عن رواية «رجال مرج دابق» للكاتب صلاح عيسى

إن المتابع لتاريخ الدول على مرِّ العصور لا تفوته ملاحظة أن الدول والممالك والإمبراطوريات العظمى لا تختلف كثيرًا في مراحلها المختلفة عن أطوار النمو الطبيعية للإنسان الفرد. فالدول والإمبراطوريات العظمى تمامًا كما الإنسان، تولد صغيرة ضعيفة، وتنمو مع الوقت لتصير دولة فتية قوية، ثم ما تلبث أن تعود لمراحل الضعف والوهن. وما من دولة من دول التاريخ العظمى إلاّ بالضرورة قد تكون قد مرَّت بتلك المراحل المختلفة.

وهو تمامًا ما حدث مع دولة من أعظم دول التاريخ وهي دولة المماليك التي حكمت أقطارًا متعددة من العالم العربي تحت ظل الخلافة العباسية في بغداد، وشملت حدودها مصر والشام حتى نهر الفرات وأجزاء من اليمن والجزيرة العربية.

سقوط دولة المماليك

في سياق أدبي بليغ لا يخلو من البساطة وسهولة الفهم للقارئ، يتحدث الكاتب صلاح عيسى عن الدولة المملوكية، لكن في أوقات ضعفها الأخيرة، وكيف سقطت تحت وطأة ضربات الدولة العثمانية الفتية بعد معركة مرج دابق في عام 1516م بين السلطان سليم الأول العثماني والسلطان المملوكي قنصوة الغوري.

تلك المعركة التي انتهت بسقوط الشام في أيدي السلطان العثماني سليم الأول، وكيف أعقبتها معركة الريدانية عام 1517م بين العثمانيين وآخر سلاطين المماليك في مصر وهو السلطان طومانباي الثاني ابن أخي السلطان قنصوه الغوري، وانتهت بسقوط مصر في أيدي العثمانيين، حتى أصبحت مصر إحدى ولايات الدولة العثمانية، بعد أن كانت القاهرة هي عاصمة السلطنة المملوكية مدة طويلة.

وعلى الرغم من أهمية الأحداث التاريخية والمعارك التي قد تنشأ بين الدول القوية التي تسعى دائمًا للسيطرة والتوسع، فلا يخفى على القارئ للكتابات التاريخية المختلفة أن التاريخ دائمًا وفي النهاية ليس هو تاريخ الحكام فحسب، بل هو أيضًا تاريخ الشعوب، حتى وإن فقدت تلك الشعوب قدرتها على تحديد مصائرها وتحديد حكامها.

هذا ما ينوِّه إليه الكاتب صلاح عيسى. فتاريخ الشعوب في تعاملها مع الأحداث المصيرية المختلفة، ومواجهة الأخطار التي تتهددها، والتكيف على الظروف السياسية المختلفة، هو أيضًا تاريخ لا يقل في أهميته عن تاريخ السلاطين والملوك والجيوش والمعارك الحربية، فالتاريخ هنا كما يشير الكاتب هو تاريخ الشعوب.

قصة الفتح العثماني لمصر والشام

تعد رواية رجال مرج دابق (قصة الفتح العثماني لمصر والشام) هي أحد المؤلفات التي تتناول أحداثًا تاريخية مهمة في سياق أدبي، وتُعد مرجعًا مبسطًا للباحثين عن معرفة أحداث تلك المدة العصيبة في حياة الدولة المملوكية، خاصة في نهاية عهدها، وكيف تحوَّلت مصر والشام إلى ولايات عثمانية بعد أن كانت القاهرة ودمشق هي عواصم السلطنة المملوكية القوية، وكيف استطاعت الدولة العثمانية بعد معركة مرج دابق في 1516م، وبسط سيطرتها على مصر بعد معركة الريدانية 1517م.

اقتباسات من رواية رجال مرج دابق

ثم بعد ذلك وفي مدة زمنية بسيطة تمتد حدود العثمانيين شرقًا حتى العراق التي سقطت في عام 1534م، وغربًا حتى وهران وتلمسان في الجزائر عام 1556م وجنوبًا حتى اليمن، فلم يبق من بلدان العالم العربي خارج حدود سيطرة العثمانيين إلا المغرب الأقصى من جهة، وبعض أجزاء من قلب الجزيرة العربية من جهة أخرى.

