وقفت الحروف عاجزة عن التعبير، لا كاتب يعيد صياغتها، ولا أستاذ يتقن نطقها، ولا معلم يعرب ما تحته خط. تُركت المعاني تتصارع في ميدانها الخاص، وأصبح الحبر أشبه بالدم المسفوك في مكتبة مهجورة، بلا قارئ ولا مستمع، فالمشهد كان عصيًّا على الفهم.
لم أجرؤ على كتابة الكلمات أو حتى نطقها، إذ بات معناها جريمة غامضة، كطفل يحمل على وجهه ملامح البراءة في حين تسكنه أشباح الماضي. في البداية، ظننت الأمر بسيطًا، مجرد رسالة ورقية سأرسلها إلى شخص مجهول، شخص يعرفه العالم أجمع.. إلا أنا. وحدي كنت أستثني من معرفته وحضوره.
كانت رسالتي رقيقة، كلماتي هادئة، لكن الجريمة لم تكن في مضمونها، بل في هوية المرسل إليه. الجميع أخبرني أنني أخطأت الاختيار، لكنه لم يكن خطأً لي، بل كانت فرصة وهبتها لشخص لم أكن حتى لحظة واحدة في حساباته. كنت أبحث عن إجابة، عن تفسير، عن أي شيء قد يمنحني الشعور بأنني لم أكن مجرد نقطة عابرة في حياته.
لكن الأجوبة لم تأتِ، بل جاءت الرياح تحمل معها شكوكًا وأسئلة أكثر قسوة. هربت إلى مكتبتي القديمة، أبحث عن ملجأ وسط حرب الكلمات التي تخطت الحدود الفكرية. قلَّبت صفحات كتبي، فتَّشت بين السطور عن معنى يفسر هذا الصمت، عن حكمة قد تخفف وطأة ما أشعر به. لكن فلسفتي خانتني، وحبري لم يكن كافيًا لاحتواء اضطرابي، حتى محاولاتي خذلتني.
كان الليل قد تمدد على المدينة، والساعة تشير إلى وقت متأخر. جلست بجوار النافذة، أراقب أضواء الشارع الخافتة، كأنها انعكاس لما أشعر به، بقع ضوء ضائعة في بحر الظلام. وكنت أبحث عن شيء يشبهني في هذا العالم، عن فكرة تعيدني إلى ذاتي، عن معنى يبرر كل هذا الصمت الذي يبتلعني. لكنني وجدتني مجرد ظل لحروفي، مجرد سطر ناقص في رواية لم تكتمل.
في ذلك الصمت القاتل، شعرت بأنني أصبحت أنا والحروف وجهين لعملة واحدة، نحن منفيون معًا، مهملون معًا، ننتظر معًا لحظة الإفراج. كنت أظن أن الكلمات تملك قدرة سحرية على إعادة ترتيب الفوضى، على ملء الفراغات التي يتركها الآخرون فينا، لكنها خذلتني كما خذلني العالم.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.