قد يفهم بعض القراء من هذا العنوان شموليته وعمومه، فيرون فيه إجحافًا، وسوء تقدير، وضعف بصيرة؛ لما فيه من إيحاءٍ بإسقاط حكمٍ واحدٍ على كافة الفنون، بغض النظر عن القيم التي يضيفها هذا الفن للمجتمع أو القيم التي يمحوها ذاك الفن منه. لكن الأمر مختلف تمامًا؛ لأن التطورات في السنوات الأخيرة حصرت لفظي الفن والفنانين في قالب ضيق للغاية.
اقرأ أيضًا حاكمية التفاهة
تأثير التفاهة
إذ إن تأثير التفاهة المتنامي والذي لا يزال يتنامى أكثر فأكثر، أدَّى إلى هيمنة الفن الذي يستهدف غرائز الإنسان، بهدف تحقيق الأرباح الهائلة والشهرة ذائعة الصيت دون الالتفات لأي تأثيرات منحطة يتركها هذا النوع مما يسمى بالفن على عقول ونفسيات وأفكار ومعتقدات الذين يتعرضون لهكذا فن.
وبالأخص الشباب والنشء الصغير الذين لم يكتمل وعيهم بعد، وما زالوا يتشربون المبادئ والأخلاقيات من محيطهم ومما يشاهدونه ويستهلكونه على مختلف وسائل الاتصال الحديثة بكثافة، وما يشكِّل القناعات والمبادئ والتصورات التي يتبنونها وينتهجون سبيلها في حياتهم، والتي تُخرجهم عن جادة الطريق وتمسخ فكرة الوازع الديني أولًا ثم يليه الأخلاقي ومن بعده القانوني.
وذلك لأن هذا النوع من الفن يُوظف الكلمات التي تُشبع طباعًا وحشية موجودة عند الإنسان كالجشع والخبث والتسلط والمركزية والشهوة وحب الظهور والشهرة، إلى غير ذلك من الطباع البشرية القبيحة المكروهة التي تشمئز منها النفوس السليمة ذات الطباع القويمة.
ومن المفارقات أن هذا الفن لم يكتفِ باستهداف الغرائز الفطرية التي لا تحتاج إلا إلى منبه حتى تحدث عملية إثارتها وحسب، بل إن الأمر أعمق من ذلك؛ إذ إن أهم الأسباب التي أدت إلى نجاح وانتشار هكذا هبوط وسفالة وانحطاط هو العقل الجمعي للجماهير، الذي ساعدت في خلقه وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت. لا أقول بالتعميم، ولكن الغالبية الساحقة من المنتسبين لهذا المجال يسلكون هذا المنحى المتحرر من أي قيد أخلاقي.
يقول غوستاف لوبون: «إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو جبانة، وذلك وفقًا لنوعية المحرِّضات، ولكنها سوف تكون دائمًا قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها، بمعنى أنها مستعدة للموت من أجلها» [سيكولوجية الجماهير، ص 66].
لذلك دائمًا ما نرى مشاهير المغنين والراقصين -التافهين- يسعون لبناء قاعدة جماهيرية متينة حتى لا تؤثر التقلبات الأخلاقية التي يتطلبها العمل الفني على مستقبلهم المهني باعتبارهم ينحدرون في دركات السفه في كل عملٍ فني جديد؛ لذلك فإن الفهم العميق لعقليات الجماهير مع مسايرة هيمنة الثقافة الغربية المتحررة من كل القيود من لوازم خوض مضمار هذا المجال المسمى بالفن، الذي أصبح من أوسع أبواب سلخ العرب من ثقافتهم وهويتهم وتاريخهم وكل ما يتصل بهم من قريب أو بعيد.
اقرأ أيضًا صناعة التفاهة.. مشاهير السوشيال ميديا ومرض الشهرة وربح المال
كيف يفسر الناس الفن؟
يفسر الناس الفن ويعرفونه كلٌّ حسب فهمه لمعنى الجمال. فمن الناس من يرى أن الفن تمثله كل أشكال الإبداع. فالشاعر فنان، والكاتب فنان، والروائي فنان، والمخرج السينمائي فنان، والرسام فنان، والنَّحَّات فنان، والمُلحِّن فنان، والمصور الفوتوغرافي فنان، إلى غير ذلك من المهن والهوايات والمواهب التي يمكن وضعها في إطار الإبداع، ويوصف صاحبها بالمبدع أو الفنان.
وجهة النظر هذه ترى أن الفن عامٌّ وشامل ولا يمكن حصره في نوعٍ معينٍ من أنواع الإبداع؛ لأن ذلك من شأنه أن يجعل العالم جافًّا من العواطف المشحونة التي تخلقها كافة أشكال الإبداع؛ إذ إنها تمس جوهر إحساس الإنسان.
ويرى أناس آخرون أن الفن لا بد من تقييده بضوابط أخلاقية نابعة من تشريعاتٍ سماوية أو قوانين وضعية، ولا بد من بلورة فكرة الفن حول تجسيد القيم الأخلاقية الإنسانية الرفيعة التي لا تتعرض بالإساءة لدينٍ أو عرقٍ أو شعب من الشعوب، وألا يكون الهدف من العمل المسمى بالفني أيًّا كان شكله (رواية - فيلم - أغنية - قصة - مسرحية - لوحة - مجسم - قصيدة... إلخ) هو إثارة الغرائز وتهييج المشاعر واستغلال مكامن ضعف نفسية الإنسان في إنتاج عمل يدغدغ حاجات فسيولوجية فطرية ماسة عند الجمهور المتلقي لهذا العمل.
وجهة النظر هذه ترى وجوب وضع سقف أخلاقي لأي عملٍ إبداعي؛ حتى لا يفقد المجتمع اتزانه حتى لا تتزعزع قيمه تحت غطاء الفن والفنانين.
ولذلك فإن تسمية شيء ما بالفن هكذا بإطلاق -دونما تحديد أي أشكال ومسميات الفن نقصد- يُعد دسًّا للسم في العسل؛ لأن التصور الذي يوحي به تعميم مصطلح الفن يجعل النفوس تتقبل أشكالًا ممَّا يُسمى فنًّا، وهو في الحقيقة سم قاتل، مثل إبراز الرقاصين والرقاصات والمغنين والمغنيات واللاعبين واللاعبات وتقديمهم للمجتمع كنجوم فريدة لا تظهر إلا مرة في كل قرن وتصديرهم بدل القدوات.
من هذا المنطلق وجب إعادة النظر في تعريف الفن والفنانين، بالتأكيد هذه ليست مهمتي ولست معنيًّا بوضع تعريفٍ للفن؛ لأن الاعتبارات التي تؤخذ في وضع التعريفات تتشعب وتتنوع، فالناس في الفن مذاهب، وأهل الضبط والتقييم لا يصنعون فارقًا، لكن وجب التنبيه على كل حال.
اقرأ أيضًا الثراء وجمع الأموال من التفاهة.. هل هي سمة المجتمع؟
صناعة القدوات التافهة
من الظواهر التي تقضُّ مضاجع العقلاء، وهي من نواتج صناعة الفن التافه والمستهلك أخلاقيًّا، هي ظاهرة الفنان القدوة، التي تجعل من الفنان الفلاني أو الملحن الفلاني أو الرسام الفلاني قدوة للشباب والناشئة، وأقصى أحلامهم وطموحاتهم أن يصيروا مثله، في ماذا برأيك؟ هل في إحسانه للآخرين مثلًا؟ هل في تورعه؟ هل في تسخير فنه لمعالجة قضية اجتماعية؟
لا هذا ولا ذاك! الشباب لا ينظر إلا إلى الثراء الفاحش والنساء الجميلات والشهرة الواسعة وحياة المتعة واللذة التي يظهر أن المغني يتمتع بها. فهم يراقبون فقط الوهج المنبعث من شمعة لا تضيء إلا حين تخرج للعلن، ويا ليتها تضيء بشيء ذي قيمة، وإنما تخلع ثوب الوقار وتلبس ثوب الغرور والتبختر وإبراز مدى السلطة والتأثير اللذين يتمتع بهما هذا التافه أو ذاك.
علاقة المرأة بكل ما سبق
المرأة منذ قديم الزمان كانت محل جدال طويل حول الحقوق وما شابه. وبعيدًا عن نقاط الجدال، فالمرأة بلا مراء هي إحدى أكبر وسائل إغراء المستهلكين، أيًّا كان المنتج الذي تريد بيعه، سواءً أكان منتجًا للاستعمال الشخصي أم منتجًا يؤكل أم منتجًا يمكن مشاهدته أم قراءته أم حتى سماعه؛ لأن المرأة وعلاقتها مع الرجل بمختلف صور وأنواع هذه العلاقة ما زالت من المحفِّزات القوية والمثيرات الفعالة في جذب قطاعات واسعة من الجماهير، خصوصًا شريحة الشباب والنشء الصغير الذين لم يعرفوا شيئًا عن هذا النوع من العلاقات بالعمق الذي يثير شهوتهم ويأخذ بألبابهم.
ولأن أرباب الفن المقصود بهذه المقالة يدركون تمام الإدراك هذه النقطة بالتحديد استخدموها في إثارة النفوس الجاهلة وغير المستعدة لهضم هذه الأفكار التي تخاطب غرائز وجودية عندهم وتفتح مغاليق أبوابٍ ما كان يجب أن تُفتح لعقول غير ناضجة كفاية في هذا السن.
انتشار الجهل
إن انخفاض جودة التعليم في البلاد العربية، وعدم اهتمام الشباب بالقراءة نتيجة للظروف الصعبة التي تمر بها بلدانهم، أدى إلى أن الشباب لم تسنح لهم الفرصة ليُكوِّنوا عقلية واعية نقدية قوية يستطيعون عن طريقها التمييز بين الصواب والخطأ، والتفريق بين المعنى السامي والمعنى السافل؛ لأن همهم الوحيد صار تأمين لقمة العيش.
فانشغلوا بضغوط وصعوبات الحياة عن بناء وعيٍ معرفي فكري عقائدي ثقافي، يخلق لديهم حسًّا نقديًّا يمنعهم من قبول أي شيء بسهولة، ما يمنحهم القدرة على مقاومة هذا الاستهداف الهمجي لكل ما يُثار في النفس البشرية من طباعٍ شهوانية قذرة يأنف ويشمئز منها صاحب الطبع القويم والفطرة السليمة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.