لا تتحدث الرواية فقط عن أحداث معركة مرج دابق في الأطراف الشمالية من الشام التي انتهت بهزيمة المماليك وانتصار العثمانيين، لكن تتحدث أيضًا بمعالجة تاريخية محكمة عن بعض الأسباب التي أدت إلى هزيمة دولة المماليك.

فإضافة إلى العوامل العسكرية التي تحدد المصير النهائي لأي معركة حربية من معارك التاريخ، توجد أيضًا العوامل النفسية والاقتصادية التي أثَّرت في الأداء العسكري لدولة المماليك، تلك الدولة بخلفيتها الحربية والعسكرية. وعلى الرغم من إلمام المماليك بقواعد الحروب والمناوشات العسكرية طيلة مائتين وستين عامًا هي تقريبًا عمر دولة السلطنة المملوكية، لكن تلك الدولة لم تستطع أن تثبت أمام التطور العسكري في السلاح والمعدات الذي حققته الدولة العثمانية الذي ضمن لها التفوق الحربي على دولة المماليك.

فمعركة مرج دابق تعد إحدى المعارك التاريخية المهمة التي تغيَّرت معها النظريات العسكرية، حيث الاعتماد على الأسلحة النارية الحديثة التي تمثلت في سلاح المدفعية وبنادق العثمانيين. فقد كان السلاح العثماني أكثر تطورًا من سلاح الجيش المملوكي الذي اعتمد على التكتيكات العسكرية القديمة والقائمة على نظام الفروسية ونظام المناوشات وأسلوب الكر والفر وبعض الأساليب العسكرية القديمة التي احترفها المماليك الذين امتازوا بالشجاعة العسكرية والجرأة في القتال.

عوامل سقوط الدولة المملوكية

لكن الدولة المملوكية لم تسعَ إلى تطوير نمط التسليح والتكتيكات العسكرية كما فعل العثمانيون، ربما كانت الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرَّت بها الدولة المملوكية في نهايتها تمثِّل حائلًا بين الدولة ومحاولة تطوير سلاحها العسكري، وكان ذلك على عكس الأوضاع الاقتصادية للدولة العثمانية الفتية.

لم يكن فقط عامل تطور السلاح العسكري للدولة العثمانية هو وحده ما يكفل انتصار العثمانيين في معركة مرج دابق، بل كانت بعض العوامل الأخرى هي أيضًا سببًا مباشرًا في هزيمة المماليك أمام الدولة العثمانية. من تلك العوامل الروح النفسية الضعيفة لجنود الدولة المملوكية؛ خاصة مع الأوضاع الاقتصادية الضعيفة للدولة، وتأخر مرتبات الجند والأمراء.

فقد كانت الأوضاع الاقتصادية للدولة المملوكية في تلك المرحلة تعاني من الضعف ونقص الموارد المالية، وكانت خزائن الدولة شبه خالية، إضافة لضعف الروح المعنوية خاصة بعد الهزائم التي تعرضت لها الدولة في معاركها البحرية ضد البرتغاليين في البحر الأحمر وخليج عدن، وعدم قدرة الدولة المملوكية على صد البرتغاليين وحماية الموانئ البحرية العربية على البحر الأحمر من هجمات البرتغاليين، وكانت معركة ديو البحرية من أهم المعارك بين المماليك والبرتغاليين.

كان أيضًا عامل الخيانة من بعض قادة وأمراء المماليك، وتحالفهم بعد اتصالات سرية مع العثمانيين عاملًا مهمًّا في هزيمة السلطان قنصوة الغوري في معركة مرج دابق أمام السلطان سليم الأول العثماني؛ فقد شهدت الدولة المملوكية في نهاية عهودها بعض الصراعات التي تمثلت في عدم الثقة المتبادلة بين السلاطين والأمراء والقادة.

