في قلب مدينة ميلانو، حيث تتداخل الأزقة القديمة مع الواجهات الزجاجية الحديثة، وتنبض الأرصفة بحكايا الزمن، كان يقف «عمر»، شابٌ عربيّ يعمل في متجر للعطور الفاخرة، يحمل من ملامح الشرق دفئًا، ومن نبرة صوته موسيقى تشبه الحنين.
كان يعشق صنع العطور كما يعشق الشِعر، يخلط الورد والياسمين كما لو أنه يكتب بيتًا من قصيدة، ويقدّم العطر كما لو أنه يهب روحًا جديدة.
وذات صباحٍ ماطر، دخلت عليه فتاة بشعرٍ ذهبيّ وعيونٍ رمادية، كأنها خرجت من لوحة لرسّامٍ إيطالي. كانت ترتدي معطفًا رماديًّا وتضع على عنقها وشاحًا من الحرير البنفسجي.
قالت بإيطالية هادئة: هل يمكنك مساعدتي؟ أبحث عن عطرٍ لا يُنسى.
ابتسم عمر وقال: إذن نبحث عن شيء يشبه الذاكرة... ويعيش أطول من اللحظة.
أعطاها قارورة صغيرة، وقال: هذا مزيج من العنبر والمسك والورد الدمشقي... عطرٌ يشبه القصص التي لا تنتهي.
رشت القارورة على معصمها، وساد بينهما صمتٌ جميل.
قالت: رائع.. ما اسمه؟
قال مبتسمًا: لم أسمّه بعد.. ولكن، إن أعجبك، سأسميه باسمك.
ضحكت، وقالت: اسمي «إليسا».. وإن عدتُ إلى هذا المكان، فاعلم أن العطر قد أسرني.
غادرت، وبقي هو يتأمل آثارها كأنها نسجت في قلبه خيطًا لا يُرى.
مرت أيام، ولم تعد إليسا. وكان عمر كل صباح يفتح القارورة ويشمُّها، كأنَّه ينتظر بين ذراتها موعدًا أو معجزة.
وفي أحد الأيام، حين كان على وشك إغلاق المتجر عند الغروب، سمع الخطوات نفسها.
التفت، فإذا بها تقف عند الباب، وشعرها مبللٌ من المطر، وعيناها تلمعان.
قالت بصوتٍ خافت: عدتُ.. لأن العطر جعلني أشتاق، ليس فقط للرائحة، بل لمن منحني إياها.
تقدّم نحوها، وقال: أما أنا، فقد كنت أعيش في انتظاره.
سألته: هل سمّيت العطر؟
قال وهو ينظر في عينيها: نعم.. «إليسا».. عطرٌ يشبه المطر حين يوقظ الورد النائم.
منذ ذلك اليوم، أصبح اللقاء عادة، والعطر عهدًا، وميلانو مدينة تشهد على حبٍ بدأ بنسمة، واستمر كنغمة موسيقى تتردّد بين جدران القلب.
مرَّت الأسابيع وكأنها طيفُ حُلمٍ جميل، لا يُراد له أن ينتهي.
كان عمر وإليسا يلتقيان كل مساءٍ في مقهى صغير بجانب كاتدرائية ميلانو، حيث تعزف فرقة الكمان لحنًا من الزمن البعيد، وتشعل الأنوار الذهبية دفئًا في عيون العاشقين.
كانا يتحدثان عن كل شيء: الشعر، والطفولة، والاختلاف بين الشرق والغرب، وحتى عن اللغة التي لم تكن عائقًا، بل جسرًا تبنيا عليه أحلامهما معًا.
وذات مساء، أمسك عمر بيدها وقال: إليسا.. هل تؤمنين بأن الأرواح تعرف طريقها حتى لو وُلدت في قارتين مختلفتين؟
أجابت: نعم، وقد وجدت دليلي إليك.
ثم أردف قائلاً: أريد أن أطلب يدك.. ليس فقط لأنك جميلة، بل لأنك علّمتِني أن الحب لا وطن له.
ابتسمت، وبدت دمعة دافئة في طرف عينها.
قالت: ولكن هل سننجو من كل ما قد يفرقنا؟ عائلتي، سفري، دينك وديني، جنسيتك وجنسيتي؟
فأجابها: الحب لا يُمتحَن بالعناوين، بل بالصبر. وإن كنا معًا، فكل العواصف تمرّ.
وبينما هما يخططان للخطوة التالية، جاءت العاصفة الأولى...
جاءها عرض عمل في نيويورك، لا يُرفض، ولا يُؤجَّل. وكانت الحيرة كالسهم بين القلب والعقل.
قالت له: سأذهب، لكنني لا أتركك.
قال: وإن ابتعدنا، فقلبي عندك. وإن عدتِ، وجدتيني أنتظرك، كما انتظرتك أول مرة.
افترقا على وعد، وبقي العطر في درجها، يشبه صوت عمر حين كان يقول لها: «إليسا... هذا اسم الحب في لغتي.»
مرت الشهور، ولم يتغير شيء...
إلا أن الحنين اشتد، والليل طال، والمساءات صارت أبرد.
وفي أحد أيام الخريف، وبينما عمر يرتّب رفوف العطر في متجره، سمع صوتًا يقول: أظن أنَّ هذا العطر ينقصه شيء…
التفت بسرعة… فوجدها أمامه، تحمل ذات الابتسامة.
ركض إليها، واحتضنها كمن عاد إليه النور بعد طول ظلمة.
قالت له: اخترت قلبك على الوظيفة، واخترت الحب على كل شيء… فهل ما زال العطر يحمل اسمي؟
أجابها وهو يضع القارورة بين يديها: والآن صار يحمل أيضًا لقبك… زوجتي.
وبعد شهر، احتفلوا بزفافٍ صغير في باحة منزل قديم في ميلانو، حيث امتزجت الورود الإيطالية بالموسيقى الشرقية، وتعانقت اللغتان في رقصة فرحٍ، كانت إليسا فيها العروس، وعمر الحلم الذي انتظرها عبر الزمان والمكان.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.