في معارك الحياة، قد تظن أنك انتصرت لمجرد أنك أسقطت خصمك أرضًا، لكن توجد هزائم خفية لا ننتبه لها إلا بعد فوات الأوان. أحيانًا عندما نحارب عدوًا بشراسة، نجد أنفسنا نكرر أفعاله ونرتدي قناعه، ونستعير أساليبه دون أن نشعر، حينئذ حتى لو انتصرنا في المواجهة، نكون قد خسرنا شيئًا أثمن بكثير: أنفسنا.
وتخيل شخصًا تعرض للخيانة من أقرب أصدقائه، يمتلئ قلبه بالغضب، ويقسم ألّا يكون ساذجًا مرة أخرى، لكنه بدلًا من أن يتعلم الحذر، ويتحول مع الوقت إلى نسخة من ذلك الصديق الخائن، ويصبح هو نفسه شخصًا لا يثق بأحد، ويتلاعب بالمشاعر، ويغدر قبل أن يُغدر به، وفي النهاية، هل انتقم لنفسه، أم سمح للخيانة أن تعيش فيه وتعيد إنتاج نفسها فيه؟
أنت تعيد القصة نفسها
الأمر يشبه من يحارب النار بالنار، تخيل بيتًا اشتعلت فيه النيران، فيأتي صاحبه ليطفئها بمزيد من اللهب، معتقدًا أنه يواجه النار بسلاحها، النتيجة واضحة: سيحترق كل شيء. هذا ما يحدث عندما نقاوم الشر بالشر، والظلم بالظلم، والخيانة بالخيانة. نحن لا نقضي على العدو، بل نساعده على التكاثر بداخلنا، وإليك أمثلة على ذلك:
في السياسة
رأينا عبر التاريخ ثورات قامت ضد الظلم رفعت شعارات الحرية والعدالة، لكنها عندما وصلت إلى السلطة مارست القمع نفسه الذي حاربت من أجله، كأن الطاغية الذي أسقطوه لم يمت بل انتقل إليهم، سكن أفكارهم وأفعالهم، وتحكم في قراراتهم من حيث لا يعلمون. هل كانوا بحاجة إلى كل ذلك القتال فقط ليعيدوا إنتاج الطغيان نفسه بوجوه جديدة؟
حتى في العلاقات الشخصية
يمكننا رؤية هذا المبدأ بوضوح. فتاة تعرضت لخذلان عاطفي، فتقرر ألَّا تحب بصدق مجددًا، تصبح باردة، تحطم القلوب كما حُطِم قلبها، معتقدة أنها تحمي نفسها. لكنها في الواقع لا تفعل سوى تكرار الألم الذي عانته، لتصبح هي الأخرى سببًا في معاناة شخص جديد.
حين تنتصر ولكن تخسر نفسك
الحياة مملوءة بالصراعات، بعضها صغير وعابر، وبعضها يترك أثرًا لا يُمحى، لكن في كل مواجهة، توجد معركة خفية تدور في الداخل، وهي الأخطر على الإطلاق: هل تخرج منها كما كنت، أم ستتحول إلى نسخة من الذي كنت تحاربه؟
عدوك يتسلل إليك دون أن تشعر
تخيل أن رجلًا تعرض للظلم طوال حياته، كبر وهو يرى رؤساءه في العمل يستغلونه، والأقوياء يسحقون الضعفاء، في قرارة نفسه، كان يعد الأيام حتى يصبح هو القائد، حتى يُصلح الأمور ويعيد العدل للمكان. لكن عندما جاءت فرصته، وجد نفسه يتصرف بالطريقة نفسها التي كان يكرهها، يصرخ على موظفيه، يتعامل معهم بازدراء، ويستغل سلطته، لم يكن هذا ما خطط له، لكنه دون أن يشعر أصبح انعكاسًا لأولئك الذين كان يحاربهم.
الأمر أشبه بمريض تعرَّض لعدوى، لكنه لم يشعر بها إلا بعد أن بدأ جسده يتصرف بطريقة لا تشبهه، العدوى الفكرية والسلوكية أكثر خطورة من أي مرض جسدي؛ لأنها تعمل بصمت، تتحكم في قراراتنا، وتغيرنا دون أن ندرك.
هل نحن ضحايا أم جلادون جدد؟
في كل ثورة شهدها التاريخ، كان يوجد حلم بالحرية والعدل، لكن كم مرة انتهى الأمر بأن يصبح الثوار أنفسهم طغاة؟ كم مرة حمل المحررون السلاسل نفسها التي كانوا يريدون كسرها، وقيّدوا بها من جاؤوا لتحريرهم؟ هذه ليست مجرد مصادفة، بل نمط يتكرر لأنهم اعتقدوا أن الطريقة الوحيدة لهزيمة الظلم هي ممارسته بطريقة مختلفة.
تخيل شخصًا تعرض للخيانة، وقرر ألَّا يكون الضحية مرة أخرى. في البداية، كان يبحث فقط عن حماية نفسه، لكن مع الوقت، بدأ يسبق الآخرين بالخداع قبل أن يخدعوه، يخذل قبل أن يُخذل، ظنًا منه أن هذه الطريقة الوحيدة للنجاة. في النهاية، هل انتقم لنفسه أم أنه أصبح مجرد خائن آخر يضيف للألم في هذا العالم؟
كيف تنتصر دون أن تخسر نفسك؟
الانتصار الحقيقي لا يكون فقط بإسقاط العدو، بل في الخروج من المواجهة وأنت ما زلت أنت. أن تحارب الظلم دون أن تصبح ظالمًا، أن تواجه الخداع دون أن تصبح خادعًا، أن تدافع عن نفسك دون أن تتحول إلى نسخة من أولئك الذين كنت تحاربهم.
تخيل بحارًا يحاول الوصول إلى شاطئ آمن، لكنه يكتشف أن البوصلة التي يستخدمها تشير إلى الاتجاه الخاطئ. مهما أبحر، سيظل يدور في الدائرة نفسها، ولن يصل أبدًا إلى وجهته. هذا ما يحدث لمن يدخل معركة وهو يستخدم أدوات عدوه، لأنه في النهاية لن يذهب إلا حيث ذهب عدوه من قبله.
لذا، قبل أن تحتفل بأي انتصار، قف لحظة واسأل نفسك: هل بقيت كما كنت؟ أم أنك أصبحت مرآة لعدوك؟ لأن بعض المعارك تُربَح بالسيوف، لكن المعركة الأهم تُربَح بالقلب والعقل، حيث لا يكفي أن تهزم خصمك... بل عليك أن تتأكد أنه لم ينجح في أن يصبح جزءًا منك.
مقال شيق جدا
بالتوفيق إكرام
شكرا عزيزتي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.