كان وراء تلك العوامل عامل ربما لم يكن ظاهرًا إذا تحدثنا عن المعركة من المنظور الحربي والعسكري، لكنه كان عاملًا أساسيًّا في ضعف موارد الدولة المملوكية، ذلك العامل هو أحوال الرعية في أرجاء الدولة المملوكية بشطريها مصر والشام.

فضعف الموارد ومعاناة الرعايا من سوء الأحوال الاقتصادية والضرائب المستمرة والجبايات التي فرضتها الدولة على الرعايا لتغطية نفقاتها العسكرية للتسليح وأجور الجند والأمراء، فضلًا على سوء نظام الإقطاع الذي عانى منه الفلاحون في مصر والشام، فقد كانت الأراضي توزَّع على هيئة إقطاعات للأمراء والقادة المحاربين، ويزرعها الفلاحون فيما يشبه نظام الانتفاع، فكان هذا عاملًا غير مباشر لهزيمة المماليك، بعد أن سادت روح التمرد بين الرعايا -وربما الجند أيضًا- على سياسات الدولة المملوكية التي كانت في أطوار ضعفها الأخيرة فيما يشبه الرجل المريض.

اقتباسات من رواية رجال مرج دابق

شخصيات تاريخية تناولتها الرواية

تتعرض الرواية أيضًا في سياق السرد التاريخي للأحداث بين الدولتين المملوكية والعثمانية لبعض الشخصيات التاريخية المهمة، ومن هذه الشخصيات السلطان العثماني بايزيد الثاني وهو أحد سلاطين الدولة العثمانية. تولى عرش السلطنة عام 1481م، وفي عهده ساءت العلاقات بين المماليك والعثمانيين.

وتحدثت الرواية أيضًا عن شخصية السلطان قايتباي وهو واحد من أبرز سلاطين دولة المماليك الجراكسة، وصاحب أطول مدة حكم في التاريخ المملوكي، إذ استمرت مدة حكمه للسلطنة المملوكية من عام 1468 إلى 1496م.

تناولت الرواية أيضًا الحديث عن السلطان طومان باي الثانى وهو آخر سلاطين دولة المماليك الجراكسة الذي تُعد هزيمته في معركة الريدانية عام 1517م على يد السلطان سليم الأول هي نهاية حكم السلطنة المملوكية في مصر.

تعرضت الرواية أيضًا لبعض شخصيات أمراء المماليك التي أدت دورًا مهمًّا في الأحداث، كشخصية الأمير المملوكي جان بردي الغزالي، وشخصية الأمير خاير بن ملباي، وهو أول أمير مملوكي يحكم مصر تحت ظل السيادة العثمانية.

وتعرضت الرواية أيضًا لشخصيات تاريخية أدت دورًا مهمًّا في مجريات الأحداث، كشخصية الشاه إسماعيل الصفوي، والصراع الذي وقع بين العثمانيين والدولة الصفوية في إيران الذي انتهى بهزيمة إسماعيل الصفوي أمام سليم الأول في معركة جالديران عام 1515م.

تناولت الرواية أيضًا شخصية المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما الذي اكتشف الطريق البحري بين أوروبا والهند الذي يُعرف بطريق رأس الرجاء الصالح، ذلك الطريق الذي كان له بالغ الأثر في ضعف الموارد الاقتصادية للدولة المملوكية بعد أن تأثرت المواني البحرية المملوكية على البحرين الأحمر والمتوسط باكتشاف هذا الطريق البحري الجديد؛ ما أضعف الموارد التجارية للبلاد.

تُعد الرواية من الروايات التي تحدثت عن حقبة تاريخية مهمة في تاريخ وطننا العربي، خاصة في مصر والشام، ولكن بأسلوب أدبي بسيط، مع السرد التاريخي وذكر تواريخ الأحداث والوقائع، وتناولت تحليلًا منطقيًّا لأسباب الضعف والوهن الذي أصاب الدولة المملوكية في نهاية عهودها، هذا الضعف الذي انتهى بها إلى الهزيمة أمام الدولة العثمانية الفتية، تلك الهزيمة التي كانت إيذانًا بزوال عصر الدولة المملوكية، ودخول البلاد العربية عصرًا جديدًا هو عصر الدولة العثمانية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة