عبد الرحمن الأبنودي شاعر العامية الذي صاغ وجدان الشعب في مسيرة إبداعية

عبد الرحمن الأبنودي أشهر شعراء العامية المصرية، فلا يُذكر الشعر العامي المصري دون أن يسطع اسم الأبنودي نجمًا ساطعًا في سماء القصيدة العامية الزجلية، فقد استطاع أن يحول القصيدة من قالب زجلي تقليدي إلى قالب حر مبتكر، في تألق فريد جمع بين موهبة فذة وتأثير سياسي واجتماعي عميق، منح الكلمة الشعبية بُعدًا فنيًا عميقًا، وجعل من الحارة والمقهى والميدان مشاهد شعرية خالدة، من أزقة الصعيد إلى قلب القاهرة النابض، نسج الأبنودي قصائد وأغاني حُفرت في وجدان الملايين. في هذه الجولة، نستكشف رحلة هذا الشاعر الكبير، ونستعرض أهم محطاته الشخصية والإبداعية التي جعلت منه صوت مصر الشعبي الأصيل.

بدأت رحلة الأبنودي في قرية أبنود بمحافظة قنا عام 1939 وترعرع في بيئة قروية مليئة بسحر السيرة الهلالية، ليتحول فيما بعد إلى واحد من أبرز الرموز الثقافية والأدبية في مصر والعالم العربي. من بين كل الأسماء الكبيرة في مشهد العامية المصرية، يبدو اسم عبد الرحمن الأبنودي الأكثر بروزًا ولمعانًا نتيجة عوامل عدة، من بينها الموهبة الكبيرة والظروف السياسية، وربما الذكاء الشخصي، إضافة إلى كتابته عددًا من الأغاني التي ساعدت على ذيوع صيته وظهور اسمه باستمرار في كثير من الأعمال السينمائية والدرامية.

عبر مسيرة حافلة امتدت لعقود، كان الأبنودي أحد أهم شعراء مصر والعالم العربي، فكتب الأبنودي للوطن، وللحب، وللناس البسطاء، ليصبح صوته مرآةً نابضة لوجدان الشعب المصري والعربي.

مولد ونشأة عبد الرحمن الأبنودي

وُلِد عبد الرحمن الأبنودي في قرية أبنود بمحافظة قنا عام 1939 لأسرة فقيرة، إذ كان أبوه يعمل مأذونًا شرعيًّا، وكانت أمه «فاطمة قنديل» وجدته «ست أبوها» هما مصدر بناء وعيه ونافذته على العالم في سنواته الأولى.

وُلِد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في قرية أبنود بمحافظة قنا عام 1939 لأسرة فقيرة

انتقلت أسرة الأبنودي إلى مدينة قنا، وهو ما منح الصبي الصغير عبد الرحمن فرصة للتعرُّف على السيرة الهلالية والاستماع لها في شوارع المدينة بعد أن تشبَّع بعادات القرية المصرية، وهو ما منحه كثيرًا من الزخم في تركيبته الشخصية التي استفاد منها في شعره بعد ذلك.

وفي قنا، حصل عبد الرحمن الأبنودي على شهادته الثانوية قبل أن ينتقل إلى جامعة القاهرة، حيث درس اللغة العربية في كلية الآداب وحصل منها على شهادته الجامعية، وهي المدة التي اطَّلع فيها على عدد من التجارب الشعرية، سواء عن طريق قراءة أعمال كبار الشعراء أو عن طريق الاحتكاك بالحركة الأدبية في القاهرة.

صعود عبد الرحمن الأبنودي في عالم الشعر

على الرغم من التحاقه بوظيفة حكومية في إحدى المحاكم في قنا، فإن عبد الرحمن الأبنودي تخلّى عن الوظيفة والراتب الثابت، واتجه إلى القاهرة حيث الشعر والشعراء وحياة المبدعين التي كان يبحث عنها، وهي التجربة التي شاركه فيها رفيق عمره الشاعر «أمل دنقل» عام 1956، وهو أيضًا من مدينة قنا، ليبدآ سويًا رحلة البحث عن الذات في القاهرة.

وعلى الرغم من المحاولات المتعددة لعبد الرحمن الأبنودي لكي يحصل على بعض المال وبعض الشهرة من كتابة الأغاني، فإنه لم يلقَ ما كان يأمل من كبار الملحنين والمطربين حتى جاءته الفرصة من طريق الشاعر صلاح جاهين الذي نشر له بعض أشعاره في صحيفة الأهرام، وهو ما منح عبد الرحمن الأبنودي مساحة لتظهر أشعاره وتنتشر كلماته، إذ غنى المطرب محمد رشدي القصيدة التي نُشرت في الأهرام تحت عنوان «تحت الشجر يا وهيبة»، وهو ما كان نقلة كبيرة في حياة الشاعر الجنوبي عبد الرحمن الأبنودي.

كانت كتابة الأغنية مدخلًا استطاع به عبد الرحمن الأبنودي الحصول على المال الذي يعينه على حياة القاهرة، وكذلك الحصول على الشهرة والوصول إلى كبار الشعراء والمطربين والملحنين، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، تسابق فيها المطربون للحصول على كلمات عبد الرحمن الأبنودي، وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ الذي كتب له عبد الرحمن الأبنودي أعمالًا عدة معظمها نالت شهرة كبيرة.

عبد الرحمن الأبنودي شاعر العامية الكبير

كان عبد الرحمن الأبنودي دائمًا ما يقول إن كتابته «الأغنية» هي صنعة لجأ إليها من أجل الحصول على المال، وربما من أجل الشهرة التي مكنته من الحضور بين الكبار في مجتمع القاهرة، في حين كان الشعر دائمًا هو قضيته الكبرى.

وعلى مدار حياته، كان عبد الرحمن الأبنودي شغوفًا بالسيرة الهلالية، وربما كانت مشروع عمره، فقد بدأت علاقته بالشعر عن طريق استماعه إلى الرواة والشعراء الذين يجوبون القرى والمدن في الصعيد وينقلون السيرة الهلالية، وهو ما جعل عبد الرحمن الأبنودي ينشغل بعد ذلك بجمع السيرة الأدبية، لكن كثيرًا من الأدباء والباحثين والنقاد قد أخذوا على عبد الرحمن الأبنودي أنه كتب اسمه على السيرة الهلالية وكأنه من كتبها، على الرغم من أنه عمل فقط على جمعها.

وعلى الرغم من أن شهرة عبد الرحمن الأبنودي الكبيرة تعود إلى الأغاني؛ فإنه يُعد أحد كبار شعراء العامية في مصر والعالم العربي، واستطاع فعلًا بقصيدته أن ينقل العامية المصرية من حالة الزجل إلى حالة القصيدة الحرة، وتوجد مئات الدراسات والأوراق البحثية التي تناول أصحابها تجربة عبد الرحمن الأبنودي الغنية والمختلفة.

يُعد الأبنودي أحد كبار شعراء العامية في مصر والعالم العربي واستطاع نقل العامية المصرية من الزجل إلى القصيدة الحرة

واستطاع عبد الرحمن الأبنودي بقصيدته التي تحمل ملامح مصر الصعيدية، وتتناول قضايا الوطن وهمومه بلغة بسيطة وتقنيات فنية عالية، أن يصل إلى كل الناس باختلاف طبقاتهم ومستويات وعيهم، وهو أمر غاية في الصعوبة. وما زالت قصائده تحظى حتى الآن بقبول وتأثير كبير، على الرغم من ظهور عدد من الأنماط والمدارس الشعرية التي تجاوزت قصيدة عبد الرحمن الأبنودي.

كان ديوان «الأرض والعيال» الذي صدر عام 1964 هو أول أعمال عبد الرحمن الأبنودي، في حين كانت قصيدة «الاستعمار العربي» التي كتبها عام 1962 هي آخر أعماله الشعرية، إضافة إلى المجهود الكبير الذي قام به لجمع السيرة الهلالية التي نشرها في خمسة أجزاء منذ عام 1988 حتى عام 1991.

عبد الرحمن الأبنودي وعلاقته بالسلطة

من الغريب أن عبد الرحمن الأبنودي أُطلِق عليه لقب «شاعر السلطة» كما أُطلِق عليه «شاعر الثورة» ولعل علاقة عبد الرحمن الأبنودي بالسلطة قد مرت بمراحل مد وجزر، فقد كان من مؤيدي ثورة يوليو 1952، وعلى الرغم من ذلك فقد اُعْتُقِل في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد موت جمال عبد الناصر كتب عنه ومجَّد في سنوات حكمه، وكان دائمًا ما يقول: «أنا لست ناصريًّا» على الرغم من أنه كان يكتب الأغاني التي تقول عكس ذلك، وكتب بعد وفاة جمال عبد الناصر قائلًا:

مش ناصري ولا كنت يوم
بالذات في زمنه وفي حينه
لكن العفن وفساد القوم
نساني حتى زنازينه

ومع عهد الرئيس أنور السادات، مرت علاقة عبد الرحمن الأبنودي بالسلطة بأوقات من الود وأوقات من المعارضة، فرفض عبد الرحمن الأبنودي منصبًا وزاريًّا في عهد السادات، وكان رافضًا لاتفاقية السلام مع إسرائيل، لكن أنور السادات لم يتخذ موقفًا من عبد الرحمن الأبنودي، ولم يكن يعده ضمن معارضيه الحقيقيين، وعلى هذا لم يعتقل أو يسجن في حكم السادات.

أما علاقة عبد الرحمن الأبنودي بالرئيس مبارك فكانت علاقة طيبة، وكتب في عهده عددًا من الأغاني الوطنية، وحصل في عهده على جائزة الدولة التقديرية، لكنه انقلب عليه في أثناء ثورة 25 يناير، فبعد أن كتب عنه قصيدة «النسر المصري» كتب قصيدة «الميدان» التي أعلن فيها تأييده للثورة المصرية قائلًا: «آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز».

وأخيرًا، كان عبد الرحمن الأبنودي مؤيدًا للرئيس عبد الفتاح السيسي، وقال عنه «إنه منقذ البلاد من الضياع» و«إنه لا يختلف معه إلا أهل الباطل» وهو ما جعل بعض المثقفين ينتقدون عبد الرحمن الأبنودي ويصفونه بشاعر السلطة.

أعمال عبد الرحمن الأبنودي

بجانب الأعمال الشعرية، كان عبد الرحمن الأبنودي قد جمع السيرة الهلالية، إضافة إلى كتابه «أيامي الحلوة» الذي نُشر بعض أجزائه في صحيفة الأهرام قبل جمعه في كتاب واحد يضم عددًا من القصص والحكايات التي مرّت به على مدار حياته.

كذلك كتب عبد الرحمن الأبنودي عددًا كبيرًا من الأغاني التي غناها كبار المطربين في الوطن العربي، إضافة إلى الأغاني التي شارك بها في عدد كبير من المسلسلات والأفلام التي نالت شهرة كبيرة وصنعت الاسم التجاري لعبد الرحمن الأبنودي.

وعلى مستوى التجربة الشعرية، صدر لعبد الرحمن الأبنودي دواوين عدة كان لها تأثير كبير في حركة شعر العامية المصرية، ولعل أبرز هذه الدواوين ما يلي:

  • الأرض والعيال عام 1964
  • الزحمة عام 1967
  • عماليات عام 1968
  • جوابات حراجي القط عام 1969
  • الفصول عام 1970
  • أحمد سماعين عام 1972
  • أنا والناس عام 1973
  • بعد التحية والسلام عام 1975
  • وجوه على الشط عام 1975
  • صمت الجرس عام 1975
  • المشروع والممنوع عام 1979
  • المد والجزر عام 1981
  • الأحزان العادية عام 1981
  • الموت على الأسفلت عام 1988
  • الاستعمار العربي عام 1991

صدر لعبد الرحمن الأبنودي عدد من الدواوين المؤثرة في حركة الشعر العامي كما جمع السيرة الهلالية

مقتطفات من أشعار عبد الرحمن الأبنودي

من قصيدة «خايف أموت»

خرج الشتاء وهلت روايح الصيف
والسجن دلوقتي يرد الكيف
مانتيش غريبة يا بلدي ومانيش ضيف

لو كنت بتفهمي الأصول
لتوقفي سير الشموس
وتعطلي الفصول
وتنشفي النيل في الضفاف السود
وتدودي العنقود
وتطرشي الرغيف

ما عدتي ممتعة
وأنتِ في ناب الغول
بتندغي الذلّة
وتجتري الخمول
وتئني تحت الحمول
وتزيّفي في القول

وبأي صورة
ما عادش شكلك ظريف

من قصيدة «الأحزان العادية»

مفاجأة هبطت على الميدان من كل جهات المدن الخارصة الوف شبان
زاحفين يسألوا عن موت الفجر استنوا الفجر وراه الفجر
إن القتل يكف إن القبضة تخف
ولذلك خرجوا يطالبوا بالقبض على القبضة وتقديم الكف
الدم قلب الميدان وعدل
وكأنه دن نحاس مصهور
أنا عندي فكرة عن المدن اللي يكرهها النور
والقبر اللي بات مش مسرور
وعندي فكرة عن العار وميلاد النار
والسجن في قلبي مش على رسمه سور
قلت له لا يا بيه أنا آسف

من قصيدة «قمر يافا»

لسه ما شبعش طوافة يا اللي بتطوف من سنين
لسه ما كرهت الليالي لسه مشبعتش مشاهدة يا قمر حالك كحالي
ضيعونا بالمعاهدة
يا قمر هدوا قبورنا واستباحوا اللي في صدورنا
دمروا قلوبنا ودورنا، حقنا أصبح خرافة
وضعت يا بلدي الأمين
يا قمر تصعد في يافا تترمي في دير ياسين

من قصيدة «يامنة»

والله وشبت يا عبد الرحمن
عجزت يا واد؟ مسرع؟ ميتي وكيف؟
عاد اللي يعجز في بلاده غير اللي يعجز ضيف
هلكوك النسوان؟
شفتك مرة في التلفزيون ومرة وروني صورتك في الجرنان
قلت كبر عبد الرحمن
أمال أنا على كده مت بقى لي 100 حول
والله خايفة يا وليدي القاعدة تطول
مات الشيخ محمود وماتت فاطمة أبو قنديل واتباع كرم أبو غبان
وأنا لسه حية وباين حأحيا كمان وكمان
عشت كتير، عشت لحد ما شفتك عجزت يا عبد الرحمن

جوائز عبد الرحمن الأبنودي

حصل عبد الرحمن الأبنودي عام 2001 على جائزة الدولة التقديرية ليكون أول شعراء العامية الذين يحصلون على هذه الجائزة، قبل أن يحصل عام 2014 على جائزة محمود درويش للإبداع العربي.

وقد قضى عبد الرحمن الأبنودي سنواته الأخيرة في محافظة الإسماعيلية، إذ كان يمتلك منزلًا ريفيًّا يستقبل فيه أصدقاءه من الكُتَّاب والمثقفين، وكان يتابع الشأن الوطني من بعيد، وأحيانًا ما كان يعلِّق على التطورات السياسية دون مشاركة حقيقية في المشهد الأدبي.

توفي الشاعر عبد الرحمن الأبنودي يوم 21 إبريل عام 2015 بعد مسيرة طويلة مع الإبداع

وفاة عبد الرحمن الأبنودي

توفي يوم 21 إبريل عام 2015 بعد مسيرة طويلة مع الإبداع.

وفي نهاية رحلتنا الموجزة، يبقى عبد الرحمن الأبنودي رمزًا خالدًا قامة شامخة في تاريخ الشعر العربي الحديث وعالم الشعر العامي المصري، استطاع بكلماته الصادقة والمعبرة أن يلامس قلوب البسطاء والنخبة على حد سواء، فقد أسهم بشكل كبير في إعادة تعريف الأدب الشعبي وتحويله إلى فن راقٍ يتعامل مع قضايا الوطن والثورة، رحل بجسده، لكن إرثه الشعري الخالد سيظل ينبض بالحياة في ذاكرة الأجيال. نرجو أن نكون قدَّمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة