي أراه واضحًا على ملامحهم، ولكني شعرتُ بالصدمة من أن المونتيكور حقيقة لا خرافة!

إنه اكتشافٌ كفيلٌ بهدم كل مبادئي في الحياة دفعة واحدة.. ماذا بقي لعقلي الرصين بعد ما نال هذه الصدمة؟ لم يُبقِ المونتيكور له في لحظة أي منطق، وقد أرسلت له عيناي رسالة مفادها: "إن المونتيكور يطير فوق رأسك بمسافة لا تزيد عن مئة متر". 

الكلب نفسه راح ينظر للأعلى وينبح بجنون.. لقد شق سكون الليل بنباحه الذي يجمع بين الذهول والرعب والجرأة.. لستُ أدري إذا كان يستطيع الاستمرار في نباحه لو اقترب المونتيكور، فيهجم عليه مدافعًا عنا.. أم أنه سيكون أول القافزين في النهر هروبًا منه..

لقد أضحت هجمة المونتيكور على القارب مسألة وقت، وبات وجودنا على متن القارب الذي بدأ يهتز الآن ويرتج من أثر خوف وارتعاد من يجدفون أمرًا مشكوكًا في استمراره.. صرخت لوديا: "ماذا نفعل يا رفعت؟"

إنها المسؤولية الملقاة على عاتقي التي جعلتني أخرج من نوبة الذهول والصدمة، فأصيح فيهم: "فليستمر الرجال بالتجديف، في حين لوديا وسافانا ستشعلان النار في الأوتاد.. أما أنا فسأطلق السهام عليه".. 

كنتُ تذكرت للتو كلام المرأة عن النار التي استطاعت بفضلها طرد المونتيكور وإنقاذ نفسها.. في ثوانٍ كانت السيدتان تشعلان النار في أوتاد خشبية ضئيلة رفعاها عاليًا لإخافة المونتيكور.. استمر الرجلان في التجديف بجنون في حين واصل الكلب نباحه الضاري.. 

أما أنا فأمسكت القوس، وجذبت السهم، فصرت كأحد محاربي العصور الوسطى وأنا أستعد لضرب الوحش الطائر في مقتل.. كان هذا عندما قرَّر المونتيكور الابتعاد عن القارب والاختفاء بين الغيوم..

اختفى عن ناظرنا، ولكننا كنا متيقنين من أنه يرمقنا من مكان ما بعينه المخيفة؛ استعدادًا لهجومه الشرس.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

زادت الصفحة إشراقا بزيارتك ..
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

ومتى تشرق صفحتى أنا
بكم؟ 🙏
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة