في هذا النص الشعري الباذخ، تتجلى صورة العاشق في أقصى درجات الانتماء والذوبان. لا يتحدث الشاعر عن الحب فقط، بل يعيشه سطرًا بعد سطر، كما لو أنه قدرٌ لا خلاص منه.
تبدأ القصيدة بنداء التملّك الروحي، وتنتهي بعهدٍ أبديّ يُكتب بالدم والأنفاس، وتملؤها صور شعرية آسرة كـ«نايٍ انكسر في الوادي» و«زهرة نبتت في رماد عنادي»، لتبني عالمًا شعريًا شديد الخصوصية. هذه ليست قصيدة فحسب بل نشيد العشق الأزلي.
عذب ما شئت من فؤادي
فقلبي لك وحدك لا شأن للعبادِ
قلبي يهوى جدودك أنت
فلا تعذب قلب فارس بلا جواد
إن كنت لليل كالقمر وللسماء نجومها ما بقي لليل سواد
عيناك بحر والرموش قافلة
والشفاه دم تقطر من حرق الرماد
فقلِّبي بأنامل لؤلؤ شعرك
فأنتِ تهيجي بي كل مأساتي
وأنفاسكِ ريح تثير مواجعي
فتبعثرُ روحي وترحلُ في بعادي
تنسجين الوقت من همسٍ وعتب
فأضيعُ في لحظكِ بلا ميعادِ
كأنكِ سحرٌ قد نزل من كوكبٍ
وأسكنتِ نبضي دون استئذانِ فؤادي
أيا وردةً نبتت في رماد الجوى
كأنكِ تنبتين من رماد عنادي
كأنكِ نارٌ تُغري بردَ أمنيتي
فأحترقُ بنار الشوق في اتِّقادِ
وصوتكِ نايٌ فوق صدر غربتي
يطوفُ بي كالنسك في الأعيادِ
وإنْ مرَّ طيفكِ بين أهدابي
تبكَّتُ حلمي وارتجفْتُ بوِدّ بادِ
تضيعُ حروفي حين تنطقُ شفَتُك
فأُولدُ فيكِ بألف ميلادِ
كتبتكِ شعرًا، والقصائد خاشعةٌ
على باب حسنكِ، دون أورادِ
فدعيني أكون العاشقَ الأبديَّ
أسافرُ فيكِ بلا زادٍ ولا زواد
توسّدتُ طيفكِ في غيابكِ ليلةً
فنامَ الدجى في مقلتي سُهادِي
وسافرتُ في وهمي إليكِ مسافرًا
بلا خارطةٍ… وحدي، بلا وِهادِ
إذا ما تنفَّستِ الصباحَ تبسُّمًا
تراقصَ الوردُ في شُرَفِ البلادِ
وإن غضبتِ، عمَّ السحابُ مدائنًا
وأمطرت حزنًا فوق كل وِهادِ
أنا العاشقُ المنفيُّ فيكِ مُذ وُلدتُ
أذوبُ بنظركِ رغم اعتقادي
وما كنتُ أدري أنَّ حبكِ مِحنةٌ
تُذيقُني المعنى بكلِّ مدادي
ولو شئتِ أن أُنزِلَ الشمسَ قربكِ
لأحرقتُ ما بيني وبين اتِّحادي
وإن شئتِ روحي، هاكِ قلبي عاريًا
فما عاد لي نبضٌ بغيركِ ينادي
فلكِ العهدُ ما حييتُ، وميثاقُ دمي
ألا أسكنَ إلاكِ، يا مهدَ اتِّحادي
سأبقى على بابكِ أناديكِ حلمي
وإن طالَ صمْتكِ، ما بدَّلتُ عهودي
فإن ضلَّ دربي، كنتِ أنتِ منارتي
وإن خفتُ دربَ الدمع، كنتِ زنادي
فكوني معي… نكتب الدهر سيرةً
تُروى كما الأسطورة في الأجيادِ
سأحيا هواكِ العمرَ، رغمَ تقلُّبهِ
فأنتِ يقيني في زمانِ الشكِّ والوادي
وفي آخرِ الحرفِ، لكِ القلبُ كلُّه
أمانًا… وصدقًا… حتى يومِ المعادِ
عذِّبْ ما شئتَ من فؤادي
فقلبي لك وحدك، لا شأنَ للعِبادِ
قلبٌ إذا نطقتْ عيناك ساحرهُ
يُذيبُ صخري، ويروي كلَّ أبعادي
كأنكِ الغيمُ حين يمرُّ مُبتسمًا
فتورقُ الأرضُ في زمنٍ من الجمادِ
تجيئين نحوي كالدعاءِ مهلِّلًا
وتُطفئينَ بنبضكِ كلَّ إرصادي
وفيكِ لقيتُ النورَ رغمَ تعبي
فلا تعودي لغيبةٍ أو اتحـادِ
أهيمُ بكِ… لا خوفٌ من عواقبهِ
فأنتِ روحي، وأنتِ آخرُ أعيادي
فما العشقُ إن لم يُشعلِ الجمرَ في دمي
ويُحيي رمادَ الأمس في وقادي؟
أُطاردُ ظلَّكِ في خيالي هائمًا
كطفلٍ تاه عن حضنٍ وعن زادِ
تنامين في صدري كأغنيةِ الدُّجى
ويصحو الحنينُ مع كلِّ إنشادي
تَسرَّبتِ في أوردتي بلا إذنٍ
فأنتِ بدائي، وأنتِ ميلادي
وما كنتُ أعلمُ أن نظرةَ عينيكِ
تُدوِّي كصاعقةٍ على سهادي
أراكِ، فأصمتُ... لا لأنكِ هيبتي
ولكنْ لأنَّكِ نهايةُ أبعادي
تُربكني، كأنّكِ آخر السُّكراتِ
وأنا المُعافى من جنونِ بعادي
تعاليْ... فإني دون حبكِ خاوٍ
كنايٍ قديمٍ انكسر في الوادي
تعاليْ... فقد ضاقت عليَّ مدائني
وضاع الدليلُ بمتاهةِ الأمجادِ
تركتُ الجميعَ... وسرتُ نحوكِ حالمًا
كأنكِ داري، ومأمني، وبلادي
أُحدِّث عنكِ الحُلمَ... إن طال غيابكِ
ويبكي الحنينُ على جفن وسادي
أنا لا أُجيدُ العيشَ دونَ ملامحك
ولا أعترفُ بسواكِ في إنشادي
فيا زهرةً نَبَتَتْ بأرضِ مشاعري
سأسقيكِ حبِّي على الرغم من جورِ أيادي
لئن طالَ بعدكِ أو توالت ليالينا
فما خنتُ عهدك، ما تبدَّد ودادي
أُعاهدكِ الآن، لا رجعٌ عن العهدِ
ولا يمحو نقشي سيلُ أحقادي
سأبقى وفيًّا، ما تبقَّى من دمي
وما دام فيَّ النبضُ والإيرادِ
سأمضي إليكِ، وإن أقامت بيننا
جبالُ الأسى وسيوفُ الأبعادِ
وإن خانني وقتي، وخانَت خطايَ
فوجهُكِ يبقى خريطتي وإرشادي
سأبني على حبِّكِ عمرًا كاملًا
وأرعى هواكِ بدفءِ اعتقادي
وإن ضاقت الدنيا، فحضنكِ موطني
وفيه سأسكن على الرغم من كلِّ عنادي
أيا زهرتي، إن ذبُلتِ يومًا
سأسقيكِ من روحي، كأنّكِ ميلادي
فكوني كما كنتِ… ملاكًا لأمنياتي
وأنا لكِ وعدٌ… لا يهوى انحدادي
فإن كان حبُّكِ موتي… فمرحبًا
بموتٍ على صدركِ بلا إنشادي
وإن كان قربُكِ جنَّةَ العاشقين
فخذيني عاشقًا… في ظلِّكِ الأبدي
دعيني أكون الحرفَ في كلِّ شعركِ
وأنفاسَ صوتكِ… ودفءَ الوسادِ
فما عدتُ أرجو في الحياةِ نهايتي
إلا بقربكِ، دون أيِّ مَيعادِ
كتبتُكِ شعرًا، فانتهتْ كلُّ قصتي
وصار هواكِ… فِهرسَ أورادي
بهذا النشيد العاطفي، يكتب الشاعر ملحمة حب لا تزول، عنوانها الوفاء، وظلّها الأمل، وجمرها الشوق. إنها ليست كلمات تُلقى، بل روحٌ تسكن في الحروف وتشتعل في كل بيتٍ ونداء. وفي النهاية، لا يُهم إن عاد الحبيب أو لا.. لأن الحب هنا صار دينًا ووجودًا وهوية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.